فتح المغيث بشرح ألفية الحديث للعراقي

السخاوي - شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي

صفحة جزء
[ آداب مجلس الإملاء والاستملاء ] :

( واستحسنوا ) أي أهل الحديث ممن تصدى للإملاء ( البدء ) في مجالسهم ( بـ ) قراءة ( قارئ ) هو المستملي كما للخطيب وابن السمعاني ، أو المملي ، كما للرافعي أو غيرهما ، ( تلا ) شيئا من القرآن ، والاختلاف في التعيين لا ينافي اجتماعهم على القراءة .

وعين الرافعي والخطيب أن يكون المتلو سورة ، زاد الرافعي : خفيفة . قال : ويخفيها في نفسه . كأنه لكونه أقرب إلى الإخلاص . واختار شيخنا تبعا لشيخه سورة " الأعلى " لذلك . وكأنه من أجل قوله فيها : سنقرئك فلا تنسى وقوله : فذكر . وقوله : صحف إبراهيم وموسى .

والأصل في قراءة السورة ما رواه الخطيب وغيره من حديث أبي نضرة قال : ( كان الصحابة إذا اجتمعوا تذاكروا العلم ، وقرءوا سورة ) .

بل أخرجه أبو نعيم في ( رياضة المتعلمين ) من حديث أبي نضرة ، عن أبي سعيد قال : ( كان أصحاب [ ص: 255 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قعدوا يتحدثون في الفقه يأمرون أن يقرأ رجل سورة ) .

( وبعده ) أي : المتلو ، ( استنصت ) المملي - كما قاله ابن السمعاني ، أو المستملي كما قاله الخطيب وابن الصلاح واستحسنه ابن السمعاني - أهل المجلس حيث احتيج لذلك ، اقتداء بقوله صلى الله عليه وسلم لجرير في حجة الوداع : ( استنصت الناس ) . متفق عليه .

( ثم ) بعد إنصاتهم ( بسملا ) المستملي أي قال : بسم الله الرحمن الرحيم . وهذا أول شيء يقوله ، ( فـ ) يليه ( الحمد ) لله رب العالمين ، ( فـ ) يليه ( الصلاة ) مع السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، اقتداء بقوله صلى الله عليه وسلم : ( كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله ) وفي رواية ( بحمد الله ) .

وفي رواية : ( والصلاة علي ) - ( فهو أقطع ) . فإذا جمع بين الألفاظ فقد استعمل الروايات وحاز الأكمل في فضيلتها .

( ثم ) بعد ذلك أقبل المستملي على المملي ( يقول ) له : ( من ) ذكرت من الشيوخ ( أو ما ذكرت ) من الأحاديث . قال الرافعي : ولا يقول : من حدثك ؟ أو من سمعت ؟ فإنه لا يدري بأي لفظة يبتدئ .

لكن قال ابن دقيق العيد في ( الاقتراح ) : الأحسن أن يقول : من حدثك ؟ أو من أخبرك ؟ إن لم يقدم الشيخ ذكر أحد ، إلا أن يكون الأول عادة للسلف مستمرة فالاتباع أولى . وكذا قال ابن السمعاني : يقول : من ذكرت ؟ أو من حدثك ؟ .

( وابتهل ) أي : ودعا المستملي ( له ) أي : للمملي مع ذلك بقوله رافعا لصوته : رحمك الله ، أو أصلحك الله ، أو غفر الله لك .

قال ابن السمعاني : ويقول : رضي الله عن الشيخ وعن والديه وعن جميع المسلمين . يعني إن لم يكن في أبويه ما [ ص: 256 ] يمنع ذلك ، كما اتفق لشيخنا حيث قال لشيخه البرهان إبراهيم بن داود الآمدي : ورضي الله عنكم وعن والديكم . فقال له البرهان : لا تقل هكذا . يشير إلى أنهما لم يكونا مسلمين .

قال ابن السمعاني : فلو قال : رضي الله عن سيدنا . جاز إذا عرف المملي قدر نفسه . يعني لقوله صلى الله عليه وسلم : ( قوموا إلى سيدكم ) . قال : وكره بعضهم ذلك . يعني لما فيه من الإطراء .

قال : وقد كنت أقرأ على أبي القاسم علي بن الحسين العلوي ، وكان شيخا صالحا من أهل بيت ، فقلت : رضي الله عن الشيخ الإمام فلان . فنهاني عنه وقال : قل : ورضي الله عنك وعن والديك . وحرم شيبتك على النار . فقلتها وهو يبكي .

وجرى ذلك لآخر فقال : لا تعظمني عند ذكر ربي . قال يحيى بن أكثم : نلت القضا وقضا القضاة والوزارة وكذا وكذا ، فما سررت بشيء مثل قول المستملي : من ذكرت رحمك الله .

ونحوه قول المأمون : ما أشتهي من لذات الدنيا إلا أن يجتمع أصحاب الحديث عندي ، ويجيء المستملي فيقول : من ذكرت أصلحك الله . وكذا روي عن محمد بن سلام الجمحي قال : قيل للمنصور : هل بقي من لذات الدنيا شيء لم تنله ؟ قال : بقيت خصلة ; أن أقعد في مصطبة وحولي أصحاب الحديث ، ويقول المستملي : من ذكرت رحمك الله . قال : فغدا عليه الندماء وأبناء الوزراء بالمحابر والدفاتر فقال : لستم هم ، إنما هم الدنسة ثيابهم ، المتشققة أرجلهم ، الطويلة شعورهم . يرد الآفاق ونقلة الحديث . [ ص: 257 ] .

قال الخطيب : ( و ) إذا انتهى . أي المستملي تبعا للمملي إلى ذكر النبي صلى الله عليه وسلم من الإسناد ( صلى ) يعني وسلم عليه ، وفعل ذلك في كل حديث مر فيه ذكر النبي صلى الله عليه وسلم استحبابا .

( و ) كذا إذا انتهى إلى ذكر أحد من الصحابة رضي الله عنهم ( ترضى ) عنه بقوله : رضي الله عنه ، أو رضوان الله عليه ، حال كونه ( رافعا ) صوته بذلك كله .

زاد غيره : فإن كان ذاك الصحابي من أبناء الصحابة أيضا كابن عباس وابن عمر قال : رضي الله عنهما . وإن كان أبوه وجده صحابيين . وذكرهما كعائشة قال : رضي الله عنهم . وبقوله : ( وذكرهما ) . يتأيد من كان ينكر على القارئ من أئمة شيوخنا إذا مر به عنعائشة رضي الله عنها حيث يقول : وعن أبيها وجدها وأخيها . لما فيه من التطويل ، لا سيما إن أوهم بذلك أن في المجلس بعض الرافضة مما الواقع خلافه .

وكذا يقع في كثير من الأصول القديمة حتى في " أحمد " و " أبي داود " عن علي عليه السلام . تاركا لذلك في أبي بكر وغيره ممن هو أفضل منه ، بل يقع ذلك في فاطمة الزهراء أيضا ، وعندي توقف في المقتضي للتخصيص بذلك مع احتمال وقوعه ممن بعد المصنفين ، ولكنه بعيد .

قال الخطيب : والأصل في ذلك - يعني الترضي - حديث جابر : كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فالتفت إلى أبي بكر فقال : ( يا أبا بكر ، أعطاك الله الرضوان الأكبر ) .

وحديث أنس : كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقام غلام فأخذ نعله ، فناوله إياها ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أردت رضا ربك ، رضي الله عنك ) قال : [ ص: 258 ] فاستشهد .

وكذا يستحب أيضا الترضي والترحم على الأئمة ، فقد قال القارئ للربيع بن سليمان يوما : حدثكم الشافعي ؟ ولم يقل : رضي الله عنه . فقال الربيع : ولا حرف حتى يقال : رضي الله عنه .

قال الخطيب : والصلاة والرضوان والرحمة من الله بمعنى واحد إلا أنها وإن كانت كذلك ، فإنا نستحب أن يقال للصحابي : رضي الله عنه . وللنبي : صلى الله عليه وسلم . تشريفا له وتعظيما .

التالي السابق


الخدمات العلمية