فتح المغيث بشرح ألفية الحديث للعراقي

السخاوي - شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي

صفحة جزء
[ دلائل النسخ ] ( ثم بنص الشارع ) - صلى الله عليه وسلم - على إبطال أحد الدليلين المتعارضين وتصريحه بذلك ; كقوله : هذا ناسخ ، أو في ما معناه ; كقوله : ( كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ; فإنها تذكر الآخرة ) . وكرجم ماعز دون جلده بعد قوله : ( الثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة ) . كما ذكره ابن السمعاني وغيره . ( أو ) بنص ( صاحب ) من أصحابه رضي الله عنهم صريحا ; كقول جابر رضي الله عنه : ( كان آخر الأمرين من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترك الوضوء مما مست النار ) . أو أن أحدهما شرع بمكة ، والآخر بالمدينة . ( أو ) بغيرهما ، وذلك كأن ( عرف التاريخ ) للخبرين المتعذر الجمع بينهما ، وتأخر أحدهما عن الآخر ، وأمثلته كثيرة . ( أو أجمع تركا ) ; أي : على ترك العمل بمضمون الحديث . ( بان ) ; أي : ظهر بكل واحد من هذه الأربعة التي هي نص الشارع أو الصحابي أو العلم بالتاريخ أو الإجماع ، ( نسخ ) للحكم الآخر ، وأصرحها أولها .

وأما ثالثها فمحله [ ص: 53 ] في غير المتواترين . أما إذا في أحد المتواترين أنه كان متقدما على الآخر ففيه خلاف للأصوليين ، والأكثرون على عدم قبوله ، وبه جزم بعضهم ; لأنه يتضمن نسخ المتواتر بالآحاد ، وهو غير واقع . وحجة الطرف الآخر أن النسخ إنما هو بالمتواتر ، وخبر الواحد معين للناسخ ، لا ناسخ ; لأنه علم أن أحدهما ناسخ ، والآخر منسوخ بدونه .

وكذا محل ثانيهما فيما إذا كان مستنده النقل ، أو قال : القول بكذا منسوخ ، أو : هذا هو الناسخ . وكذا إن قال : هذا ناسخ ، وذكر دليله ، فإن لم يذكره واقتصر على قوله : هذا ناسخ ، أو : هذا نسخ لهذا ، لم يرجع إليه عند غير واحد من الأصوليين والفقهاء ; لاحتمال أنه قاله عن اجتهاد نشأ عن ظن ما ليس بنسخ نسخا ، لا سيما وقد اختلف العلماء في أسباب النسخ ، وهذا بناء على أن قوله رضي الله عنه ليس بحجة .

ولكن قد أطلق ابن الصلاح تبعا لأهل الحديث القول بمعرفة النسخ بقول الصحابي ، بل وأطلقه الشافعي أيضا ; حيث ذكر الأدلة الأربعة ، فقال فيما رواه البيهقي في ( المدخل ) من طريقه : ولا يستدل على الناسخ والمنسوخ إلا بخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أو بوقت يدل على أن أحدهما بعد الآخر ، أو بقول من سمع الحديث ، يعني من الصحابة أو العامة ، يعني الإجماع . وهو كما قال المصنف أوضح وأشهر ; إذ النسخ لا يصار إليه بالاجتهاد والرأي ، وإنما يصار إليه عند معرفة التاريخ ، والصحابة أورع من أن يحكم أحدهم على حكم شرعي بنسخ من غير أن يعرف تأخر الناسخ عنه .

ليس من أمثلته ما يرويه الصحابي المتأخر الإسلام معارضا لمتقدم عنه بناء على الظاهر ; لتجويز سماع المتقدم بعد المتأخر .

قال شيخنا : ولاحتمال أن يكون سمعه من صحابي آخر أقدم من المتقدم المذكور أو مثله فأرسله ، لكن إن وقع التصريح بسماعه له من النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فيتجه أن يكون ناسخا بشرط أن يكون لم يتحمل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئا قبل إسلامه .

[ ص: 54 ] وفيه نظر للتجويز السابق قريبا . وحينئذ فطرق كون حديث شداد المرفوع : ( أفطر الحاجم والمحجوم ) منسوخا بحديث ابن عباس رضي الله عنه : ( أنه - صلى الله عليه وسلم - احتجم وهو صائم محرم ) ; لكون ابن عباس إنما صحبه محرما في حجة الوداع سنة عشر ، وشداد قيد حديثه في بعض طرقه ; إما بزمن الفتح كما في رواية ، وكان سنة ثمان ، وإما برمضان كما في أخرى ، وأيا ما كان فهو قبل حجة الوداع .

أما الأول فواضح ، وأما الثاني فحجة الوداع لم يكن بعدها في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - رمضان .

احتمال أن يكون ابن عباس تحمله عن غيره من الصحابة ، على أن الشافعي قال : وإسناد الحديثين جميعا مشتبه . قال : وحديث ابن عباس أمثلهما إسنادا .

( و ) أما رابعها فليس على إطلاقه في كون الإجماع ناسخا . بل العلماء من المحدثين والأصوليين إنما ( رأوا دلالة الإجماع ) على وجود ناسخ غيره ، بمعنى أن بالإجماع يستدل على وجود خبر معه يقع به النسخ ، وعليه ينزل نص الشافعي والأصحاب وسائر المطلقين ، ( لا ) أنهم رأوا ( النسخ به ) ; لأنه لا ينسخ بمجرده ; إذ لا ينعقد إلا بعد الرسول ، وبعده ارتفع النسخ ، وكذا لا ينسخ . ولذلك أمثلة كثيرة ; كنسخ رمضان صوم عاشوراء ، والزكاة وسائر الحقوق في المال ، و ( كـ ) حديث معاوية ، وجابر ، وجرير ، وشرحبيل بن أوس ، والشريد بن أوس الثقفي ، وعبد الله بن عمرو ، وغطيف ، وأبي الرمداء ، وأبي سعيد ، وأبي هريرة ، وغيرهم من الصحابة - رضي الله عنهم - مرفوعا في ( القتل ) لشارب الخمر ( في ) مرة ( رابعة ) صدرت منه [ ص: 55 ] بعد شربه ثلاث مرار قبلها ، أو في مرة خامسة ، كما في بعض الروايات ( بـ ) سبب ( شربه ) ; حيث حكى الترمذي في آخر جامعه الإجماع على ترك العمل به . ونحوه قول الماوردي : قتل الشارب في الخامسة انعقد الإجماع من الصحابة على خلافه ، ولا يخدش الإجماع بما رواه أحمد والحارث بن أبي أسامة في مسنديهما من طريق الحسن البصري عن عبد الله بن عمرو أنه قال : ( ايتوني برجل أقيم عليه الحد ، يعني ثلاثا ، ثم سكر فإن لم أقتله فأنا كذاب ) .

ولا بما أخرجه سعيد بن منصور مما هو أشد من هذا عن ابن عمرو أيضا أنه قال : ( لو رأيت أحدا يشرب الخمر واستطعت أن أقتله لقتلته ) . ولا بحكاية القتل في الرابعة أيضا عن عثمان رضي الله عنه وعن عمر بن عبد العزيز والحسن البصري ، فضلا عن كون أهل الظاهر ; منهم ابن حزم ، قالوا به ; لانقطاع أولهما ; فإن الحسن لم يسمع من ابن عمرو كما جزم به ابن المديني وغيره ، وللين سند ثانيهما بحيث لا يكون فيهما حجة ، كما أنه لا حجة فيما عداهما ; لعدم ثبوته .

وأما خلاف الظاهرية فلا يقدح في الإجماع . وحينئذ فلم يبق لمن رد الإجماع على ترك القتل متمسك ، حتى ولو ثبت عن ابن عمرو أو غيره من الصحابة فمن بعدهم لكان العذر عنه أنه لم يبلغه النسخ ، وعد ذلك من ندرة الخلاف .

ولوجود الخلاف في الجملة حكى ابن المنذر إجماع عوام أهل العلم في ترك القتل في الرابعة ، واستثنى شاذا موصوفا بأنه لا يعد ، بل وقوع الخلاف قديما لا يمنع حصول الإجماع بعد ذلك كما سلف في كتابة الحديث ، وهي طريقة مشهورة كما قال البلقيني . ويؤيده قول شيخنا في ( فتح الباري ) عقب حكاية قول الترمذي : وهو محمول على [ ص: 56 ] من بعد ; لنقل غيره القول به ، وأشار لما تقدم .

وممن حكى الإجماع أيضا النووي ، وقال : القول بالقتل قول باطل مخالف لإجماع الصحابة فمن بعدهم ، والحديث الوارد فيه منسوخ ; إما بحديث : ( لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث ) . وإما بأن الإجماع دل على نسخه . انتهى .

هذا كله مع ورود ناسخ من حديثي جابر وقبيصة بن ذؤيب ، بحيث عمل بمضمونه عمر بن الخطاب وسعد بن أبي وقاص ، ولكن ليس هذا محل الإطالة بها .

قال البلقيني : ومن مثل معرفة النسخ بالإجماع الحديث الذي رواه أبو داود في سننه من حديث أم سلمة ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لوهب بن زمعة ورجل آخر : ( إن هذا يوم رخص لكم إذا أنتم رميتم الجمرة أن تحلوا من كل ما حرمتم منه إلا النساء ، فإذا أمسيتم قبل أن تطوفوا هذا البيت صرتم حرما كهيئتكم قبل أن ترموا الجمرة حتى تطوفوا به ) . وإسناده جيد ، وإن كان فيه محمد بن إسحاق ، لكنه صرح بالتحديث .

فهذا مما أجمع العلماء على ترك العمل به وأشباه ذلك ، على أن الإمام أبا بكر الصيرفي شارح ( الرسالة ) لم يجعل الإجماع دليلا على تعين المصير للنسخ ، بل جعله مترددا بين النسخ والغلط ; فإنه قال في كتابه ( الدلائل ) : فإن أجمع على إبطال حكم أحدهما فهو منسوخ أو غلط - يعني من بعض رواته ، كما صرح به غيره - والآخر ثابت . قال المصنف : وما قاله محتمل .

التالي السابق


الخدمات العلمية