فتح المغيث بشرح ألفية الحديث للعراقي

السخاوي - شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي

صفحة جزء
[ أسباب التصحيف في الحديث ] ( و ) كذا ( أطلقوا ) ; أي : من صنف في هذا الفن ، ( التصحيف فيما ظهرا ) تحقيق حروفه من غير اشتباه في الكتابة بغيرها ، وإنما حصل فيه خلل من الناسخ أو الراوي بنقص أو زيادة أو إبدال حرف بآخر .

فالأول : [ ص: 63 ] كحديث جابر : دخل رجل يوم الجمعة والنبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب ، فقال : ( صليت قبل أن تجلس ؟ ) الحديث . رواه ابن ماجه بلفظ : ( قبل أن تجيء ؟ ) ، وهو غلط من الناسخ ، نبه عليه المزي . وكما روى يحيى بن سلام المفسر عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة في قوله تعالى : ( سأريكم دار الفاسقين ) ، قال : مصر . فقد استعظم هذا أبو زرعة الرازي واستقبحه ، وذكر أنه في تفسير سعيد المذكور بلفظ : مصيرهم .

والثاني : كحديث أبي سعيد في خطبة العيد : ( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخرج يوم العيد فيصلي بالناس ركعتين ، ثم يسلم فيقف على رجليه ، فيستقبل الناس وهم جلوس ) الحديث .

رواه بعضهم فقال : على راحلته بدل رجليه . والصواب الأول ، فلا ريب في ( أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يخرج إلى العيد ماشيا والعنزة بين يديه ، وإنما خطب على راحلته يوم النحر بمنى ) .

والثالث : ( كقوله ) في حديث زيد بن ثابت : ( احتجم ) النبي - صلى الله عليه وسلم - في المسجد ; حيث جعله ابن لهيعة فيما ذكره مسلم في التمييز له ( مكان احتجرا ) بالميم بدل الراء ; لكونه أخذه من كتاب بغير سماع ، وأخطأ فبقيته : ( بخص أو حصير حجرة يصلي فيها ) . وقد جعل ابن الجزري هذا مثالا لتصحيف السمع في المتن ، وهو ظاهر . ( و ) كذا ( واصل ) أبدل اسمه ( بعاصم ) . بل ( و ) أبدلا ( الأحدب ) لقبه أيضا ( بأحول ) بالصرف للضرورة ، لقب عاصم ، وذلك في حديث شعبة عن واصل الأحدب ، عن أبي وائل ، عن ابن مسعود : ( أي الذنب أعظم ؟ ) .

وكذا خالد بن عرفطة ; حيث أبدله شعبة بمالك بن عرفطة . كل منهما ( تصحيف ) بالنصب مفعول مقدم ( سمع ) ; [ ص: 64 ] يعني في الإسناد ، ( لقبوا ) . فمن الملقبين بذلك للمثال الأول الدارقطني ، وللثاني أحمد ، وليس تلقيبهم بذلك بأولى من تلقيب احتجم به ، بل ذاك أولى ; لمشاركتهما مع الوزن في الحروف إلا واحدا ، بخلافه فيهما ، فليس إلا الوزن ; إذ أكثر الحروف مختلفة .

ثم إن جل التصحيف كما أشرت إليه في اللفظ ، ( و ) قد ( صحف المعنى ) فقط بعض شيوخ الخطابي في الحديث فيما حكاه عنه ، وإنه لما روى حديث النهي عن التحليق يوم الجمعة قبل الصلاة قال : منذ أربعين سنة ما حلقت رأسي قبل الصلاة . فهم منه حلق الرءوس ، وإنما هو تحليق الناس حلقا . وبعضهم حيث سمع خطيبا يروي حديث : ( لا يدخل الجنة قتات ) ، فبكى وقال : ( ما الذي أصنع ، وليست لي حرفة سوى بيع القت ) ; يعني الذي يعلف الدواب .

وأبو موسى محمد بن المثنى الزمن ( إمام عنزه ) حيث (

ظن القبيل بحديث العنزه

) التي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي إليها ، فقال يوما : ( نحن قوم لنا شرف ، نحن من عنزة ، قد صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - إلينا ) ، ذكره الدارقطني .

( وبعضهم ) ، وهو كما ذكره الحاكم أعرابي صحف لفظه ومعناه معا ، ( ظن سكون نونه ) أي : لفظ العنزة ، ورواه مع هذا الظن بالمعنى ( فقال : شاة ) ، فأخطأ و ( خاب في ظنونه ) من وجهين ; إذ الصواب عنزة بفتح النون ; وهي الحربة تنصب بين يديه . ولذلك حكاية حكاها الحاكم عن الفقيه أبي منصور قال : كنت بعدن [ ص: 65 ] أبين يوم عيد ، فشدت عنزة - يعني : شاة - بقرب المحراب ، فلما اجتمع الناس سألتهم بعد فراغ الخطبة والصلاة : ما هي العنزة المشدودة في المحراب ؟ قالوا : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي يوم العيد إلى عنزة ، فقلت : ( يا هؤلاء ، صحفتم ، ما فعل رسول الله هذا ، وإنما كان يصلي إلى العنزة : الحربة ) .

قال ابن كثير : وقد كان شيخنا المزي من أبعد الناس عن هذا المقام ، ومن أحسن الناس أداء للإسناد والمتن ، بل لم يكن على وجه الأرض فيما يعلم مثله في هذا الشأن أيضا ، وكان يقول إذا تغرب عليه أحد برواية مما يذكره بعض شراح الحديث على خلاف المشهور عنده : هذا من التصحيف الذي لم يقف صاحبه إلا على مجرد الصحف والأخذ منها .

التالي السابق


الخدمات العلمية