فتح المغيث بشرح ألفية الحديث للعراقي

السخاوي - شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي

صفحة جزء

( 699 ) واعقد للاملا مجلسا فذاك من أرفع الاسماع والأخذ ثم إن      ( 700 ) تكثر جموع فاتخذ مستمليا
محصلا ذا يقظة مستويا      ( 701 ) بعال أو فقائما يتبع ما
يسمعه مبلغا أو مفهما      ( 702 ) واستحسنوا البدء بقارئ تلا
وبعده استنصت ثم بسملا      ( 703 ) فالحمد فالصلاة ثم أقبل
يقول من أو ما ذكرت وابتهل      ( 704 ) له وصلى وترضى رافعا
والشيخ ترجم الشيوخ ودعا      ( 705 ) وذكر معروف بشيء من لقب
كغندر أو وصف نقص أو نسب      ( 706 ) لأمه فجائز ما لم يكن
يكرهه كابن علية فصن      (707 ) وارو في الإملا عن شيوخ قدم
أولاهم وانتقه وأفهم [ ص: 248 ]      ( 708 ) ما فيه من فائدة ولا تزد
عن كل شيخ فوق متن واعتمد      ( 709 ) عالي إسناد قصير متن
واجتنب المشكل خوف الفتن      ( 710 ) واستحسن الإنشاد في الأواخر
بعد الحكايات مع النوادر      ( 711 ) وإن يخرج للرواة متقن
مجالس الإملاء فهو حسن      ( 712 ) وليس بالإملاء حين يكمل
غنى عن العرض لزيغ يحصل



[ استحباب عقد مجلس الإملاء ] :

( واعقد ) إن كنت محدثا عارفا ( للاملا ) بالنقل وبالقصر للضرورة ، في الحديث ( مجلسا ) من كتابك أو حفظك ، والحفظ أشرف ، لا سيما وقد اختلف في التحديث من الكتاب كما تقدم بسطه في صفة رواية الحديث .

( فذاك ) أي : الإملاء ( من أرفع ) وجوه ( الاسماع ) بالنقل أيضا ، من المحدث ، ( والأخذ ) أي : التحمل للطالب ، بل هو أرفعها عند الأكثرين كما بينته مع تعليله في أول أقسام التحمل ، ولذا قال الحافظ السلفي فيما رويناه عنه :


واظب على كتب الأمالي جاهدا     من ألسن الحفاظ والفضلاء
فأجل أنواع العلوم بأسرها     ما يكتب الإنسان في الإملاء

قال الخطيب في ( جامعه ) : إنه أعلى مراتب الراوين ، ومن أحسن مذاهب المحدثين مع ما فيه من خصال الدين والاقتداء بسنن السلف الصالحين . انتهى .

ومن فوائده اعتناء الراوي بطرق الحديث وشواهده ومتابعه وعاضده بحيث بها يتقوى ، ويثبت لأجلها حكمه بالصحة أو غيرها ، ولا يتروى ، ويرتب عليها إظهار الخفي من العلل ، ويهذب اللفظ من الخطأ والزلل .

ويتضح ما لعله يكون غامضا في بعض الروايات ، ويفصح بتعيين ما أبهم أو أهمل أو أدرج ، فيصير من الجليات ، وحرصه على ضبط غريب المتن والسند ، وفحصه عن المعاني التي [ ص: 249 ] فيها نشاط النفس بأتم مستند ، وبعد السماع فيها عن الخطأ والتصحيف الذي قل أن يعرى عنه لبيب أو حصيف .

وزيادة التفهم والتفهيم لكل من حضر من أجل تكرر المراجعة في تضاعيف الإملاء والكتابة والمقابلة على الوجه المعتبر ، وحوز فضيلتي التبليغ والكتابة ، والفوز بغير ذلك من الفوائد المستطابة ، كما قرره الرافعي وبينه ونشره وعينه .

يقال : أمليت الكتاب إملاء وأمللت إملالا . جاء القرآن بهما جميعا قال تعالى : فليملل وليه فهذا من " أمل " ، وقال تعالى : فهي تملى عليه فهذا من " أملى " .

فيجوز أن تكون اللغتان بمعنى واحد ، ويجوز أن يكون أصل " أمليت " أمللت ، فاستثقل الجمع بين حرفين في لفظ واحد ، فأبدلوا من أحدهما ياء كما قالوا : تظننت . يعني : حيث أبدلوا من إحدى النونين ياء فقالوا : التظني . وهو إعمال الظن ، وكأنه من قولهم : أملى الله له . أي أطال عمره .

فمعنى : أمليت الكتاب على فلان : أطلت قراءتي عليه . قاله النحاس في ( صناعة الكتاب ) وهو طريقة مسلوكة في القديم والحديث ، لا يقوم به إلا أهل المعرفة .

وقد أملى النبي صلى الله عليه وسلم الكتب إلى الملوك وفي المصالحة يوم الحديبية وفي غير ذلك ، وأملى واثلة رضي الله عنه - كما رواه معروف الخياط - الأحاديث على [ ص: 250 ] الناس وهم يكتبونها عنه ، وممن أملى ; شعبة ، وسعيد بن أبي عروبة ، وهمام ، ووكيع ، وحماد بن سلمة ، ومالك ، وابن وهب ، وأبو أسامة ، وابن علية ، ويزيد بن هارون ، وعاصم بن علي ، وأبو عاصم ، وعمرو بن مرزوق ، والبخاري ، وأبو مسلم الكجي ، وجعفر الفريابي ، والهجيمي ، في خلق يطول سردهم ، ويتعسر عدهم ، من المتقدمين والمتأخرين كابن بشران ، والخطيب ، والسلفي ، وابن عساكر ، والرافعي ، وابن الصلاح ، والمزي ، والناظم .

وكان الإملاء انقطع قبله دهرا ، وحاوله التاج السبكي ، ثم ولده الولي العراقي ، على إحيائه ، فكان يتعلل برغبة الناس عنه ، وعدم موقعه منهم ، وقلة الاعتناء به ، إلى أن شرح الله صدره لذلك ، واتفق شروعه فيه بالمدينة الشريفة ، ثم عقده بالقاهرة في عدة مدارس .

وكذا أملى يسيرا في زمنه السراج بن الملقن ، ولم يرتض شيخنا صنيعه فيه ، وبعدهما الولي العراقي بالحرمين وعدة مدارس من القاهرة ، وشيخنا بالشام وحلب ومصر وبالقاهرة في عدة مدارس ، واقتديت بهم في ذلك بإشارة بعض محققي شيوخي ، فأمليت بمكة وبعدة أماكن من القاهرة ، وبلغ عدة ما أمليته من المجالس إلى الآن نحو الستمائة ، والأعمال بالنيات .

واختلف صنيعهم في تعيين يوم لذلك ، وكذا في تعدد يوم من الأسبوع ، [ ص: 251 ] وعين شيخنا لذلك يوم الثلاثاء خاصة ، وقبل ذلك يوم الجمعة بعد صلاتها ، وهو المستحب ، وكذا يستحب أن يكون في المسجد ; لشرفهما ، فقد قال كعب : ( إن الله تعالى اختار الأيام فجعل منهن الجمعة ، والبقاع فجعل منهن المساجد ) .

وقال علي : ( المساجد مجالس الأنبياء ، وحرز من الشيطان ) .

وقال أبو إدريس الخولاني : ( المساجد مجالس الكرام ) .

ويروى في المرفوع : ( المسجد بيت كل تقي ) . وكتب عمر بن عبد العزيز بأمر أهل العلم بنشره في المساجد فإن السنة كانت قد أميتت .

واجلس مستقبل القبلة مستعملا ما تقدم قريبا في نفسك ومع أصحابك ، وعند الابتداء والانتهاء ، وفي خفة المجلس ، فلا فرق .

التالي السابق


الخدمات العلمية