فتح المغيث بشرح ألفية الحديث للعراقي

السخاوي - شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي

صفحة جزء
[ معنى التأليف وفوائده ] :

( وبادر إذا تأهلت ) واستعددت ( إلى التأليف ) الذي هو أعم من التخريج والتصنيف والانتقاء ; إذ التأليف مطلق الضم ، والتخريج إخراج المحدث الأحاديث من بطون الأجزاء والمشيخات والكتب ونحوها ، وسياقها من مرويات نفسه أو بعض شيوخه أو أقرانه أو نحو ذلك ، والكلام عليها وعزوها لمن رواها من أصحاب الكتب والدواوين مع بيان البدل والموافقة ونحوهما مما سيأتي تعريفه ، وقد يتوسع في إطلاقه على مجرد الإخراج والعزو .

والتصنيف جعل كل صنف على حدة ، والانتقاء التقاط ما يحتاج إليه من الكتب والمسانيد ونحوها مع استعمال كل منها عرفا مكان الآخر ، فباشتغالك بالتأليف ( تمهر ) - بالجزم مع ما بعده جوابا للشرط المنوي في الأمر - في الصناعة ، وتقف على غوامضها ، وتستبن لك الخفي من فوائدها ، ( وتذكر ) بذلك بين العلماء والمحصلين إلى آخر الدهر ، ويرجى لك بالنية الصادقة الرقي إلى أوج المنافع العظيمة والدرجات العلية الجسيمة .

وقد قال الخطيب ، كما رويناه في جامعه : قلما يتمهر في علم الحديث ، ويقف على غوامضه ، ويستبين الخفي من فوائده إلا من جمع متفرقه ، وألف [ ص: 318 ] مشتته ، وضم بعضه إلى بعض ، واشتغل بتصنيف أبوابه وترتيب أصنافه ; فإن ذلك الفعل مما يقوي النفس ، ويثبت الحفظ ، ويذكي القلب ، ويشحذ الطبع ، ويبسط اللسان ، ويجيد البنان ، ويكشف المشتبه ، ويوضح الملتبس ، ويكسب أيضا جميل الذكر ، وتخليده إلى آخر الدهر كما قال الشاعر :


يموت قوم فيحيي العلم ذكرهم والجهل يلحق أحياء بأموات

انتهى .

ونحوه قول الحسن بن علي البصري :


العلم أفضل شيء أنت كاسبه     فكن له طالبا ما عشت مكتسبا
والجاهل الحي ميت حين تنسبه والعالم     الميت حي كلما نسبا

وما أحسن قول التاج السبكي : العالم وإن امتد باعه ، واشتد في ميادين الجدال دفاعه ، واستد ساعده حتى خرق به كل سد سد بابه ، وأحكم امتناعه ، فنفعه قاصر على مدة حياته ، ما لم يصنف كتابا يخلد بعده ، أو يورق علما ينقله عنه تلميذ إذا وجد الناس فقده ، أو تهتدي به فئة مات عنها وقد ألبسها به الرشاد برده ، ولعمري إن التصنيف لأرفعها مكانا ; لأنه أطولها زمانا ، وأدومها إذا مات أحيانا .

ولذلك لا يخلو لنا وقت يمر بنا خاليا عن التصنيف ، ولا يخلو لنا زمن إلا وقد تقلد عقده جواهر التأليف ، ولا يجلو علينا الدهر ساعة فراغ إلا ونعمل فيها القلم بالترتيب والترصيف .

قال الخطيب : وينبغي أن يفرغ المصنف للتصنيف قلبه ، ويجمع له همه ، ويصرف إليه شغله ، ويقطع به وقته ، وقد كان بعض شيوخنا يقول : من أراد الفائدة فليكسر قلم النسخ ، وليأخذ قلم التخريج .

وحدثني محمد بن علي بن عبد الله [ ص: 319 ] الصوري قال : رأيت أبا محمد عبد الغني بن سعيد الحافظ في المنام في سنة إحدى عشرة وأربعمائة ، فقال لي : يا أبا عبد الله ، خرج وصنف قبل أن يحال بينك وبينه ، هذا أنا تراني قد حيل بيني وبين ذلك ، ثم انتبهت .

وساق قبل يسير عن عبد الله بن المعتز أنه قال : علم الإنسان ولده المخلد . وعن أبي الفتح البستي الشاعر أنه أنشد من نظمه :


يقولون : ذكر المرء يبقى بنسله     وليس له ذكر إذا لم يكن نسل فقلت لهم : نسلي بدائع حكمتي
فمن سره نسل فإنا بذا نسلوا

ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم : ( إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية