فتح المغيث بشرح ألفية الحديث للعراقي

السخاوي - شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي

صفحة جزء
[ تعريف المخضرم وعدده ] ( و ) أما ( المدركون جاهلية ) قبل البعثة أو بعدها ، صغارا كانوا أو كبارا ، في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ممن لم يره بعد البعثة ، أو رآه لكن غير مسلم ، وأسلم في حياته أو بعده ، ( فسم ) هؤلاء ( مخضرمين ) بالخاء والضاد المعجمتين وفتح الراء ، كما عزاه أبو موسى المديني في آخر ذيله للمحدثين ، على أنه اسم مفعول . وحكى بعض اللغويين فيها بالكسر أيضا . وما حكاه الحاكم عن بعض أدباء مشايخه من أن اشتقاقه - يعني أخذه - من كون أهل الجاهلية ممن أسلم ولم يهاجر كانوا يخضرمون آذان الإبل ; أي : يقطعونها ; لتكون علامة لإسلامهم إن أغير عليهم أو حوربوا ، محتمل لهما . فللكسر من أجل أنهم خضرموا آذان الإبل ، فسموا - كما قال أبو موسى المديني - مخضرمين ، يعني بكسر الراء على الفاعلية ، ومحتمل للفتح من أجل أنهم خضرموا ; أي : قطعوا عن نظرائهم . واقتصر ابن خلكان في الوفيات على كسر الراء ، لكن من إهمال الحاء ، وأغرب في ذلك ، ونصه : قد سمع محضرم بالحاء المهملة وبكسر الراء . انتهى .

وخصهم ابن قتيبة بمن أدرك الإسلام في الكبر ثم أسلم بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - ; كجبير بن نفير ; فإنه أسلم وهو بالغ في خلافة أبي بكر كما قاله أبو حسان الزيادي . وبعضهم بمن أسلم في حياته - صلى الله عليه وسلم - ; كزيد بن وهب ; فإنه رحل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقبض النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في الطريق . وكذا وقع لقيس بن أبي حازم وأبي مسلم الخولاني وأبي عبد الله [ ص: 158 ] الصنابحي ، مات النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل قدومهم بليال . وأقرب من هؤلاء سويد بن غفلة ، قدم حين نفضت الأيدي من دفنه - صلى الله عليه وسلم - على الأصح ، في آخرين .

وقال صاحب ( المحكم ) : رجل مخضرم إذا كان نصف عمره في الجاهلية ، ونصفه في الإسلام . وشاعر مخضرم أدرك الجاهلية والإسلام ، فلم يشترط نفي الصحبة .

ومقتضى هذا أن حكيم بن حزام وشبهه في ذلك مخضرم . ونحوه قول الجوهري : المخضرم أيضا الشاعر الذي أدرك الجاهلية والإسلام ; مثل لبيد . فإنه ، وإن كان مطلقا ، فتمثيله بلبيد أحد الصحابة مقيد له مع احتماله موافقة الذي قبله . وليس كذلك في الاصطلاح الموافق لمدلول الخضرمة ; فقد قال صاحب ( المحكم ) : مخضرم : ناقص الحسب . وقيل : هو الذي ليس بكريم الحسب . وقيل : هو الدعي . وقيل : هو الذي لا يعرف أبواه . وقيل : من أبوه أبيض ، وهو أسود . وقيل : هو الذي ولدته السراري . والخضرمة قطع إحدى الأذنين . وامرأة مخضرمة : مختونة . ولحم مخضرم بفتح الراء : لا يدرى من ذكر هو أو أنثى . وكذا قال في ( الصحاح ) : رجل مخضرم النسب ; أي : دعي . وناقة مخضرمة ; أي : مخفوضة . ولحم مخضرم . . . إلى آخره . والشاهد في جملة : ولحم مخضرم . . . إلى آخره . وكثير مما في ( المحكم ) ; إذ المخضرمون كذلك مترددون بين الصحابة للمعاصرة ، وبين التابعين لعدم الرؤية . ونحوه قول العسكري في ( الدلائل ) : المخضرمة من الإبل : التي نتجت بين العراب والبخاتي ، فقيل : رجل مخضرم : إذا عاش في الجاهلية والإسلام . قال : وهنا أعجب الأمرين إلي . وكأنه متردد بين أمرين : هل هو من هذا أو من هذا ، وهو كما قال البلقيني : يقرب منه ما اشتهر في العرف من إطلاق هذا الاسم على من يشتغل بهذا الفن وهذا الفن ، ولا يمعن في واحد منهما . قال : ويطلق المخضرم على من لم يحج . وسبقه عمرو بن بحر الجاحظ فقال في كتاب ( الحيوان ) : وقد علمنا أن قولهم : مخضرم لمن لم يحج صرورة ، ولمن أدرك [ ص: 159 ] الجاهلية والإسلام . وقال غيره : ويجوز أن يكون مأخوذا من النقص ; لكونه ناقص الرتبة عن الصحابة ; لعدم وجود ما يصير به صحابيا ، مع إدراكه ما يمكن به وجود ذلك . ومنه : ناقص الحسب ، ونحوه مما تقدم . وفي النهاية : وأصل الخضرمة أن يجعل الشيء بين بين ، فإذا قطع بعض الأذن فهي بين الوافرة والناقصة . وقيل : هي المنتوجة بين النجائب والعكاظيات ، قال : وكان أهل الجاهلية يخضرمون نعمهم ، فلما جاء الإسلام أمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يخضرموا من غير هذا الموضع الذي يخضرم منه أهل الجاهلية . ومنه قيل لكل من أدرك الجاهلية والإسلام : مخضرم ; لأنه أدرك الخضرمتين .

على أن في كلام ابن حبان في ( صحيحه ) ما قد يوافق قول صاحب ( المحكم ) . ومن لعله وافقه من اللغويين فإنه قال : الرجل إذا كان له في الكفر ستون سنة ، وفي الإسلام ستون يدعى مخضرما . ولكن لعله أراد ممن ليست له صحبة ; لأنه ذكر ذلك عند أبي عمرو الشيباني . أو أراد أنه يسمى مخضرما لغة ، لا اصطلاحا . ثم إن ظاهره التقيد بهذا السن المخصوص ، وليس كذلك ، بل مجرد إدراك الجاهلية ولو كان صغيرا كاف . ولكن ما المراد بالجاهلية ؟ أهي ما قبل البعثة أم لا ؟ قال النووي في ( شرح مسلم ) عند قول مسلم : وهذا أبو عثمان النهدي وأبو رافع الصائغ ، وهما ممن أدرك الجاهلية ; أي : كانا رجلين قبل البعثة ، ما نصه : والجاهلية ما قبل بعثته - صلى الله عليه وسلم - ، سموا بذلك لكثرة جهالاتهم . وقيل : ذلك إدراك قومه أو غيرهم على الكفر ، لكن قبل فتح مكة ; لزوال أمر الجاهلية حين خطب - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح وأبطل أمور الجاهلية ، إلا ما كان من سقاية الحاج وسدانة الكعبة .

قلت : وصنيع مسلم وغيره يقتضي ما هو أعم من ذلك لذكره المشار [ ص: 160 ] إليهما فيهم . وكذا يسير بن عمرو ، وهو إنما ولد بعد زمن الهجرة ، وكان له عند موت النبي - صلى الله عليه وسلم - دون عشر سنين ، فأدرك بعض زمن الجاهلية في قومه . بل ذكر شيخنا تبعا لغيره في القسم الذي عقد لهم من إصابته : كل من له إدراك ما للزمن النبوي . وهو ظاهر ، مع أنه لا يفصح غالبا بالوصف بذلك في الترجمة إلا لمن طال إدراكه ، ومن عداهم يقتصر على قوله : له إدراك .

وأما الحاكم ، فجعل الذين ولدوا في الزمن النبوي ممن لم يسمع منه طبقة بعد المخضرمين ، وذكر فيهم الصنابحي وعلقمة بن قيس . بل وأدرج فيهم من له رؤية ، وهو صنيع منتقد ، فمن له رؤية إما أن يذكر في الصحابة ، أو يكون طبقة أعلى من المخضرمين . والمخضرمون باتفاق من أهل العلم بالحديث ليسوا صحابة ، بل معدودون في كبار التابعين . وقد جعلهم الحاكم طبقة مستقلة من التابعين ، سواء أعرف أن الواحد منهم كان مسلما في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - ; كالنجاشي ، أم لا . لكن من كان منهم مؤمنا به في زمن الإسراء يأتي فيه ما قدمته في تعريف الصحابي عن شيخنا . وعد ابن عبد البر لهم في الصحابة ، لا لكونه يقول : إنهم صحابة ، كما نسبه إليه عياض وغيره ، بل لكونه كما أفصح به في خطبة كتابه رام أن يكون كتابه به جامعا مستوعبا لأهل القرن الأول . ونحوه قول أبي حفص بن شاهين معتذرا عن إخراجه ترجمة النجاشي : إنه صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - في حياته . وغير ذلك . ولو كان من هذا سبيله يدخل عنده في الصحابة ما احتاج إلى اعتذار .

وكذا عد غير واحد من مصنفي الصحابة جماعة منهم ; لكون أمرهم على الاحتمال ، حتى إن بعضهم يصرح بقوله : لا أدري أله رؤية أم لا . وأحاديثهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلة بالاتفاق بين أهل العلم بالحديث . وقد صرح ابن عبد البر نفسه بذلك في [ ص: 161 ] ( التمهيد ) وغيره من كتبه . نعم ، لو حفظ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حال رؤيته له ، ثم أداه بعد إسلامه ، كان محكوما له بالاتصال ، كما قدمته في المرسل .

وهم كثيرون ; ( كسويد ) بمهملة مصغر ، وابن غفلة بمعجمة وفاء مفتوحتين ، ( في أمم ) بلغ بهم مسلم بن الحجاج عشرين ، ومغلطاي أزيد من مائة . ومن طالع ( الإصابة ) لشيخنا وجد منهم كما قدمت خلقا . وأفردهم البرهان الحلبي الحافظ في جزء سماه ( تذكرة الطالب المعلم فيمن يقال : إنه مخضرم ) . ورأيت أن أسرد منهم جملة على الحروف أستوعب فيها من عند مسلم ، راقما له ( م ) . الأحنف بن قيس ، بل يروى بسند لين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا له . أسلم مولى عمر ، الأسود بن هلال المحاربي ( م ) ، الأسود بن يزيد النخعي ( م ) ، أويس القرني ، أوسط البجلي ، ثمامة بن حزم القشيري ( م ) ، جبير بن نفير الحضرمي ( م ) ، حجر بن عنبس ، خالد بن عمير العدوي ( م ) ، الربيع بن ضبع بن وهب الفزاري الآتي في المعمرين بين الوفيات ( م ) ، ربيعة بن زرارة ، أبو الحلال العتكي ( م ) ، زيد بن وهب الجهني ( م ) ، سعد بن إياس أبو عمرو الشيباني ( م ) ، سويد بن غفلة ( م ) ، شبل بن عوف الأحمسي ( م ) ، شريح بن الحارث القاضي ، شريح بن هانئ ( م ) ، شقيق بن سلمة أبو وائل ، عبد الله بن ثوب أبو مسلم الخولاني ، عبد الله بن عكيم ، عبد الرحمن بن عسيلة أبو عبد الله الصنابحي ، عبد الرحمن بن غنم الأشعري أحد من تفقه به أهل دمشق ، عبد الرحمن بن مل أبو عثمان النهدي ( م ) ، عبد الرحمن بن يربوع ، [ ص: 162 ] عبد خير بن يزيد الخيواني ( م ) ، عبيدة السلماني ، علقمة بن قيس ، عمران بن ملحان أبو رجاء العطاردي ( م ) ، عمرو بن عبد الله بن الأصم ، عمرو بن ميمون الأودي ( م ) ، غنيم بن أبي قيس ( م ) ، قيس بن أبي حازم ، كعب الأحبار ، مالك بن عمير ( م ) ، مرة بن شراحيل الطيب ، مسروق بن الأجدع ، مسعود بن خراش أخو ربعي ( م ) ، المعرور بن سويد ( م ) ، نفيع أبو رافع الصائغ ( م ) ، يسير أو أسير بن عمرو بن جابر ( م ) ، أبو أمية الشعباني .

وذكر مسلم لمسعود بن حراش بناء على عدم صحبته كما ذهب إليه غيره ، وإلا فقد أثبتها البخاري . كما أدخل غيره في المخضرمين جبير بن الحويرث وحابسا اليمامي وطارق بن شهاب الأحمسي وغيرهم ممن له رؤية أو صحبة بناء على عدم ثبوته عنده أو لعدم الاطلاع عليه . وهذه مسألة أخرى لها تعلق بكل من الصحابة والتابعين ; فلذا أخرت عنهما .

( و ) من فروعها أنه ( قد يعد في الطباق ) التي يجعل كل طبقة منها للمشتركين في السند ; كما سيأتي في طبقات الرواة ، ( التابع ) لبعض الصحابة ( في تابعيهم ) ; أي : تابعي التابعين ; ( إذ يكون الشائع ) الغالب عن ذاك التابعي ( الحمل عنهم ) ; أي : عن التابعين ; ( كأبي الزناد ) بكسر الزاء المعجمة المشددة ثم نون خفيفة ، وآخره دال مهملة ، عبد الله بن ذكوان ; فإنه كما قال خليفة بن خياط : قد لقي ابن عمر وأنسا وأبا أمامة بن سهل بن حنيف ، ومع ذلك فعداده عند أكثر الناس في أتباع التابعين . نعم ، قال العجلي : تابعي ثقة . وذكره مسلم في الطبقة الثالثة من التابعين ، وابن حبان في التابعين . وكهشام بن عروة فإنه أدخل على ابن عمر فرآه ومسح [ ص: 163 ] رأسه ودعا له ، ورأى جابرا وسهل بن سعد وأنسا ، وروى عن عمه عبد الله بن الزبير . وكموسى بن عقبة ; فإنه أدرك ابن عمر وسهل بن سعد وأنسا ، وروى عن أم خالد ابنة خالد بن سعيد بن العاص الصحابية . ومع ذلك فهما عندهم كما أشار إليه الحاكم في عداد أتباع التابعين . وكعمرو بن شعيب ; فإنه قد سمع زينب ابنة أبي سلمة والربيع ابنة معوذ بن عفراء الصحابيتين مع عد غير واحد له في أتباع التابعين ; كأبي بكر النقاش وعبد الغني بن سعيد والدارقطني وأبي محمد عبد الرزاق الطبسي وغيرهم ، بحيث أدرجه ابن الصلاح في أمثلة رواية الأكابر عن الأصاغر ، فقال : وعمرو بن شعيب لم يكن من التابعين ، وروى عنه أكثر من عشرين نفسا من التابعين . وهو منتقد بما قررناه . وحاصل هذا أنه أخرج من التابعين من هو معدود فيهم . ( والعكس جاء ) ، وهو عد أصحاب الطباق في التابعين من لم يصح سماعه ، بل ولا لقيه لأحد من الصحابة ، وهو من أتباع التابعين جزما حسبما أشار إليه الحاكم ; كإبراهيم بن سويد النخعي ، وليس بابن يزيد الشهير ، وكبكير بن أبي السميط المسمعي ، وسعيد وواصل أبي حرة ابني عبد الرحمن البصري . ( وهو ) ; أي : العكس ، الذي هو الإدخال في التابعين لمن ليس منهم ، كما زاده الناظم ، ( ذو فساد ) ; يعني : أشد من الذي قبله ، وإلا فذاك أيضا خطأ ممن صنعه .

( و ) نحو الأول ، وهو الإخراج عن التابعين لمن هو منهم ، أنه ( قد يعد ) في الطباق [ ص: 164 ] أيضا ( تابعيا صاحب ) ; أي : بأن يذكر في التابعين بعض الصحابة ( كـ ) نعمان وسويد ( ابني مقرن ) بضم الميم وفتح القاف وتشديد الراء المكسورة وآخره نون ، المزني ; فقد عدهما الحاكم غلطا في الآخرة من التابعين ، وهما صحابيان معروفان من جملة المهاجرين ، كما سيأتي في نوع الإخوة والأخوات .

قال ابن الصلاح : وعده لهما في التابعين من أعجب ذلك ، يعني : الأمثلة فيه . زاد الناظم : ( و ) كـ ( من يقارب ) التابعين في طبقتهم من أجل أن روايته أو جلها عن الصحابة ; فقد عد مسلم وابن سعد في التابعين من طبقاتهما يوسف بن عبد الله بن سلام ومحمود بن لبيد . وابن سعد وحده محمود بن الربيع . وعكسه وهو عد بعض التابعين صحابيا ; كعبد الرحمن بن غنم الأشعري ; فقد عده محمد بن الربيع الجيزي فيمن دخل مصر من الصحابة . فوهم فيما قاله المصنف ، وليس كذلك ، وابن الربيع إنما نقله عن غيره ، فقال : أخبرني يحيى بن عثمان أن ابن لهيعة والليث قالا : له صحبة . وكذا حكاه ابن منده عن يحيى بن بكير عنهما ، وأثبتها أيضا البخاري وابن يونس وغيرهما ، وأخرج أحمد وغيره من أحاديثه ما يدل - كما قال شيخنا - لصحبته . نعم لهم ، عبد الرحمن بن غنم الأشعري آخر تفقه به أهل دمشق ، فلعله الذي ظنه المؤلف ، ومع ذلك فله إدراك ، بحيث عد في مخضرمين ، وقال فيه ابن حبان : زعموا أن له صحبة ، وليس ذلك بصحيح عندي . ولكن لذلك أمثلة كثيرة ، منها إبراهيم بن عبد الرحمن العذري راوي حديث : ( يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ) . ذكره ابن منده وغيره في الصحابة ، وهو تابعي أرسل . وكثيرا ما يقع ذلك [ ص: 165 ] فيمن يرسل من التابعين ; إذ اعتمادهم غالبا إنما هو على ما يقع لهم من الروايات بحسب مبلغ علمهم واطلاعهم ، وفوق كل ذي علم عليم .

التالي السابق


الخدمات العلمية