فتح المغيث بشرح ألفية الحديث للعراقي

السخاوي - شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي

صفحة جزء
[ تعريف التواتر لغة واصطلاحا ] ( ومنه ذو تواتر ) ، بل قال شيخنا : إن كل متواتر مشهور ، ولا ينعكس . يعني فإنه لا يرتقي للتواتر إلا بعد الشهرة ، فهو لغة : ترادف الأشياء المتعاقبة واحدا بعد واحد ، بينهما فترة ، ومنه قوله تعالى : ( ثم أرسلنا رسلنا تترى ) ; أي : رسولا بعد رسول ، بينهما فترة . واصطلاحا : هو ما يكون ( مستقرا في ) جميع ( طبقاته ) ، أنه من الابتداء إلى الانتهاء ورد عن جماعة غير محصورين في عدد معين ، ولا صفة مخصوصة ، بل بحيث يرتقون إلى حد تحيل العادة معه تواطؤهم على الكذب ، أو وقوع الغلط منهم اتفاقا من غير قصد . وبالنظر لهذا خاصة يكون العدد في طبقة كثيرا ، وفي أخرى قليلا ; إذ الصفات العلية في الرواة تقوم مقام العدد أو تزيد عليه .

هذا كله مع كون مستند انتهائه الحس ; من مشاهدة أو سماع ; لأن ما لا يكون كذلك يحتمل دخول الغلط فيه ، ونحوه كما اتفق أن سائلا سأل مولى أبي [ ص: 16 ] عوانة بمنى ، فلم يعطه شيئا ، فلما ولى لحقه أبو عوانة فأعطاه دينارا ، فقال له السائل : والله لأنفعنك بها يا أبا عوانة . فلما أصبحوا وأرادوا الدفع من المزدلفة ، وقف ذلك السائل على طريق الناس وجعل ينادي إذا رأى رفقة من أهل العراق : يا أيها الناس ، اشكروا يزيد بن عطاء الليثي ، يعني مولى أبي عوانة ; فإنه تقرب إلى الله عز وجل اليوم بأبي عوانة فأعتقه . فجعل الناس يمرون فوجا فوجا إلى يزيد ، يشكرون له ذلك وهو ينكره ، فلما كثر هذا الصنيع منهم قال : ومن يقدر على رد هؤلاء كلهم ؟ ! اذهب فأنت حر .

وأن لا يكون مستنده ما ثبت بقضية العقل الصرف ; كـ : الواحد نصف الاثنين ، والأمور النظريات ; إذ كل واحد منهم يخبر عن نظره ، وكله مقبول ; لإفادته القطع بصدق مخبره ، بخلاف غيره من أخبار الآحاد كما سلف ، وليس من مباحث هذا الفن ; فإنه لا يبحث عن رجاله ; لكونه لا دخل لصفات المخبرين فيه ; ولذلك لم يذكره من المحدثين إلا القليل ; كالحاكم ، والخطيب في أوائل ( الكفاية ) ، وابن عبد البر ، وابن حزم .

وقال ابن الصلاح : إن أهل الحديث لا يذكرونه باسمه الخاص المشعر بمعناه الخاص .

وإن كان الخطيب قد ذكره ، ففي كلامه ما يشعر بأنه اتبع فيه غير أهل الحديث ، ولعل ذلك لكونه لا يشمله صناعتهم ، ولا يكاد يوجد في رواياتهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية