فتح المغيث بشرح ألفية الحديث للعراقي

السخاوي - شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي

صفحة جزء
[ اختيار الشيوخ والرحلة للحديث ] :

( وابدأ بـ ) أخذ ( عوالي ) شيوخ ( مصركا ) ، ولا تنفك عن ملازمتهم والعكوف عليهم حتى تستوفيها ، ( و ) ابدأ منها بـ ( ما يهم ) بضم أوله ، من ذلك وغيره ; كالمروي الذي انفرد به بعضهم ، فمن شغل نفسه - كما قال أبو عبيدة - بغير المهم أضر بالمهم .

وإن استوى جماعة في السند وأردت الاقتصار على أحدهم فالأولى أن تتخير المشهور منهم بالطلب ، والمشار إليه من بينهم بالإتقان فيه والمعرفة له ، فإن تساووا في ذلك أيضا فتخير الأشراف وذوي الأنساب منهم ; لحديث : ( قدموا قريشا ولا [ ص: 276 ] تقدموها ) ، فإن تساووا في ذلك فالأسن ; لحديث : ( كبر كبر ) .

( ثم ) بعد استيفائك أخذ ما ببلدك من المروي ، وتمهرك في المعرفة به ، واستيعابك باقي الشيوخ ممن قنعت عما عندهم من المروي بغيرهم بالأخذ عنهم لما قل ، بحيث لا يفوتك من كل من مرويها وشيوخها أحد ، وأخذ الفن عن الحافظ العارف به منهم ، ( شد الرحلا ) ، أو اركب البحر حيث غلبت السلامة فيه ، أو امش حيث استطعت بلا مزيد مشقة ، ( لغيره ) ; أي : لغير مصرك من البلدان والقرى ; لتجمع بين الفائدتين من علو الإسنادين ، وعلم الطائفتين .

وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم قال : ( أعلم الناس من يجمع علم الناس إلى علمه ، وكل صاحب علم غرثان ) .

وعن بعضهم قال : من قنع بما عنده لم يعرف سعة العلم . وعن ابن معين قال : أربعة لا تؤنس منهم رشدا ، وذكر منهم : رجل يكتب في بلده ولا يرحل . وسأل عبد الله بن أحمد أباه : هل ترى لطالب العلم أن يلزم رجلا عنده علم فيكتب عنه ، أو يرحل إلى المواضع التي فيها العلم فيسمع فيها ؟ قال : يرحل فيكتب عن الكوفيين والبصريين وأهل المدينة ومكة ، يشام الناس يسمع منهم .

وقيل لأحمد أيضا : أيرحل الرجل في طلب العلم ؟ فقال : بلى والله شديدا ، لقد كان علقمة [ ص: 277 ] والأسود يبلغهما الحديث عن عمر فلا يقنعهما حتى يخرجا إليه فيسمعانه منه . وهذا على وجه الاستحباب ، وهو متأكد إذا علمت أن ثم من المروي ما ليس ببلدك مطلقا أو مقيدا بالعلو ونحوه .

بل قد يجب إذا كان في واجب الأحكام وشرائع الإسلام ، ولم يتم التوصل إليه إلا به ، فالوسائل تابعة للمقاصد كما صرح به القاضي عياض في ذلك ، وفي الاشتغال بعلوم هذا الشأن . ويروى أنه صلى الله عليه وسلم قال : ( اطلبوا العلم ولو بالصين ; فإن طلب العلم فريضة على كل مسلم ) . وعن أبي مطيع معاوية بن يحيى قال : أوحى الله عز وجل إلى داود عليه السلام أن اتخذ نعلين من حديد ، وعصى من حديد ، واطلب العلم حتى تنكسر العصى وتنخرق النعلان .

وقال الفضل بن غانم في بعض الأحاديث : والله لو رحلتم في طلبه إلى البحرين لكان قليلا . وقصة موسى عليه السلام في لقاء الخضر ، بل قوله تعالى : فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون [ ص: 278 ] من شواهده .

وكفى بقوله صلى الله عليه وسلم : ( من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة ) ترغيبا في ذلك . وعن ابن عباس في قوله : السائحون ، قال : هم طلبة العلم . وقال إبراهيم بن أدهم : إن الله يدفع عن هذه الأمة البلاء برحلة أصحاب الحديث .

وقال زكريا بن عدي : رأيت ابن المبارك في النوم ، فقلت له : ما فعل الله بك ؟ قال : غفر لي برحلتي في الحديث . إلى غير هذا بما أودعه الخطيب في جزء له في ذلك قد قرأته .

ورحل جابر بن عبد الله إلى عبد الله بن أنيس رضي الله عنهما مسيرة شهر في حديث واحد ، وكذا رحل غيره في حديث واحد . وقال أبو قلابة : لقد أقمت بالمدينة ثلاثة أيام ، ما لي حاجة إلا رجل عنده حديث يقدم فأسمعه منه .

وقال [ ص: 279 ] الشعبي في مسألة : كان الرجل يرحل فيما دونها إلى المدينة . وقال ابن مسعود : لو أعلم أحدا أعلم بكتاب الله مني لرحلت إليه . وقال أبو العالية : كنا نسمع عن الصحابة فلا نرضى حتى خرجنا إليهم فسمعنا منهم .

ولم يزل السلف والخلف من الأئمة يعتنون بالرحلة . والقول الذي حكاه الرامهرمزي في ( الفاصل ) عن بعض الجهلة في عدم جوازها شاذ مهجور .

وقد اقتفيت ولله الحمد أثرهم في ذلك بعد موت من كانت الرحلة إليه من سائر الأقطار كالواجبة ، وهو شيخنا رحمه الله ، وأدركت في الرحلة بقايا من المعتبرين ، وما بقي في ذلك من سنين إلا مجرد الاسم بيقين .

وحيث وجد ورحلت فبادر فيها للقاء من يخشى فوته ، ولا تتوان فتندم كما اتفق لغير واحد من الحفاظ في موت بعض من قصدوه بالرحلة بعد الوصول إلى بلده ، واقتد بالحافظ السلفي الأصفهاني ; فإنه ساعة وصوله إلى بغداد لم يكن له شغل إلا المضي لأبي الخطاب ابن البطر ، هذا مع علته بدماميل كانت في مقعدته من الركوب ، بحيث صار يقرأ عليه وهو متكئ ; للخوف من فقده ; لكونه كان المرحول إليه من الآفاق في الإسناد .

ولما رحل شيخنا إلى البلاد الشامية قصد الابتداء ببيت المقدس ; ليأخذ عن ابن الحافظ العلائي سنن ابن ماجه ; لكونه سمعه على الحجار ، فبلغه - وهو بالرملة - موته ، فعرج عنه إلى دمشق ; لكونها [ ص: 280 ] بعد فواته أهم .

وقد أورد الإمام أحمد في مسنده عن عبد بن حميد حديثا ، ثم قال : قال عبد : قال محمد بن الفضل : سألت يحيى بن معين عن هذا الحديث أول ما جلس إلي ، فقال : ثنا به حماد بن سلمة ، فقال : لو كان من كتابك ، فقمت لأخرج كتابي ، فقبض على ثوبي ثم قال : أمله علي ; فإني أخاف أن لا ألقاك ، قال : فأمليته عليه ، ثم أخرجت كتابي فقرأته عليه .

واحذر من المبالغة في المبادرة بحيث ترتكب ما لا يجوز ، فربما يكون ذلك سببا للحرمان ، فقد حكي أن بعضهم وافى البصرة ليسمع من شعبة ويكثر عنه ، فصادف المجلس قد انقضى ، وانصرف شعبة إلى منزله ، فبادر إلى المجيء إليه فوجد الباب مفتوحا ، فحمله الشره على أن دخل بغير استئذان ، فرآه جالسا على البالوعة يبول ، فقال له : السلام عليكم ، رجل غريب قدمت من بلد بعيد تحدثني بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم ، فاستعظم شعبة هذا ، وقال : يا هذا دخلت منزلي بغير إذني ، وتكلمني وأنا على مثل هذا الحال ، تأخر عني حتى أصلح من شأني ، فلم يفعل واستمر في الإلحاح ، وشعبة ممسك ذكره بيده ليستبرئ ، فلما أكثر قال له : اكتب : ثنا منصور بن المعتمر ، عن ربعي بن حراش ، عن أبي مسعود ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى : إذا لم تستح فاصنع ما شئت ) ، ثم قال : [ ص: 281 ] والله لا أحدثك بغيره ، ولا حدثت قوما تكون فيهم ، انتهى .

واسلك ما سلكته في بلدك من الابتداء بالأهم فالأهم ، ولا تكن كمن رحل من الشام إلى مصر فقرأ بها على مسند الوقت العز بن الفرات الذي انفرد بما لا يشاركه فيه في سائر الآفاق غيره ( الأدب المفرد ) للبخاري بإجازته من العز بن جماعة لسماعه من أبيه البدر ، مع كون في مسندي القاهرة من سمعه على من سمعه على البدر ، بل وكذا في بلده التي رحل منها .

ولا يتشاغل في الغربة إلا بما تحق الرحلة لأجله ، فشهوة السماع - كما قال الخطيب - لا تنتهي ، والنهمة من الطلب لا تنقضي ، والعلم كالبحار المتعذر كيلها ، والمعادن التي لا ينقطع نيلها .

كل ذلك مع مصاحبتك التحري في الضبط ، فلا تقلد إلا الثقات ، ( ولا تساهل حملا ) ; أي : ولا تتساهل في الحمل والسماع بحيث تخل بما عليك في ذلك ، فالمتساهل مردود كما تقدم في الفصل الثاني عشر من معرفة من تقبل روايته ومن ترد .

التالي السابق


الخدمات العلمية