فتح المغيث بشرح ألفية الحديث للعراقي

السخاوي - شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي

صفحة جزء
[ مسألة الاحتجاج بالحسن ] إذا علم هذا ، فقد قال الخطابي متصلا بتعريفه السابق ; لكونه متعلقا به في الجملة ، لا أنه تتمته : وعليه - أي : الحسن - مدار أكثر الحديث - أي : بالنظر لتعدد الطرق - فإن غالبها لا يبلغ رتبة الصحيح المتفق عليه .

[ ص: 93 ] ونحوه قول البغوي : أكثر الأحكام ثبوتها بطريق حسن ، ثم قال الخطابي : ( والفقهاء كلهم ) وهو وإن عبر بعامتهم ، فمراده كلهم ( يستعمله ) أي : في الاحتجاج والعمل في الأحكام وغيرها ( والعلماء ) من المحدثين والأصوليين ( الجل ) أي : المعظم ( منهم يقبله ) فيهما .

وممن خالف في ذلك من أئمة الحديث أبو حاتم الرازي ; فإنه سئل عن حديث فحسنه ، فقيل له : أتحتج به ؟ فقال : إنه حسن ، فأعيد السؤال مرارا ، وهو لا يزيد على قوله : إنه حسن .

ونحوه أنه سئل عن عبد ربه بن سعيد ، فقال : إنه لا بأس به ، فقيل له : أتحتج بحديثه ؟ فقال : هو حسن الحديث ، ثم قال : الحجة سفيان وشعبة . وهذا يقتضي عدم الاحتجاج به .

والمعتمد الأول ( وهو ) أي الحسن لذاته عند الجمهور ، وكذا لغيره كما اقتضاه النظم ( بأقسام الصحيح ملحق حجية ) أي : في الاحتجاج ( وإن يكن ) كما أشار إليه ابن الصلاح ( لا يلحق ) الصحيح في الرتبة : [ إما لضعف راويه ، أو انحطاط ضبطه ، بل المنحط لا ينكر مدرجه في الصحيح أنه دونه .

وكذا قال ابن الصلاح ; فهذا اختلاف إذن في العبارة دون المعنى ، ثم إن ما اقتضاه النظم يمكن التمسك له بظاهر قول ابن الجوزي متصلا بتعريفه ، ويصلح للعمل به وهو كذلك ، لكن فيما تكثر طرقه ] .

[ ص: 94 ] وقد قال النووي رحمه الله في بعض الأحاديث : وهذه وإن كانت أسانيد مفرداتها ضعيفة ، فمجموعها يقوي بعضه بعضا ، ويصير الحديث حسنا ويحتج به ، وسبقه البيهقي في تقوية الحديث بكثرة الطرق الضعيفة .

وظاهر كلام أبي الحسن بن القطان يرشد إليه ، فإنه قال : هذا القسم لا يحتج به كله ، بل يعمل به في فضائل الأعمال ، ويتوقف عن العمل به في الأحكام ، إلا إذا كثرت طرقه ، أو عضده اتصال عمل ، أو موافقة شاهد صحيح ، أو ظاهر القرآن . واستحسنه شيخنا .

وصرح في موضع آخر بأن الضعيف الذي ضعفه ناشئ عن سوء حفظه ، إذا كثرت طرقه ، ارتقى إلى مرتبة الحسن ، ولكنه متوقف في شمول الحسن المسمى بالصحيح عند من لا يفرق بينهما لهذا .

وكلام ابن دقيق العيد أيضا يشير إلى التوقف في إطلاق الاحتجاج بالحسن ، وذلك أنه قال في الاقتراح ، إن ههنا أوصافا يجب معها قبول الرواية ، إذا وجدت في الراوي ، فإما أن يكون هذا الحديث المسمى بالحسن مما قد وجدت فيه هذه الصفات على أقل الدرجات التي يجب معها القبول أو لا ، فإن وجدت فذلك صحيح ، وإن لم توجد فلا يجوز الاحتجاج به وإن سمي حسنا ، اللهم إلا أن يرد هذا إلى أمر اصطلاحي .

وهو أن يقال : إن الصفات التي يجب معها قبول الرواية لها مراتب ودرجات ، فأعلاها هو الصحيح ، وكذلك أوسطها ، وأدناها الحسن ، وحينئذ يرجع [ ص: 95 ] الأمر في ذلك إلى الاصطلاح ، ويكون الكل صحيحا في الحقيقة .

والأمر في الاصطلاح قريب ، لكن من أراد هذه الطريقة ، فعليه أن يعتبر ما سماه أهل الحديث حسنا ، وتحقق وجود الصفات التي يجب معها قبول الرواية في تلك الأحاديث .

قلت : قد وجد إطلاقه على المنكر ، قال ابن عدي في ترجمة سلام بن سليمان المدائني : حديثه منكر ، وعامته حسان ، إلا أنه لا يتابع عليه .

وقيل لشعبة : لأي شيء لا تروي عن عبد الملك بن أبي سليمان العرزمي ، وهو حسن الحديث ؟ فقال : من حسنه فررت .

وكأنهما أرادا المعنى اللغوي ، وهو حسن المتن ، وربما أطلق على الغريب ، قال إبراهيم النخعي : كانوا إذا اجتمعوا كرهوا أن يخرج الرجل حسان حديثه ، فقد قال ابن السمعاني : إنه عنى الغرائب .

ووجد للشافعي إطلاقه في المتفق على صحته ، ولابن المديني في الحسن لذاته ، وللبخاري في الحسن لغيره ، ونحوه - فيما يظهر - قول أبي حاتم الرازي : فلان مجهول ، والحديث الذي رواه حسن .

وقول إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني في الطلحي : إنه ضعيف الحديث مع حسنه ، على أنه يحتمل [ ص: 96 ] إرادتهما المعنى اللغوي أيضا .

وبالجملة فالترمذي هو الذي أكثر من التعبير بالحسن ، ونوه بذكره ; كما قاله ابن الصلاح ، ولكن حيث ثبت اختلاف صنيع الأئمة في إطلاقه ، فلا يسوغ إطلاق القول بالاحتجاج به ، بل لا بد من النظر في ذلك .

فما كان منه منطبقا على الحسن لذاته فهو حجة ، أو الحسن لغيره فيفصل بين ما تكثر طرقه فيحتج به ، وما لا فلا ، وهذه أمور جملية تدرك تفاصيلها بالمباشرة .

( فإن يقل ) حيث تقرر أن الحسن لا يشترط في ثاني قسميه ثقة رواته ، ولا اتصال سنده ، واكتفي في عاضده بكونه مثله مع أن كلا منهما بانفراده ضعيف لا تقوم به الحجة ، فكيف ( يحتج بالضعيف ) مع اشتراطهم أو جمهورهم الثقة في القبول ؟ ( فقل ) : إنه لا مانع منه ( إذا كان ) الحديث ( من الموصوف رواته ) واحد فأكثر ( بسوء حفظ ) أو اختلاط أو تدليس مع كونهم من أهل الصدق والديانة فذاك ( يجبر بكونه ) أي : المتن ( من غير وجه يذكر ) .

ويكون العاضد الذي لا ينحط عن الأصلي معه كافيا ، مع الخدش فيه بما تقدم قريبا من كلام النووي وغيره الظاهر في اشتراط التعدد الذي قد لا ينافيه ما سيجيء عن الشافعي في المرسل قريبا ; لاشتراطه ما ينجبر به التفرد ، وإنما انجبر ; لاكتسابه من الهيئة المجموعة قوة ، كما في أفراد المتواتر والصحيح لغيره الآتي قريبا .

وأيضا فالحكم على الطريق الأولى بالضعف إنما هو لأجل الاحتمال المستوي الطرفين في سيئ الحفظ مثلا ; هل ضبط أم لا ؟ فبالرواية الأخرى غلب على الظن أنه ضبط ، على ما تقرر كل ذلك قريبا عند تعريف الترمذي .

( وإن يكن ) ضعف الحديث ( لكذب في ) راويه ( أو شذا ) أي وشذوذ في روايته بأن خالف من [ ص: 97 ] هو أحفظ أو أكثر ( أو قوي الضعف ) بغيرهما بما يقتضي الرد .

( فلم يجبر ذا ) أي : الضعف بواحد من هذه الأسباب ولو كثرت طرقه ; كحديث : من حفظ على أمتي أربعين حديثا ، فقد نقل النووي اتفاق الحفاظ على ضعفه من كثرة طرقه ، ولكن بكثرة طرقه - القاصرة عن درجة الاعتبار ; بحيث لا يجبر بعضها ببعض - يرتقي عن مرتبة المردود المنكر الذي لا يجوز العمل به بحال ، إلى رتبة الضعيف الذي يجوز العمل به في الفضائل .

وربما تكون تلك الطرق الواهية بمنزلة الطريق التي فيها ضعف يسير ; بحيث لو فرض مجيء ذلك الحديث بإسناد فيه ضعف يسير ، كان مرتقيا بها إلى مرتبة الحسن لغيره .

( ألا ترى ) الحديث ( المرسل ) مع ضعفه عند الشافعي ومن وافقه ( حيث أسندا ) من وجه آخر ( أو أرسلوا ) أي : أو أرسل من طريق تابعي أخذ العلم عن غير رجال التابعي الأول ( كما يجيء ) تقريره في بابه عن نص الشافعي ( اعتضدا ) وصار حجة .

ثم كما أن الحسن على قسمين ، كذلك الصحيح ، فما سلف هو الصحيح لذاته ( و ) الحديث ( الحسن ) لذاته وهو ( المشهور بالعدالة والصدق راويه ) غير أنه كما تقدم متأخر المرتبة في الضبط والإتقان عن راوي الصحيح .

( إذا أتى له طرق أخرى نحوها ) أي : نحو طريقه الموصوفة بالحسن ( من الطرق ) المنحطة عنها ( صححته ) إما عند التساوي أو الرجحان ، فمجيئه من وجه آخر كاف ، وهذا هو الصحيح لغيره ، وتأخيره لكونه كالدليل أيضا لدفع الإيراد قبله .

التالي السابق


الخدمات العلمية