فتح المغيث بشرح ألفية الحديث للعراقي

السخاوي - شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي

صفحة جزء
[ مراتب التابعين ] الثانية : في تفاوتهم بأن فيهم القديم الملاقي لقدماء المهاجرين ، أو المدرك للزمن النبوي أو للجاهلية ، والمختص بمزيد الفضيلة عن سائرهم ، وبالعدالة ، وبرواية الصحابة عنهم ، والمتصدي للفتوى ، وإن اشتركوا في الاسم .

( وهم ) لتفاوتهم ( طباق ) . قيل : ثلاث ، كما في ( الطبقات ) لمسلم وابن سعد ، وربما بلغ بها أربعا . ( وقيل ) كما للحاكم في ( علوم الحديث ) : ( خمس عشره ) بكسر الشين المعجمة كما كتبه الناظم بخطه مشيا على لغة تميم ; ليكون مغايرا مع آخر البيت ، ولم يفصل الحاكم الطباق كلها . نعم ، أشعر تصرفه بأن كل من لقي من تقدم كان من الطبقة الأولى ، ثم هكذا إلى آخرها ; بحيث يكون آخرها سليمان بن نافع إن صح أن والده من الصحابة ، وزياد بن طارق الراوي عن زهير بن صرد ، ونحوهما ; كخلف بن خليفة المتوفى - كما سلف قريبا - في سنة إحدى وثمانين ومائة ، وأنه آخر التابعين موتا . وحينئذ ( فأولهم رواة كل العشره ) المشهود لهم [ ص: 149 ] بالجنة ، الذين سمعوا منهم . ( وقيس ) هو ابن أبي حازم ، ( الفرد ) منهم ( بهذا الوصف ) ; أي : روايته عن كلهم ، كما نص عليه عبد الرحمن بن يوسف بن خراش ، وعبارته : وهو كوفي جليل ، وليس في التابعين أحد روى عن العشرة غيره . وكذا قال ابن حبان في ثقاته : روى عن العشرة . ( وقيل ) كما لأبي داود مما قاله الآجري عنه ويعقوب بن شيبة : إنه ( لم يسمع من ابن عوف ) عبد الرحمن ، أحدهم .

( و ) أما ( قول من عد ) مع قيس فيمن سمع العشرة ( سعيدا ) ، هو ابن المسيب ، وهو الحاكم في النوع الثامن والرابع عشر معا من علومه ، بل وعد في ثاني الموضعين غيره ، ( فغلط ) صريح ; لأن سعيدا إنما ولد باتفاق في خلافة عمر ، فكيف يسمع من أبي بكر . والحاكم نفسه معترف بذلك ; حيث قال : أدرك عمر فمن بعده من العشرة . انتهى .

بل سماعه من عمر مختلف فيه ، ولكن ممن جزم بسماعه منه الإمام أحمد ، وأيده شيخنا برواية صحيحة لا مطعن فيها مصرحة بسماع سعيد منه . وكذا في الصحيح سماعه من عثمان وعلي الاختلاف في الإهلال بالحج والعمرة ، وإهلال علي بهما . وكذا جاء عنه قوله : أنا أصلحت بينهما . وأثبت بعضهم سماعه من سعد بن أبي وقاص . وبالجملة ، فلم يسمع من أكثر العشرة . ( بل قيل ) : إنه ( لم يسمع سوى ) ; أي : غير ، ( سعد ) ، وهو ابن أبي وقاص ، ( فقط ) . وكان مستنده قول قتادة الذي رواه مسلم في مقدمة ( صحيحه ) من رواية همام قال : دخل أبو داود الأعمى على قتادة ، فلما قام قالوا : إن هذا يزعم أنه لقي [ ص: 150 ] ثمانية عشر بدريا . فقال قتادة : هذا كان سائلا قبل الجارف ، لا يعرض في شيء من هذا ولا يتكلم فيه ، فوالله ما حدثنا الحسن عن بدري مشافهة ، ولا حدثنا سعيد بن المسيب عن بدري مشافهة إلا عن سعد بن مالك ، هو ابن أبي وقاص . ولكن قد علمت بطلانه ، والمثبت مقدم على النافي ، لا سيما وليست العبارة صريحة في النفي . ( لكنه ) ; أي :سعيدا ، ( الأفضل ) من سائر التابعين ( عند أحمدا ) كما سمعه منه عثمان الحارثي . وكذا قال ابن المديني : هو عندي أجل التابعين ، لا أعلم فيهم أوسع علما منه . وقال أبو حاتم الرازي : ليس في التابعين أنبل منه . وقال سليمان بن موسى : أفقه التابعين . وقال ابن حبان : سيد التابعين . وعنه أيضا : كان من سادات التابعين فقها ودينا وورعا وعبادة وفضلا ، أفقه أهل الحجاز ، وأعبر الناس للرؤيا ، ما نودي بالصلاة من أربعين سنة إلا وهو في المسجد . ونحوه قول ميمون بن مهران : قدمت المدينة فسألت عن أعلم أهل المدينة ، فدفعت إليه . وفي رواية لأبي طالب عن أحمد : ومن مثله ؟ !

( وعنه ) ; أي : عن أحمد قول آخر ، أن الأفضل ( قيس ) هو ابن أبي حازم . ( وسواه ) ، وهو أبو عثمان النهدي عبد الرحمن بن مل ، ومسروق بن الأجدع ( وردا ) ، ولكنه جعلهم على حد سواء ، ولفظه : أفضل التابعين قيس وأبو عثمان ومسروق ، هؤلاء كانوا فاضلين ومن علية التابعين . وفي لفظ آخر : لا أعلم في التابعين مثل أبي عثمان وقيس .

( وفضل الحسن ) البصري ( أهل البصرة ) بفتح الموحدة على المشهور كما تقدم [ ص: 151 ] قبيل المرسل ، فيما قاله أبو عبد الله محمد بن خفيف الشيرازي . والمراد غالبهم ، وإلا فسيأتي قريبا عن إياس بن معاوية البصري قاضيها أنه فضل عليه حفصة ابنة سيرين . ( و ) فضل ( القرني ) بفتح القاف والراء ثم نون وياء نسبة ساكنة ( أويسا اهل الكوفة ) فيما قاله ابن خفيف أيضا . وكلام ابن كثير يقتضي أن جمهورهم فضل علقمة والأسود النخعيين . وفضل سعيد بن المسيب أهل المدينة ، فيما قاله ابن خفيف أيضا ، وعطاء بن أبي رباح بعض أهل مكة ، وكل اجتهد فجزم بما ظنه . واستحسن ابن الصلاح حكاية ابن خفيف في ( التفصيل ) ، وصوب المصنف القائلين بأويس بحديث عمر : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( إن خير التابعين رجل يقال له : أويس ) . وقال : فهذا الحديث قاطع للنزاع . وتفضيل أحمد لابن المسيب لعله أراد الأفضلية في العلم ، لا الخيرية ; فقد فرق بينهما بعض شيوخ الخطابي فيما حكاه الخطابي عنه ، يعني كما قدمته في الصحابة . وبهذا جزم النووي في ( شرح مسلم ) ، فقال : مرادهم أن سعيدا أفضل في العلوم الشرعية ; كالتفسير والحديث والفقه ونحوها ، لا في الخيرية عند الله .

وأما قول المصنف : لعل أحمد لم يبلغه الحديث ، أو لم يصح عنده ، فلا يحسن ; فإنه قد أخرجه في مسنده من الطريق التي أخرجه مسلم منها بلفظ : ( إن خير التابعين رجل يقال له : أويس ) . لكن قد أخرجه في المسند أيضا بلفظ : ( إن من خير التابعين . . . ) ، فقال : ثنا أبو نعيم ، ثنا شريك ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال : نادى رجل من أهل الشام يوم صفين : أفيكم أويس القرني ؟ قالوا : نعم ، قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . . . وذكره . وكذا رواه جماعة عن شريك ، فزال الحصر .

فهذه أقوالهم في أفضل الرجال من التابعين ، وليس الخوض في ذلك بممتنع ; [ ص: 152 ] لانضباط التابعين ; كالحكم لإسناد معين بالنظر لصحابي خاص ، ولكتاب معين بالأصحية . وقول ابن الصلاح في أفراد العلم : الحق أن هذا - يعني قولهم : ليس في الرواة من يسمى كذا سوى فلان - فن يصعب الحكم فيه ، والحاكم فيه على خطر من الخطأ والانتقاض ; فإنه حصر في باب واسع الانتشار ، قد يشير إلى المنع من ذاك بخصوصه ; كالحكم لسند معين بأنه أصح أسانيد الدنيا ; لاتساعه وانتشاره ، كما تقرر في بابه من أول الكتاب .

( وفي نساء التابعين الأبدا ) ; أي : أبدأهن ، بمعنى : أولهن في الفضل ، ( حفصة ) ابنة سيرين ; لما رواه أبو بكر بن أبي داود بسنده إلى هشام بن حسان عن إياس بن معاوية قال : ما أدركت أحدا أفضله ، يعني عليها . فقيل له : ولا الحسن وابن سيرين ؟ فقال : أما أنا فما أفضل عليها أحدا . وكذا قال أبو بكر بن أبي داود نفسه ، لكن قرن معها غيرها ; فإنه قال : سيدتا التابعين من النساء حفصة ( مع ) بإسكان العين ( عمرة ) ابنة عبد الرحمن . ( وأم الدردا ) بالقصر ، يعني : الصغرى ، واسمها هجيمة أو جهيمة ، لا الكبرى ، فتلك صحابية واسمها خيرة . وقد صنف سعيد بن أسد بن موسى وغيره في فضائل التابعين . وكتاب سعيد في مجلدين . ولم يتعرض ابن الصلاح وأتباعه لحكمهم في العدالة وغيرها . وقد اختلف في ذلك ، فذهب بعضهم إلى القول بها في جميعهم ، وإن تفاوتت مراتبهم في الفضيلة ، متمسكا بحديث : ( خير الناس قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ) . والجمهور على خلافه فيمن بعد الصحابة ، كما تقدم في المرسل ، وأنه لا بد من التنصيص على عدالتهم كغيرهم . قالوا : والحديث محمول في القرنين بعد الأول على الغالب والأكثرية ; لأنه قد وجد فيهما من وجدت فيه الصفات المذمومة ، لكن بقلة في أولهما ، [ ص: 153 ] بخلاف من بعده ; فإن ذلك كثر فيه واشتهر ، وكان آخر من كان في أتباع التابعين ممن يقبل قوله من عاش إلى حدود العشرين ومائتين ، وفي هذا الوقت ظهرت البدع ظهورا فاشيا ، وأطلقت المعتزلة ألسنتها ، ورفعت الفلاسفة رءوسها ، وامتحن أهل العلم ليقولوا بخلق القرآن ، وتغيرت الأحوال تغيرا شديدا ، ولم يزل الأمر في نقص إلى الآن ، نسأل الله السلامة .

وبالجملة ، فخير الناس قرنا بعد الصحابة من شافه الصحابة وحفظ عنهم الدين والسنن ، أو لقيهم ، وقد أثنى الله عز وجل على التابعين بإحسان فقال : ( والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه ) الآية [ التوبة : 100 ] . وكان في التابعين من روى عنه بعض الصحابة ; كرواية العبادلة الأربعة وغيرهم من الصحابة عن كعب الأحبار ، على ما سيأتي في الأكابر عن الأصاغر .

التالي السابق


الخدمات العلمية