فتح المغيث بشرح ألفية الحديث للعراقي

السخاوي - شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي

صفحة جزء
[ ص: 332 ] [ طلب العلو في الحديث سنة ] :

( وطلب العلو ) الذي هو قلة الوسائط في السند أو قدم سماع الراوي أو وفاته ( سنة ) عمن سلف كما قاله الإمام أحمد ، بل قال الحاكم : إنه سنة صحيحة ، متمسكا في ذلك بحديث أنس في مجيء ضمام بن ثعلبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليسمع منه مشافهة ما سلف سماعه له من رسوله إليهم ; إذ لو كان العلو غير مستحب لأنكر عليه صلى الله عليه وسلم سؤاله عما أخبره به رسوله عنه ، وترك اقتصاره على خبره له .

ولكن إنما يتم الاستدلال بذلك على اختيار البخاري في أن قول ضمام : ( آمنت بما جئت به ) إخبار ، وهو الذي رجحه عياض ، ولكنه قال : إنه حضر بعد إسلامه مستثبتا من الرسول صلى الله عليه وسلم لما أخبر به رسوله إليهم ; لأنه قال في حديث ثابت عن أنس عند مسلم وغيره : ( فإن رسولك زعم ) ، وقال في رواية كريب عن ابن عباس عند الطبري : ( أتتنا كتبك ، وأتتنا رسلك ) .

أما على القول بأن قوله : ( آمنت ) إنشاء كما هو مقتضى صنيع أبي داود حيث ذكره في باب ما جاء في المشرك يدخل المسجد ، ورجحه القرطبي متمسكا فيه بقوله : ( زعم ) ; فإن الزعم القول الذي لا يوثق به فيما قاله ابن السكيت وغيره ، فلا ; فإنه حينئذ إنما يكون مجيئه وهو شاك لكونه لم يصدقه ، وأرسله قومه ليسأل لهم .

قال شيخنا : ( وفيه نظر ، أما أولا : فالزعم يطلق أيضا على القول المحقق كما نقله أبو عمر الزاهد في شرح فصيح شيخه ثعلب ، وأكثر سيبويه من قوله : زعم الخليل في مقام الاحتجاج .

وأما ثانيا : فلو كان إنشاء لكان طلب معجزة توجب له التصديق ، على أن القرطبي استدل به على صحة إيمان المقلد للرسول صلى الله عليه وسلم ولو [ ص: 333 ] لم تظهر له معجزة ) ، وكذا أشار إليه ابن الصلاح .

وبالجملة ، فطرقه الاحتمال ، ولم يتعين أن يكون ضمام قصد العلو ، وكذا نازع بعضهم في كونه قصد ذلك بقوله في باقي الخبر : ( وأنا رسول من ورائي ) . وعلى تقدير تحتم قصد العلو فعدم الإنكار يحتمل أن يكون لكونه جائزا ، ولكن قد استدل له بقول النبي صلى الله عليه وسلم لتميم الداري لما رآه كما في بعض طرق حديثه في الجساسة : ( يا تميم ، حدث الناس بما حدثتني ) . وبقوله أيضا : ( خير الناس قرني ) الحديث ; فإن العلو يقربه من القرون الفاضلة .

وقد قال بعضهم : من أدرك إسنادا عاليا في الصغر رجا عند الشيخوخة والكبر أن يكون من قرن أفضل من الذي هو فيه والذي بعده ويليه .

ويشير إليه قول محمد بن أسلم الطوسي : قرب الإسناد قرب ، أو قال : قربة إلى الله عز وجل ; فإن القرب من الرسول بلا شك قرب إلى الله .

ونحوه قول أبي حفص بن شاهين في جزء ( ما قرب سنده من رسول الله صلى الله عليه وسلم ) من تخريجه : نرجو بهذه الأحاديث أن نكون من جملة من قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ) .

ثم أسند إلى زرارة بن أوفى قال : القرن مائة وعشرون عاما . قلت : وهذا أقصى ما قيل في تحديده ، ولكن أشهره ما وقع في حديث عبد الله بن بسر عند مسلم مما يدل على أن [ ص: 334 ] القرن مائة .

ويمكن الاستدلال للعلو أيضا بأنه صلى الله عليه وسلم لما أخبره عبد الله بن زيد عن رؤيته في المنام الأذان ، وأعلمه بألفاظه وكيفيته ، قال له : ( ألقه على بلال ) ، ولم يلقه صلى الله عليه وسلم عليه بنفسه .

وبقول ابن عباس حين سمع عن عائشة بعض الأحاديث : ( لو كنت أدخل عليها لدخلت حتى تشافهني به ) .

وكذا مما استدل به له استحباب الرحلة ; إذ في الاقتصار على النازل - كما قال الخطيب - إبطال لها وتركها ، وقد رحل خلق من العلماء قديما وحديثا إلى الأقطار البعيدة طلبا للعلو كما قدمنا .

قال الإمام أحمد : ( وكان أصحاب عبد الله يرحلون من الكوفة إلى المدينة فيتعلمون من عمر ويسمعونه منه ) .

وهذا كله شاهد لتفضيل العلو ، وهو المشهور ، بل لم يحك الحاكم خلافه ، وحينئذ فلا يكتفى بسماع النازل مع وجود العالي ، وقد حكى الخطيب في الاكتفاء وعدمه مذهبين ، وذكر من أدلة الأول قول البراء رضي الله عنه : ( ليس كلنا كان يسمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كانت لنا ضياع وأشغال ، ولكن الناس لم يكونوا يكذبون يومئذ ، فيحدث الشاهد الغائب ) .

وقول حماد بن زيد : كنا نكون في مجلس أيوب السختياني فنسمع رجلا يحدث عن [ ص: 335 ] أيوب فنكتبه منه ، ولا نسأل من أيوب . وميل أحمد إلى الاكتفاء به ; حيث فوت بالاشتغال بالعلو من يسترشد به للاستنباط ونحوه ; فإنه قال لابن معين : إن فاتك حديث بعلو وجدته بنزول ، وإن فاتك عقل هذا الفتى - وعنى إمامنا الشافعي رحمهما الله - أوشك أن لا تراه .

التالي السابق


الخدمات العلمية