فتح المغيث بشرح ألفية الحديث للعراقي

السخاوي - شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي

صفحة جزء
المبهمات

948 - ومبهم الرواة ما لم يسمى كامرأة في الحيض وهي أسما      949 - ومن رقى سيد ذاك الحي
راق أبو سعيد الخدري      950 - ومنه نحو ابن فلان عمه
عمته زوجته ابن أمه

( ومبهم الرواة ) من الرجال والنساء ( ما لم يسمى ) بإسكان ثانيه في بعض الروايات أو جميعها ; إما اختصارا أو شكا أو نحو ذلك ، وهو مهم ، وفائدة البحث عنه زوال الجهالة التي يرد الخبر معها ، حيث يكون الإبهام في أصل الإسناد ، كأن يقال : أخبرني رجل أو شيخ أو فلان أو بعضهم . لأن شرط قبول الخبر - كما علم - عدالة راويه ، ومن أبهم اسمه لا تعرف عينه فكيف عدالته ؟ ! بل ولو فرض تعديل الراوي عنه له مع إبهامه إياه لا يكفي على الأصح كما تقرر في بابه ، وما عداه مما يقع في أصل المتن ونحوه قال فيه ابن كثير : إنه قليل الجدوى بالنسبة إلى معرفة الحكم من الحديث ، ولكنه شيء يتحلى به كثير من المحدثين وغيرهم . كذا قال ، بل من فوائده أن يكون المبهم سائلا عن حكم عارضه حديث آخر فيستفاد بمعرفته النسخ وعدمه إن عرف زمن إسلام ذلك الصحابي وكان قد أخبر عن قصة قد شاهدها وهو مسلم .

[ ص: 299 ] وقد صنف فيه عبد الغني بن سعيد ثم الخطيب مرتبا له على الحروف في المبهم ثم ابن بشكوال في الغوامض والمبهمات بدون ترتيب ، وهو أجمعها ، وقد اختصر النووي كتاب الخطيب مع نفائس ضمها إليه مهذبا محسنا ، لا سيما في ترتيبه على الحروف في راوي الخبر مما سهل به الكشف منه بالنسبة لأصله ، وسماه الإشارات إلى المبهمات ، واختصر أبو الحسن علي بن السراج بن الملقن والبرهان الحلبي كتاب ابن بشكوال بحذف الأسانيد ، وأتى أولهما فيه بزيادات .

وكذا صنف فيه أبو الفضل بن طاهر ، واعتنى ابن الأثير في أواخر كتابه ( جامع الأصول ) بتحريرها ، وكذا أورد ابن الجوزي في تلقيحه منها جملة ، وللقطب القسطلاني ( الإيضاح عن المعجم من الغامض والمبهم ) وللولي العراقي ( المستفاد من مبهمات المتن والإسناد ) ، ورتبه على الأبواب ، واعتنى شيخنا بذلك لكن بالنسبة لصحيح البخاري فأربى فيه على من سبقه ، بحيث كان معول القاضي جلال الدين البلقيني في تصنيفه المفرد في ذلك ، عليه .

والأصل فيه قول ابن عباس : ( لم أزل حريصا على أن أسأل عمر عن المرأتين اللتين قال الله لهما : ( إن تتوبا إلى الله ) . إلى أن خرج حاجا ، فخرجت معه ، فلما رجعنا وكنا ببعض الطريق عدل إلى الأراك لحاجة له ، فوقفت له حتى فرغ ثم سرت معه فقلت : يا أمير المؤمنين من اللتان تظاهرتا على النبي صلى الله عليه وسلم من أزواجه ؟ قال : هما حفصة وعائشة .

ويعرف تعيين المبهم برواية أخرى مصرحة به أو بالتنصيص من أهل السير ونحوهم إن اتفقت الطرق على الإبهام ، وربما استدل له بورود تلك القصة المبهم صاحبها لمعين مع احتمال تعددها كما سيأتي بعد ، وأمثلته في المتن والإسناد كثيرة .

ففي المتن ( كامرأة ) سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن غسلها ( في الحيض ) فقال لها : ( خذي [ ص: 300 ] فرصة ممسكة ) . . . الحديث . متفق عليه من رواية منصور بن صفية عن أمه ، عن عائشة ( وهي ) كما أخرجه مسلم من رواية شعبة عن إبراهيم بن مهاجر عن صفية ، عن عائشة ( أسما ) ، لكنها مهملة من نسبة تتميز بها ; ولذا اختلف الحفاظ في تعيينها فقال الخطيب : هي ابنة يزيد بن السكن الأنصارية ، وقال ابن بشكوال : هي ابنة شكل . وصوب لثبوته في مسلم أيضا من حديث أبي الأحوص عن ابن مهاجر ، ولكن قال النووي : يجوز أن تكون القصة وقعت لهما معا في مجلس أو مجلسين ، ومال إليه شيخنا فإنه بعد أن حكى أن الدمياطي يعني في حاشية نسخته لصحيح مسلم ادعى في رواية مسلم المعينة التصحيف ، وأن الصواب السكن بالمهملة وآخره نون ; كما جزم به ابن الجوزي في تلقيحه تبعا للخطيب ، وأنها نسبت لجدها فهي ابنة يزيد بن السكن ، قال : إنه رد للأخبار الصحيحة بمجرد التوهم ، وإلا فما المانع أن تكونا امرأتين ، خصوصا وقد وقع في مصنف ابن أبي شيبة كما في مسلم ، فانتفى عنه الوهم ، وبذلك جزم ابن طاهر وأبو موسى المديني وأبو علي الجياني ، وكقول ابن عباس : إن رجلا قال : يا رسول الله ، الحج كل عام ؟ فالرجل هو الأقرع بن حابس .

( و ) منها ( من رقى سيد ذاك الحي ) من العرب الذين مر بهم أناس من الصحابة حين أصيب أو لسع بعد سؤال الحي إياهم : أفيكم من يرقي سيدنا ؟ فامتنعوا إلا بجعل ; لكونهم استضافوهم فلم يضيفوهم ، فـ ( راق ) أي : فاعل الرقية الذي لم يسم في رواية الشيخين وسائر الستة ، قال الخطيب : هو ( أبو سعيد الخدري ) راوي القصة يعني كما رواه الترمذي والنسائي وأحمد وعبد وغيرهم مما صححه ابن [ ص: 301 ] حبان وغيره ، كلهم من حديث الأعمش ، عن جعفر بن إياس ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد ، ولفظ أحدهم : ( قلت : نعم أنا ، ولكن لا أرقيه حتى تعطونا غنما ) . وفيه أيضا : ( إن عدتها ثلاثون شاة وعدة السرية كذلك ) . وفي رواية عند أحمد والدارقطني من حديث سليمان بن قتة بفتح القاف وتشديد المثناة ، عن أبي سعيد : ( فأتيته فرقيته بفاتحة الكتاب ) . ولا يخدش في ذلك ما عند البزار من حديث جابر : ( فقال رجل من الأنصار : أنا أرقيه ) ، وكذا ما عند الشيخين من حديث معبد بن سيرين عن أبي سعيد حيث قال : ( فقام معها - أي : مع المرأة التي أتت تسأل في ذلك - رجل ما كنا نأبنه ، وهي بكسر الموحدة وضمها ، أي : نتهمه - برقية ، وفي لفظ لمسلم : رجل منا ما كنا نظنه يحسن رقية ، ثم اتفقنا - واللفظ للبخاري - ( أنه لما رجع قلنا له : أكنت تحسن رقية أو كنت ترقي ؟ فقال : لا ، ما رقيته إلا بفاتحة الكتاب ) . لأنه لا مانع من أن يكنى الرجل عن نفسه وأبو سعيد أنصاري ، وحينئذ فلعله صرح تارة وكنى أخرى ، وأما احتمال التعدد فقال شيخنا في الفتح : إنه بعيد جدا لا سيما مع اتحاد المخرج والسياق ، والسبب وكون الأصل عدمه ، لكنه مع استبعاده له جوزه في المقدمة فقال مع هذا الاستبعاد : وجاء في رواية أخرى وعنى التي أوردتها أن الراقي غير أبي سعيد ، فيحتمل التعدد .

واعلم أن أكثر نسخ النظم ( أبي سعيد ) بالجر ، ويظهر في إعرابه أن ( راق ) عطف على كامرأة ، و ( أبي سعيد ) بيان منه ، وقوله : ( ومن رقى ) خبر لمبتدأ [ ص: 302 ] محذوف ، أي : هو من رقى إلى آخره ، وما تقدم ، وقع في بعض النسخ ، وهو أظهر وإن اختلف الروي فيه فهو جائز .

( ومنه ) أي : المبهم ( نحو ابن فلان ) كحديث : ( ماتت إحدى بنات النبي صلى الله عليه وسلم ) فهي زينب زوجة أبي العاص بن الربيع ، وكابن مربع بن قيظي بن عمرو بن زيد بن جشم بن حارثة بن الحارث بن عمرو بن مالك بن أوس الأنصاري ، وهو بكسر الميم وسكون الراء وفتح الموحدة وآخره عين مهملة ، قيل : اسمه زيد أو عبد الله أو يزيد ، وكابن اللتبية أو الأتبية بضم أوله على الروايتين ، فاسمه - فيما قال ابن سعد - عبد الله .

ونحو ( عمه ) كرواية خارجة بن الصلت عن عمه ، هو علاقة بن صحار ، وكرافع بن خديج بن رافع عن بعض عمومته ، هو ظهير بن رافع ، وكزياد بن علاقة عن عمه ، هو قطبة بن مالك ، وكيحيى بن خلاد بن رافع لحديث [ ص: 303 ] المسيء صلاته ، عن عم له بدري ، فالعم هو رفاعة بن رافع الزرقي .

ونحو ( عمته ) كحصين بن محصن عن عمة له ، فهي أسماء فيما قاله غير واحد ، وكقول جابر : فجعلت عمتي تبكيه ، يعني أباه ، فهي فاطمة أو هند ابنة عمرو بن حرام .

ونحو ( زوجته ) كقول عقبة بن الحارث : تزوجت امرأة فهي أم يحيى غنية أو زينب ابنة أبي إهاب بن قيس ، وكحديث : جاءت امرأة رفاعة القرظي فهي تميمة بالتكبير أو تميمة بالتصغير أو سهيمة ، كذلك ابنة وهب أو زوجها كقول سبيعة الأسلمية : إنها ولدت بعد وفاة زوجها بليال فزوجها هو سعد بن خولة ونحو ( ابن أمه ) ; كقول أم هانئ : زعم ابن أمي أنه قاتل رجلا أجرته ) الحديث . فابن أمها هو أخوها علي بن أبي طالب ، ونحو ابن أم مكتوم فهو إما عبد الله أو عمرو ، كما تقدم فيمن نسب إلى أمه .

هذا كله فيما يكون الراوي عن المبهم معينا ، وقد يكون مبهما أيضا ، كحديث ربعي بن حراش عن امرأته عن أخت حذيفة ، فأخت حذيفة هي فاطمة أو خولة [ ص: 304 ] ابنة اليمان ، وامرأة ربعي لم تسم ، وكإبراهيم بن ميسرة عن خالته ، عن امرأة مصدقة ، فالمرأة هي ميمونة ابنة كردم ، والخالة لم تسم ، وكهنيدة بن خالد الخزاعي عن امرأته ، وقيل : أمه عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بحديث ( إنه صلى الله عليه وسلم كان يصوم تسع ذي الحجة ) فالزوجة أم سلمة والأخرى لم تسم ، وبسط ذلك له غير هذا المحل .

ومن النكت ما رويناه في خامس عشر المجالسة عن جهة سعيد بن عثمان ، قال : مر على الشعبي حمال على ظهره دن يحمله ، فلما رأى الشعبي وضعه فقال له : ما اسم امرأة إبليس ، فقال الشعبي : ذاك نكاح لم نشهده .

التالي السابق


الخدمات العلمية