فتح المغيث بشرح ألفية الحديث للعراقي

السخاوي - شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي

صفحة جزء
( والبغوي ) نسبة لبلدة من بلاد خراسان بين مرو وهراة يقال لها : بغ ، وهو الإمام الفقيه المفسر الحافظ الملقب : محيي السنة أبو محمد ركن الدين الحسين بن مسعود ، [ ص: 108 ] ويعرف بابن الفراء لكونها صنعة أبيه ، مصنف معالم التنزيل في التفسير ، وشرح السنة ، والمصابيح في الحديث ، [ والجمع بين الصحيحين بإسنادهما مع حذف المكررات ] ، والتهذيب في الفقه .

وكان سيدا زاهدا قانعا ، يأكل الخبز وحده فليم في ذلك ، فصار يأكله بالزيت ، مات بمرو الروذ ، في شوال سنة ست عشرة وخمسمائة ( 516 هـ ) وقد أشرف على التسعين ظنا ، ودفن عند شيخه القاضي حسين .

( إذ قسم ) كتابه ( المصابحا ) بحذف الياء تخفيفا ، جمع مصباح ; وهو السراج ( إلى الصحاح والحسان ، جانحا ) أي : سائرا إلى أن الصحاح ما رواه الشيخان في صحيحهما أو أحدهما .

و ( الحسان ما رووه ) أي : أبو داود والترمذي ، وغيرهما من الأئمة ، كالنسائي والدارمي وابن ماجه ( في السنن ) من تصانيفهم مما يتضمن مساعدة ابن الصلاح ; لاستلزامه تحسين المسكوت عليه عند أبي داود رد ( عليه ) فقال النووي : إنه ليس بصواب ، وسبقه ابن الصلاح فقال : إنه اصطلاح لا يعرف ، وليس الحسن عند أهل الحديث عبارة عن ذلك ، ( إذ بها ) أي : بكتب السنن المشار إليها ( غير الحسن ) من الصحيح والضعيف .

فقد ( كان أبو داود ) يتتبع من حديثه ( أقوى ما وجد ) بالبناء للمفعول كما رأيته بخط الناظم ، ويجوز بناؤه للفاعل ، وهو أظهر في المعنى ، وإن كان الأول أنسب ( يرويه و ) يروي الحديث ( الضعيف ) أي : من قبل سوء حفظ راويه ، ونحو ذلك ; كالمجهول عينا أو حالا ، لا مطلق الضعف الذي يشمل ما كان راويه متهما بالكذب .

( حيث لا يجد في الباب ) حديثا ( غيره فذاك ) أي : الحديث الضعيف ( عنده ، من رأي ) أي : من جميع آراء الرجال ( أقوى ) كما ( قاله ) أي : كونه يخرج الضعيف ويقدمه على الآراء ، الحافظ أحد أكابر هذه الصناعة ، ممن جاب وجال ، ولقي الأعلام [ ص: 109 ] والرجال ، وشرق وغرب ، وبعد وقرب .

أبو عبد الله ( ابن منده ) وهو محمد بن إسحاق بن محمد بن يحيى العبدي الأصبهاني ، و " منده " لقب لوالده يحيى ، واسمه فيما يقال : إبراهيم بن الوليد .

مات في سلخ ذي القعدة سنة خمس وتسعين وثلاثمائة ( 395هـ ) عن نحو أربع وثمانين سنة .

[ قال البزدوي : لأن الخبر في الغالب يقين في أصله ، وإنما دخلت الشبهة في نقله ، والراوي محتمل بأصله في كل وصف على الخصوص ، وكان الاحتمال في الرأي أصلا ، وفي الحديث عارضا ، وأبو داود تابع في ذلك شيخه الإمام أحمد .

فقد روينا من طريق عبد الله بن أحمد بالإسناد الصحيح إليه . قال : سمعت أبي يقول : لا تكاد ترى أحدا ينظر في الرأي إلا وفي قلبه دغل ، والحديث الضعيف أحب إلي من الرأي .

قال : فسألته عن الرجل يكون ببلد لا يجد فيها إلا صاحب حديث لا يدري صحيحه من سقيمه ، وصاحب رأي فمن يسأل ؟ قال : يسأل صاحب الحديث ، ولا يسأل صاحب الرأي .

[ ونحوه ما للدارمي عن الشعبي أنه قال : ما حدثك هؤلاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فخذ به ، وما قالوه برأيهم ، فألقه في الحش .

وللبغوي في شرح [ ص: 110 ] السنة عنه : إنما الرأي بمنزلة الميتة إذا اضطررت إليها أكلتها ] .

وكذا نقل ابن المنذر أن أحمد كان يحتج بعمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، إذا لم يكن في الباب غيره .

وفي رواية عنه أنه قال لابنه : لو أردت أن أقتصر على ما صح عندي ، لم أرو من هذا المسند إلا الشيء بعد الشيء ، ولكنك يا بني ، تعرف طريقتي في الحديث ، إني لا أخالف ما يضعف ، إلا إذا كان في الباب شيء يدفعه .

وذكر ابن الجوزي في الموضوعات أنه كان يقدم الضعيف على القياس ، بل حكى الطوفي عن التقي ابن تيمية أنه قال : اعتبرت مسند أحمد ، فوجدته موافقا لشرط أبي داود . انتهى .

ونحو ما حكي عن أحمد ما سيأتي في المرسل حكاية عن الماوردي ، مما نسبه لقول الشافعي في الجديد ; أن المرسل يحتج به إذا لم يوجد دلالة سواه .

وزعم ابن حزم أن جميع الحنفية على أن مذهب إمامهم أيضا أن ضعيف الحديث أولى عنده من الرأي والقياس ، على أن بعضهم - كما حكاه المؤلف في أثناء من تقبل روايته وترد من النكت - حمل قول ابن منده على أنه أريد بالضعيف هنا الحديث الحسن ، وهو بعيد .

[ ص: 111 ] وكلام أبي داود في رسالته التي وصف فيها كتابه ، إلى أهل مكة - مشعر بخلافه ; فإنه قال : سألتم أن أذكر لكم الأحاديث التي في كتاب السنن أهي أصح ما عرفت في الباب ؟ فاعلموا أنه كذلك كله ، إلا أن يكون قد روي من وجهين صحيحين ، وأحدهما أقدم إسنادا ، والآخر صاحبه قدم في الحفظ ، فربما كتبت ذلك ، أي : الذي هو أقدم إسنادا ، ولا أرى في كتابي من هذا عشرة أحاديث .

ولم أكتب في الباب إلا حديثا أو حديثين ، وإن كان في الباب أحاديث صحاح ، فإنها تكثر ، وإنما أردت قرب منفعته ، فإذا أعدت الحديث في الباب من وجهين وثلاثة ، فإنما هو من زيادة كلام فيه ، وربما تكون فيه كلمة زائدة على الأحاديث .

وربما اختصرت الحديث الطويل ; لأني لو كتبته بطوله ، لم يعلم بعض من يسمعه المراد منه ، ولا يفهم وضع الفقه منه ، فاختصرته لذلك ، إلى أن قال : وليس في كتاب السنن الذي صنفته عن رجل متروك الحديث شيء ، وإذا كان فيه حديث منكر بينته أنه منكر ، وليس على نحوه في الباب غيره .

قال : وقد ألفته نسقا على ما صح عندي ; فإن ذكر لك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - سنة ليس فيما خرجته ، فاعلم أنه حديث واه ، إلا أن يكون في كتابي من طريق آخر ، فإني لم أخرج الطرق ; لأنه يكثر على المتعلم ، ولا أعلم أحدا جمع على الاستقصاء غيري . . . إلى آخر الرسالة . وقد روينا أنه عرض سننه على شيخه أحمد ، فاستحسنه .

وكذا فيما حكى ابن منده أيضا مما سمعه بمصر من محمد بن سعد البارودي ، كان الحافظ أبو عبد الرحمن ( النسائي ) صاحب السنن والآتي [ ص: 112 ] في الوفيات ، لا يقتصر في التخريج على المتفق على قبولهم .

بل ( يخرج ) حديث ( من لم يجمعوا ) أي : أئمة الحديث ( عليه تركا ) أي : على تركه ، حتى إنه يخرج للمجهولين حالا وعينا ; للاختلاف فيهم - كما سيأتي - وهو كما زاده الناظم ، ( مذهب متسع ) يعني : إن لم يرد إجماع خاص ، كما قرره شيخنا ; حيث قال : إن كل طبقة من نقاد الرجال لا تخلو من متشدد ومتوسط ; فمن الأولى شعبة والثوري ، وشعبة أشدهما .

ومن الثانية يحيى القطان وابن مهدي ، ويحيى أشدهما ، ومن الثالثة ابن معين وأحمد ، وابن معين أشدهما ، ومن الرابعة أبو حاتم والبخاري ، وأبو حاتم أشدهما .

فقال النسائي : لا يترك الرجل عندي حتى يجتمع الجميع على تركه ، فأما إذا وثقه ابن مهدي ، وضعفه القطان مثلا ، فإنه لا يترك ; لما عرف من تشديد يحيى ومن هو مثله في النقد .

وحينئذ فقول ابن منده : " وكذلك أبو داود يأخذ مأخذ النسائي " يعني في عدم التقيد بالثقة ، والتخريج لمن ضعف في الجملة ، وإن اختلف صنيعهما .

وقول المنذري في مختصر السنن له حكاية عن ابن منده : إن شرط أبي داود والنسائي إخراج حديث قوم لم يجمع على تركهم ، إذا صح الحديث باتصال الإسناد من غير قطع ولا إرسال - محمول على هذا ، وإلا فكم من رجل أخرج له أبو داود والترمذي ، تجنب النسائي إخراج حديثه ، بل تجنب النسائي إخراج حديث جماعة من رجال الشيخين ، حتى قال بعض الحفاظ : إن شرطه في الرجال أشد من شرطهما .

[ ص: 113 ] على أنه قد انتصر التاج التبريزي للبغوي ، وقال : إنه لا مشاحة في الاصطلاح ، بل تخطئة المرء في اصطلاحه بعيدة عن الصواب .

والبغوي قد صرح في ابتداء كتابه بقوله : أعني بالصحاح كذا ، وبالحسان كذا ، وما قال : أراد المحدثون بهما كذا ، فلا يرد عليه شيء مما ذكره خصوصا .

وقد قال : وما كان فيها من ضعيف أو غريب ، أشرت إليه ، وأعرضت عما كان منكرا أو موضوعا ، وأيده شيخنا بحكمه في قسم الحسان بصحة بعض أحاديثه تارة ، إما نقلا عن الترمذي أو غيره ، وضعفه أخرى بحسب ما يظهر له من ذلك ; إذ لو أراد بالحسان الاصطلاح العام ، ما نوعه .

ولا تضر المناقشة له في ذكره ما يكون منكرا بعد التزامه الإعراض عنه ; كقوله في باب السلام من الأدب : ويروى عن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، السلام قبل الكلام . وهذا منكر ، ولا تصريحه بالصحة والنكارة في بعض ما أطلق عليه الحسان .

كما لا يضره ترك حكاية تنصيص الترمذي في بعضها بالصحة أحيانا ، ولا إدخاله في الفصل الأول المسمى بالصحاح عدة روايات ليست في الصحيحين ، ولا في أحدهما مع التزامه الاقتصار عليهما ; لأن ذلك يكون لأمر خارجي يرجع إلى الذهول ونحوه ، بل أحسن من هذا في العذر عنه بالنسبة إلى الأخير فقط أنه يذكر أصل الحديث منهما أو من أحدهما .

ثم يتبع ذلك باختلاف لفظه ، ولو بزيادة في نفس ذلك الخبر يكون بعض من خرج السنن أوردها ، فيشير هو إليها لكمال الفائدة .

( ومن عليها ) أي : السنن كلها أو بعضها ( أطلق الصحيحا ) كالحاكم والخطيب ; حيث أطلقا الصحة على الترمذي ، وابن منده وابن السكن على كتابي أبي داود والنسائي ، والحاكم على أبي داود ، وجماعة منهم أبو علي النيسابوري [ ص: 114 ] وأبو أحمد بن عدي والدارقطني والخطيب على كتاب النسائي ; حتى شذ بعض المغاربة ، ففضله على كتاب البخاري ، كما قدمته في " أصح كتب الحديث " مع رده .

التالي السابق


الخدمات العلمية