فتح المغيث بشرح ألفية الحديث للعراقي

السخاوي - شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي

صفحة جزء
[ حفظ الكتب والمذاكرة بعده ] :

( واحفظه ) ; أي : الحديث ، ( بالتدريج ) قليلا قليلا مع الأيام والليالي ، فذلك أحرى بأن تمتع بمحفوظك ، أو أدعى لعدم نسيانه ، ولا تنشره في كثرة كمية المحفوظ مع قلة مرات الدرس وقلة الزمان الذي هو ظرف المحفوظ . وكذا لا تأخذ نفسك بما لا طاقة لك به ، بل اقتصر على اليسير الذي تضبطه وتحكم حفظه وإتقانه ; لقوله صلى الله عليه وسلم : ( خذوا من الأعمال ما تطيقون ) .

ولذا قال الثوري : كنت آتي الأعمش ومنصورا فأسمع أربعة [ ص: 315 ] أحاديث خمسة ، ثم أنصرف كراهية أن تكثر وتفلت . رويناه في ( الجامع ) للخطيب . وعنده عن شعبة وابن علية ومعمر نحوه .

وعن الزهري قال : من طلب العلم جملة فاته جملة ، وإنما يدرك العلم حديث وحديثان . وعنه أيضا قال : إن هذا العلم إن أخذته بالمكاثرة له غلبك ، ولكن خذه مع الأيام والليالي أخذا رفيقا تظفر به .

( ثم ) بعد حفظك له ( ذاكر به ) الطلبة ونحوهم ، فإن لم تجد من تذاكره فذاكر مع نفسك ، وكرره على قلبك ، فالمذاكرة تعينك على ثبوت المحفوظ ، وهي من أقوى أسباب الانتفاع به .

والأصل فيها معارضة جبريل مع النبي صلى الله عليه وسلم القرآن في كل رمضان ، ويروى عن أنس قال : ( كنا نكون عند النبي صلى الله عليه وسلم فنسمع منه الحديث ، فإذا قمنا تذاكرناه فيما بيننا حتى نحفظه ) . وفي حديث مرفوع : ( أن المؤمن نساء إذا ذكر ذكر ) .

وقال علي : ( تذاكروا هذا الحديث ، إن لا تفعلوا يدرس ) ، وقال ابن مسعود : ( تذاكروا الحديث ; فإن حياته مذاكرته ) ، ونحوه عن أبي سعيد [ ص: 316 ] الخدري وابن عباس . وقال الخليل بن أحمد : ذاكر بعلمك تذكر ما عندك ، وتستفيد ما ليس عندك . وقال عبد الله بن المعتز : من أكثر مذاكرة العلماء لم ينس ما علم ، واستفاد ما لم يعلم .

وقال إبراهيم النخعي : من سره أن يحفظ الحديث فليحدث به ، ولو أن يحدث به من لا يشتهيه . وقد كان إسماعيل بن رجاء يجمع صبيان الكتاب ، ويحدثهم كي لا ينسى حديثه . ونحوه ما اعتذر به ابن المجدي عن القاياتي في إقرائه مشكل الكتب للمبتدئين ، أن ذلك لئلا ينفك إدمانه في تقريرها . وقيل : حب التذاكر أنفع من حب البلاذر . وقيل أيضا : حفظ سطرين خير من كتابة وقرين ، وخير منهما مذاكرة اثنين .

ولبعضهم :


من حاز العلم وذاكره صلحت دنياه وآخرته     فأدم للعلم مذاكرة
فحياة العلم مذاكرته

[ ص: 317 ] ( و ) لا تتساهلن في المذاكرة ، بل ( الاتقان ) بالنصب مفعول مقدم ، فيها وفي شأنك كله ( اصحبن ) بنون التأكيد الخفيفة ، فالحفظ - كما قال ابن مهدي - الإتقان .

التالي السابق


الخدمات العلمية