فتح المغيث بشرح ألفية الحديث للعراقي

السخاوي - شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي

صفحة جزء
[ بيان عدالة الصحابة ] والثالثة : في بيان مرتبتهم . ( وهم ) - رضي الله عنهم - باتفاق أهل السنة ( عدول ) كلهم مطلقا ، كبيرهم وصغيرهم ، لابس الفتنة أم لا ، وجوبا لحسن الظن بهم ، ونظرا إلى ما تمهد لهم من المآثر من امتثال أوامره بعده - صلى الله عليه وسلم - ، وفتحهم الأقاليم ، وتبليغهم عنه الكتاب والسنة ، وهداية الناس ، ومواظبتهم على الصلوات والزكوات وأنواع القربات ، مع الشجاعة والبراعة والكرم والإيثار والأخلاق الحميدة التي لم تكن في أمة من الأمم المتقدمة . قال الخطيب في ( الكفاية ) : عدالة الصحابة ثابتة معلومة بتعديل الله لهم ، وإخباره عن طهارتهم ، واختياره لهم . فمن ذلك قوله تعالى : ( كنتم خير أمة أخرجت للناس ) [ آل عمران : 110 ] ، وقوله : ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا ) [ البقرة : 143 ] ، وقوله : ( لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم ) [ الفتح : 18 ] ، وقوله : ( والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه ) [ التوبة : 100 ] ، وقوله : ( ياأيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين ) [ الأنفال : 64 ] ، وقوله : ( للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون ) [ الحشر : 8 ] إلى قوله : ( إنك رءوف رحيم ) [ الحشر : 10 ] . في آيات كثيرة يطول ذكرها ، وأحاديث شهيرة يكثر تعدادها . وجميع ذلك يقتضي القطع بتعديلهم ، ولا يحتاج أحد منهم مع تعديل الله له إلى تعديل أحد من الخلق .

[ ص: 95 ] على أنه لو لم يرد من الله ورسوله فيهم شيء مما ذكرناه ، لأوجبت الحال التي كانوا عليها من الهجرة ، والجهاد ، ونصرة الإسلام ، وبذل المهج والأموال ، وقتل الآباء والأبناء ، والمناصحة في الدين ، وقوة الإيمان واليقين ، القطع على تعديلهم ، والاعتقاد لنزاهتهم ، وأنهم أفضل من جميع الخالفين بعدهم ، والمعدلين الذين يجيئون من بعدهم . هذا مذهب كافة العلماء ومن يعتمد قوله .

ثم أسند عن أبي زرعة الرازي أنه قال : إذا رأيت الرجل ينتقص أحدا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاعلم أنه زنديق ; وذلك أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - حق ، والقرآن حق ، وما جاء به حق ، وإنما أدى إلينا ذلك كله الصحابة ، وهؤلاء يريدون أن يجرحوا شهودنا ; ليبطلوا الكتاب والسنة . والجرح بهم أولى ، وهم زنادقة . انتهى . وهو كما قال شيخنا فصل حسن .

فأما الآية الأولى ، فالذي رجحه كثير من المفسرين عمومها في أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وخصها آخرون بالصحابة . بل قال بعضهم : اتفقوا على أنها واردة فيهم ، وحينئذ فالاستدلال منها ظاهر . وأما الثانية ، فهي خطاب مع الموجودين منهم حينئذ ، ولكن لا يمتنع إلحاق غيرهم بهم ممن شاركهم في الوصف . وكذا من الآيات : ( والذين معه ) ، ومن غيرها : ( أصحابي كالنجوم ) ، مع ما تحقق عنهم بالتواتر من الجد في الامتثال .

قال شيخنا : والأحاديث الواردة في تفضيل الصحابة كثيرة ، فمن أدلها على المقصود ما رواه الترمذي وابن حبان في صحيحه من حديث عبد الله بن مغفل قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( الله الله في أصحابي ، لا تتخذوهم غرضا ، فمن [ ص: 96 ] أحبهم فبحبي أحبهم ، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ، ومن آذاهم فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى الله ، ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه ) .

وذكر غيره من الأدلة حديث أبي سعيد الخدري : ( ولا تسبوا أصحابي ، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه ) متفق عليه . وهو إن ورد على سبب ، وذلك أنه كان بين خالد بن الوليد وعبد الرحمن بن عوف شيء ، فسبه خالد ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - . . . وذكره ، بحيث خصه بعض أصحاب الحديث بمن طالت صحبته وقاتل معه وأنفق وهاجر ، فالعبرة إنما هي بعموم اللفظ ، لا بخصوص السبب ، كما ذهب إليه الأكثرون ، وصححه القاضي عياض هنا .

ومثل هذا يقال ، وإن كان المقول له صحابيا ; للتنبيه على إرادة حفظ الصحبة عن ذلك . ووجه الاستدلال به أن الوصف لهم بغير العدالة سب ، لا سيما وقد نهى - صلى الله عليه وسلم - بعض من أدركه وصحبه عن التعرض لمن تقدمه ; لشهود المواقف الفاضلة ، فيكون من بعدهم بالنسبة لجميعهم من باب أولى . وحديث : ( خير الناس قرني ) المتواتر مما هو أيضا متفق عليه من حديث ابن مسعود وعمران بن حصين ، حتى بالغ بعضهم فتمسك به لعدالة التابعين أيضا ، وأنه لا يسأل عنهم حتى يقوم الجرح ; لقوله فيه : ( ثم الذين يلونهم ) . وهو فيهم محمول على الغالب . والمراد بقرن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه الصحابة ، وإن أطلق القرن على مدة من الزمان في تحديدها أقوال ، أدناها عشرة أعوام ، وأعلاها مائة وعشرون ، وعليه ينطبق الواقع في كون آخر الصحابة موتا أبو الطفيل ، إن اعتبر ذلك من البعثة ; إذ المدة منها القدر المذكور أو دونه أو فوقه بقليل على الاختلاف في وفاة أبي الطفيل ، أما إن مشينا على أن القرن مائة كما هو المشهور ، بل وقع ما يدل له في حديث لعبد الله بن بسر عند مسلم ، فيكون الاعتبار من موته - صلى الله عليه وسلم - .

[ ص: 97 ] ومن الأدلة أيضا ما جاء عن بهز بن حكيم ، عن أبيه ، عن جده ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ( أنتم توفون سبعين أمة ، أنتم خيرها وأكرمها على الله عز وجل ) أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجه وغيرهم .

وعن سعيد بن المسيب ، عن جابر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إن الله اختار أصحابي على الثقلين سوى النبيين والمرسلين ) . أخرجه البزار بسند رجاله موثقون .

وعن عبد الله بن هاشم الطوسي ، حدثنا وكيع ، سمعت سفيان يقول في قوله تعالى : ( قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى ) [ النمل : 59 ] ، قال : هم أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - . إلى غير ذلك مما يطول إيراده . وممن حكى الإجماع على القول بعدالتهم إمام الحرمين ، قال : ولعل السبب فيه أنهم نقلة الشريعة ، فلو ثبت توقف في روايتهم لانحصرت الشريعة على عصر الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، ولما استرسلت على سائر الأعصار .

ونحوه قول أبي محمد بن حزم : الصحابة كلهم من أهل الجنة قطعا ، قال الله تعالى : ( لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير ) [ الحديد : 10 ] ، وقال تعالى : ( إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون ) [ الأنبياء : 101 ] . قال : فثبت أن الجميع من أهل الجنة ، وأنه لا يدخل أحد منهم النار ; لأنهم المخاطبون بالآية السابقة . فإن قيل : التقييد بالإنفاق والقتال يخرج من لم يتصف بذلك ، وكذلك التقييد بالإحسان في الآية السابقة ، وهي قوله تعالى : ( والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ) ، يخرج من لم يتصف بذلك . فالجواب أن التقييدات المذكورة خرجت مخرج الغالب ، وإلا فالمراد : من اتصف بالإنفاق والقتال بالفعل أو [ ص: 98 ] القوة . ولكن قد أشار إلى الخلاف الكيا الطبري حيث قال : إن عليه كافة أصحابنا . وكذا قال القاضي : هو قول السلف وجمهور الخلف . وحكى الآمدي وابن الحاجب قولا أنهم كغيرهم في لزوم البحث عن عدالتهم مطلقا ، وهو قضية كلام أبي الحسين بن القطان ، قول من الشافعية ; فإنه قال : فوحشي قتل حمزة وله صحبة ، والوليد شرب الخمر . قلنا : من ظهر منه خلاف العدالة لا يقع عليه اسم الصحبة ، والوليد ليس بصحابي ، إنما أصحابه الذين كانوا على طريقته . وهذا عجيب ، فالكل أصحابه باتفاق ، وقتل وحشي لحمزة كان قبل إسلامه ، وأما الوليد وغيره ممن ذكر بما أشار إليه فقد كف النبي - صلى الله عليه وسلم - من لعن بعضهم بقوله : ( لا تلعنه ; فوالله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله ) . كما كف عمر عن حاطب رضي الله عنهما قائلا له : ( إنه شهد بدرا ، وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم ; فقد غفرت لكم ) . لا سيما وهم مخلصون في التوبة فيما لعله صدر منهم ، والحدود كفارات . بل قيل في الوليد بخصوصه : إن بعض أهل الكوفة تعصبوا عليه فشهدوا عليه بغير الحق .

وبالجملة ، فترك الخوض في هذا ونحوه متعين ، وقد أسلفت في أواخر آداب المحدث شيئا مما يرغب في الحث على ترك ذلك . وقولا آخر : إنهم عدول إلى وقت وقوع الفتن ، فأما بعد [ ص: 99 ] ذلك فلا بد من البحث عمن ليس ظاهر العدالة . وذهبت المعتزلة إلى رد من قاتل عليا . وقيل به في الفريق الآخر .

التالي السابق


الخدمات العلمية