فتح المغيث بشرح ألفية الحديث للعراقي

السخاوي - شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي

صفحة جزء
[ تفسير الغريب بما ورد في بعض طرقه ] ( وخير ما فسرته ) ; أي : الغريب ، ( بـ ) المعنى ( الوارد ) في بعض الروايات مفسرا لذلك اللفظ ; ( كالدخ ) بضم الدال المهملة عند الأكثر ، وحكى ابن السيد فيها الفتح أيضا ، بعدها معجمة ; فإنه جاء في رواية أخرى ما يقتضي تفسيره ( بالدخان ) مع كونه لغة حكاها ابن الدريد وابن السيد والجوهري وآخرون ، قال الشاعر :

عند رواق البيت يغشى الدخا

في القصة المتفق عليها ، ( لابن صائد ) بمهملتين بينهما ألف ثم مثناة : أبي عمارة عبد الله ، الذي يقال له : ابن صياد أيضا ، وكان يقال : إنه الدجال . فالبخاري أخرجها من حديث هشام بن يوسف ، ومسلم من حديث عبد الرزاق ، كلاهما عن معمر ، عن [ ص: 34 ] الزهري ، عن سالم ، عن ابن عمر أنه - صلى الله عليه وسلم - لما قال له : ( خبأت لك خبيئا ) . قال ابن صائد : هو الدخ . ( كذاك ) ; أي : كونه الدخان ، ثبت ( عند الترمذي ) في جامعه وقال : إنه صحيح . وكذا عند أبي داود ، كلاهما من حديث عبد الرزاق ، وأخرجه أحمد عنه أيضا . واتفق الثلاثة على قولهم : وخبأ له ، يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( يوم تأتي السماء بدخان مبين ) .

بل في رواية أخرى عند أحمد والبزار من حديث أبي ذر : فأراد ابن صياد أن يقول : الدخان . فلم يستطع ، فقال : الدخ الدخ . وذلك كما قال ابن الصلاح على عادة الكهان في اختطاف بعض الشيء من الشياطين من غير وقوف على تمام البيان ; ولهذا قال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( اخسأ ، فلن تعدو قدرك ) ; أي : فلا مزيد لك على قدر إدراك الكهان .

ووقع في رواية أخرى عند البزار أيضا ، والطبراني في الأوسط من حديث أبي الطفيل ، عن زيد بن حارثة قال : ( كان النبي - صلى الله عليه وسلم - خبأ له سورة الدخان ) : . وكأنه أطلق السورة وأراد بعضها .

وحكى أبو موسى المديني أن السر في امتحان النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذه الآية الإشارة إلى أن عيسى ابن مريم عليه السلام يقتل الدجال بحبل الدخان ، كما في رواية أحمد من حديث أبي الزبير عن جابر ، فأراد التعريض لابن صائد بذلك ; لأنه كان يظن أنه [ ص: 35 ] الدجال . على أن الخطابي استبعد تفسير الدخ بالدخان ، وصوب أنه خبأ له الدخ ، وهو نبت يكون من البساتين . وسبب استبعاده أن الدخان لا يحط في اليد ولا الكم ، ثم قال : إلا أن يكون خبأ له اسم الدخان في ضميره .

( والحاكم ) أبو عبد الله ( فسره ) أيضا في علومه ( الجماع ) ; أي : بالجماع ، ( وهو ) كما اتفق عليه الأئمة ( واهم ) في ذلك ، حتى قال ابن الصلاح : إنه تخليط فاحش يغيظ العالم والمؤمن . ولفظ الحاكم : سألت الأدباء عن تفسير الدخ ، فقال : كذا يدخها ويزخها - يعني بالزاء بدل الدال - بمعنى واحد ، الدخ والزخ . قال : والمعنى الذي أشار إليه ابن صائد - خذله الله فيه - مفهوم ، ثم أنشد لعلي رضي الله عنه : طوبى لمن كانت له مزخه يزخها ثم ينام الفخه فالمزخة بالفتح : هي المرأة ، قاله الجوهري . ومعنى يزخها : يجامعها . والفخة : أن ينام فينفخ في نومه . ويؤيد وهم الحاكم رواية أبي ذر الماضية ; لما فيه من قوله : فأراد ابن صائد أن يقول : الدخان . فلم يستطع .

بل قال المصنف : إنه لم ير في كلام أهل اللغة أن الدخ بالدال هو الجماع ، وإنما ذكره بالزاء فقط . وإذا كان كل من الحاكم والخطابي مع كونه من أئمة الفن صدر منه خلاف الرواية في معنى هذا اللفظ ، [ ص: 36 ] فكيف ممن دونهما على أن من الغريب ما لا يعرف تفسيره إلا من الحديث ؟ ! .

وقد جمع أبو بكر بن الأنباري من ذلك شيئا ، وإلى ذلك أشار ابن الأثير في النهاية ، فقال في ( هرد ) : قال ابن الأنباري : القول عندنا في الحديث : ( بين مهرودتين ) يروى بالدال والذال ; أي : بين ممصرتين ، على ما جاء في الحديث ، ولم نسمعه إلا فيه . وكذلك أشياء كثيرة لم تسمع إلا في الحديث ، ونقل غيره عن ابن الأنباري منها حديث : ( من اطلع في صير باب ففقيت عينه فهي هدر ) ، وحديث ابن عمر : ( أنه مر برجل ومعه صير فذاق منه ) . فالأول : الشق ، والثاني : الصحناة . ومنها أن عمر سأل المفقود الذي استهوته الجن : ما شرابهم ؟ قال : الجدف . يعني بالجيم والمهملة المحركتين بعدهما فاء ، وهو نبات باليمن لا يحتاج آكله شرب ماء . وقيل : ما لم يذكر اسم الله عليه .

ونازع ابن الأنباري صاحبه القاضي أبو الفرج النهرواني في جعله الصير مما لا يعرف إلا في الحديث ، بأنه مشهور بين الخاصة والعامة . وكذا مما ينبغي أن يعتمد في الغريب تفسير الراوي ، ولا يتخرج على الخلاف في تفسير اللفظ بأحد محتمليه ; لأن هذا إخبار عن مدلول اللغة ، وهو من أهل اللسان ، وخطاب الشارع يحمل على اللغة ما أمكن موافقته لها .

ووراء الإحاطة بما تقدم الاشتغال بفقه الحديث والتنقيب عما تضمنه من الأحكام والآداب المستنبطة منه . وقد تكلم البدر بن جماعة في مختصره فيما يتعلق بفقهه وكيفية الاستنباط منه ، ولم يطل في ذلك ، والكلام فيه متعين ، وذكر [ ص: 37 ] شروطه لمن بلغ أهليته ذلك . وهذه صفة الأئمة الفقهاء والمجتهدين الأعلام ; كالشافعي ومالك وأحمد والحمادين والسفيانين وابن راهويه والأوزاعي ، وخلق من المتقدمين والمتأخرين . وفي ذلك أيضا تصانيف كثيرة ; ( كالتمهيد ) و ( الاستذكار ) ، كلاهما لابن عبد البر . و ( معالم السنن ) و ( إعلام الحديث على البخاري ) ، كلاهما للخطابي . و ( شرح السنة ) للبغوي مفيد في بابه . و ( المحلى ) لابن حزم ، كتاب جليل ، لولا ما فيه من الطعن على الأئمة وانفراده بظواهر خالف فيها جماهير الأمة . و ( شرح الإلمام ) و ( العمدة ) ، كلاهما لابن دقيق العيد ، وفيهما دليل على ما وهبه الله تعالى له من ذلك . ونعم الكتاب ( شرح مسلم ) لأبي زكريا النووي ، وكذا أصله للقاضي عياض ، و ( شرح البخاري ) لشيخنا ، و ( الأحوذي في شرح الترمذي ) للقاضي أبي بكر بن العربي ، والقطعة التي لابن سيد الناس عليه أيضا ، ثم الذيل عليها للمصنف ، وانتهى فيه إلى النصف ، وقد شرعت في إكماله ، إلى غير ذلك مما يطول إيراده من الشروح التي على الكتب الستة ، وكلها مشروحة .

ومن غريبها ( شرح النسائي ) للإمام أبي الحسن علي بن عبد الله ابن النغمة ، سماه ( الإمعان في شرح مصنف النسائي أبي عبد الرحمن ) . ومن متأخرها شرح ابن ماجه للدميري . ولأبي زرعة ابن المصنف على أبي داود قطعة حافلة ، بل وشرحه بتمامه الشهاب ابن رسلان . وكذا على ابن ماجه لمغلطاي قطعة . وعلى ( الموطأ ) و ( مسند الشافعي ) و ( المصابيح ) و ( المشارق ) و ( المشكاة ) و ( الشهاب ) و ( الأربعين النووية ) و ( تقريب الأحكام ) لخلق ، وما لا ينحصر .

وقد روى ابن عساكر في تأريخه من حديث أبي زرعة الرازي قال : تفكرت ليلة في رجال ، فأريت فيما يرى النائم كأن رجلا ينادي يا أبا زرعة : فهم متن الحديث خير من التفكر في الموتى .

[ ص: 38 ] تتمة : مما قد يتضح به المراد من الخبر معرفة سببه ; ولذا اعتنى أبو حفص العكبري أحد شيوخ القاضي أبي يعلى بن الفراء الحنبلي ، ثم أبو حامد محمد بن أبي مسعود الأصبهاني ، عرف بكوتاه ، بإفراده بالتصنيف .

وقال ابن النجار في ثانيهما : إنه حسن في معناه لم يسبق إليه . وليس كذلك ، فالعكبري متقدم عليه . وقول ابن دقيق العيد في أثناء البحث التاسع من كلامه على حديث : ( الأعمال بالنيات ) من ( شرح العمدة ) : شرح بعض المتأخرين من أهل الحديث في تصنيفه ، كما صنف في أسباب النزول ، فوقفت من ذلك على شيء مشعر بعدم الوقوف على واحد منهما .

وقد أفرده بنوع شيخنا تبعا لشيخه البلقيني ، وعنده في محاسنه من أمثلته الكثير ، ومنها حديث : ( الخراج بالضمان ) . فالجمهور رووه كذلك فقط ، وعند أبي داود وغيره سببه ، وهو أن رجلا ابتاع عبدا ، فأقام عنده ما شاء الله أن يقيم ، ثم وجد به عيبا ، فخاصمه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فرده عليه ، فقال الرجل : يا رسول الله ، إنه قد استغل غلامي ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( الخراج بالضمان ) . وأشار إليه الشافعي رحمه الله . والتقيد بالسبب هنا أولى ، وإن أخذ بعمومه جماعة من العلماء من المدنيين والكوفيين .

التالي السابق


الخدمات العلمية