فتح المغيث بشرح ألفية الحديث للعراقي

السخاوي - شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي

صفحة جزء
الأكابر عن الأصاغر

831 - وقد روى الكبير عن ذي الصغر طبقة وسنا او في القدر      832 - أو فيهما ومنه أخذ الصحب
عن تابع كعدة عن كعب

( الأكابر ) الذين يروون ( عن الأصاغر ) ، وهو نوع مهم تدعو لفعله الهمم العلية والأنفس الزكية ; ولذا قيل كما تقدم في محله : لا يكون الرجل محدثا حتى يأخذ عمن فوقه ومثله ودونه . وفائدة ضبطه الخوف من ظن الانقلاب في السند مع ما فيه من العمل بقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( أنزلوا الناس منازلهم ) .

وإلى ذلك أشار ابن الصلاح بقوله : ومن الفائدة فيه ألا يتوهم كون المروي عنه أكبر وأفضل ; نظرا إلى أن الأغلب كون المروي عنه كذلك ، فتجهل بذلك منزلتهما .

والأصل فيه رواية النبي - صلى الله عليه وسلم - في خطبته حديث الجساسة عن تميم الداري كما في صحيح مسلم ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - في كتابه إلى اليمن : ( وإن مالكا - يعني ابن مرارة - حدثني بكذا ) ، وذكر شيئا . أخرجه ابن منده . وقوله أيضا : ( حدثني عمر أنه ما سابق أبا بكر إلى خير قط إلا سبقه ) ، أخرجه الخطيب في تاريخه والديلمي . إلى غير ذلك ; [ ص: 166 ] كأمر الأذان ، وما ذكره - صلى الله عليه وسلم - عن سعد بن عبادة . وفيه تأليف لإسحاق بن إبراهيم المنجنيقي سمعته ، ولمحمد بن حميد بن سهل المخرمي ، وفي مستخرج ابن منده لتذكرة أشياء نفيسة من ذلك .

( وقد روى الكبير عن ذي الصغر ) بضم الصاد المهملة وتسكين الغين المعجمة ; أي : عن الصغير . وذلك ينقسم أقساما : ( طبقة وسنا ) ; أي : إما أن تكون الرواية عن أصغر منه فيهما ، وهما لتلازمهما غالبا كالشيء الواحد ، لا في الجلالة والقدر ; كرواية كل من الزهري ويحيى بن سعيد الأنصاري عن تلميذهما الإمام الجليل مالك بن أنس في خلق غيرهما ممن روى عن مالك من شيوخه ، بحيث أفردهم الرشيد العطار في مصنف سماه : ( الإعلام بمن حدث عن مالك بن أنس الإمام من مشايخه السادة الأعلام ) . ومن قبله أفردهم محمد بن مخلد الدوري ، وهو في مسموعاتي . وكرواية أبي القاسم عبيد الله بن أحمد الأزهري من المتأخرين في بعض تصانيفه عن تلميذه الحافظ الجليل الخطيب ، والخطيب إذ ذاك في عنفوان شبابه وطلبه .

( او ) بالنقل ، روى الحافظ العالم عمن هو أصغر منه ( في القدر ) فقط دون السن ; كرواية مالك وابن أبي ذئب عن شيخهما عبد الله بن دينار وأشباهه ، وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه عن شيخهما عبيد الله بن موسى ، مع كونهم دون الرواة عنهم في الحفظ والعلم ; لأجل روايتهم . وذلك كثير جدا ، فكم من حافظ جليل أخذ عن مسند محض كالحجار ، أو عمن دونه في اللقي خاصة دون السن أيضا . ( أو ) روى عمن هو أصغر منه ( فيهما ) ; أي : في السن الملازم للطبقة كما مر ، وفي القدر معا ; كرواية كثير من الحفاظ والعلماء عن أصحابهم وتلامذتهم ; مثل عبد الغني بن سعيد عن محمد بن علي الصوري ، والخطيب عن أبي النصر بن ماكولا ، في نظائرهما .

وحاصلها يرجع إلى رواية الراوي عمن دونه في اللقي أو في السن أو في المقدار .

[ ص: 167 ] ( ومنه ) ; أي : ومن هذا النوع ، ( أخذ الصحب ) ; أي : الصحابة ، ( عن تابع ) لهم ; ( كـ ) رواية ( عدة ) من الصحابة ، فيهم العبادلة الأربعة وعمر وعلي وأنس ومعاوية وأبو هريرة رضي الله عنهم ( عن كعب ) الأحبار في أشباه لذلك ، أفردها الخطيب في جزء رواية الصحابة عن التابعين ، وقد رتبته ولخصه شيخنا فيما أخذت عنه . ومن أمثلته ما رواه الترمذي في ( جامعه ) من حديث صالح بن كيسان ، عن الزهري ، عن سهل بن سعد ، عن مروان بن الحكم ، عن زيد بن ثابت ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أملى عليه : ( لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله ) ، قال : فجاءه ابن أم مكتوم ، الحديث .

وقال عقبه : وهذا الحديث يرويه رجل من الصحابة ، وهو سهل ، عن رجل من التابعين ، وهو مروان .

ويلتحق بذلك ما في صحيح البخاري من رواية معاوية بن أبي سفيان عن مالك بن يخامر عن معاذ لزيادة ( وهم بالشام ) في حديث : ( لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق ) ، فمالك المذكور كما قال أبو نعيم : لا يثبت كونه صحابيا . ورواية الصحابة عن التابعين ، وكذا الآباء عن الأبناء ، والشيخ عن التلميذ ، وإن كانت من مسائل هذا النوع ، فهي أخص من مطلقه .

وكذا أخذ التابعين عن أتباعهم ; كالزهري ويحيى بن سعيد عن مالك ، وكعمرو بن دينار وأبي إسحاق السبيعي وهشام بن عروة ويحيى بن أبي كثير عن معمر ، وكقتادة والزهري ويحيى بن أبي كثير عن الأوزاعي .

ومن ظريف أمثلة هذا النوع أن الشريف يعقوب المغربي المالكي المتوفى في سنة ثلاث وثمانين وسبعمائة ( 783هـ ) كان يواظب الحضور عند الولي ابن الناظم في المدرسة الظاهرية القديمة ; لكونه منزلا في طلبتها مع كونه في عداد [ ص: 168 ] شيوخه . بل ذكر السراج بن الملقن أنه قرأ عليه في مذهب مالك ; ولذا قال الولي : فقد أخذ المذكور عني ، وأخذ عنه شيخي . قال : وهذه ظريفة .

ومن فوائد هذا النوع وما أشبهه التنويه من الكبير بذكر الصغير ، وإلفات الناس إليه في الأخذ عنه . وقد قال التاج السبكي بعد إفادته : إن إمام الحرمين نقل في الوصية من نهايته عن تلميذه أبي نصر بن أبي القاسم القشيري ، وهذا أعظم ما عظم به أبو نصر ، فهو فخار لا يعدله شيء . وكذا نقل الجمال الأسنوي في المهمات وغيرها عن الناظم واصفا له بحافظ العصر مع كونه من تلامذته ، وهو وأمثاله مما يعد من مفاخر كل من الراوي والمروي عنه . وذكرت مما وقع لشيخنا من ذلك مع طلبته في ترجمته جملة .

التالي السابق


الخدمات العلمية