فتح المغيث بشرح ألفية الحديث للعراقي

السخاوي - شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي

صفحة جزء
وتكلم في الرجال - كما قاله الذهبي - جماعة من الصحابة ، ثم من التابعين كالشعبي وابن سيرين ، ولكنه في التابعين ; أي : بالنسبة لمن بعدهم بقلة ; لقلة الضعف في متبوعيهم ; إذ اكثرهم صحابة عدول ، وغير الصحابة من المتبوعين أكثرهم ثقات ، ولا يكاد يوجد في القرن الأول الذي انقرض في الصحابة وكبار التابعين ضعيف إلا الواحد بعد الواحد ; كالحارث الأعور والمختار الكذاب ، فلما مضى القرن الأول ودخل الثاني كان في أوائله من أوساط التابعين جماعة من الضعفاء ، الذين ضعفوا غالبا من قبل تحملهم وضبطهم للحديث ، فتراهم يرفعون الموقوف ويرسلون كثيرا ، ولهم غلط ; كأبي هارون العبدي ، فلما كان عند آخر عصر التابعين - وهو حدود الخمسين ومائة - تكلم في التوثيق والتضعيف طائفة من [ ص: 353 ] الأئمة ، فقال أبو حنيفة : ما رأيت أكذب من جابر الجعفي . وضعف الأعمش جماعة ، ووثق آخرين ، ونظر في الرجال شعبة وكان متثبتا لا يكاد يروي إلا عن ثقة ، وكذا كان مالك ، وممن إذا قال في هذا العصر قبل قوله ، معمر وهشام الدستوائي والأوزاعي والثوري وابن الماجشون وحماد بن سلمة والليث وغيرهم ، ثم طبقة أخرى بعد هؤلاء ; كابن المبارك وهشيم وأبي إسحاق الفزاري والمعافى بن عمران الموصلي وبشر بن المفضل ، وابن عيينة وغيرهم ، ثم طبقة أخرى في زمانهم ; كابن علية وابن وهب ووكيع ، ثم انتدب في زمانهم أيضا لنقد الرجال الحافظان الحجتان ; يحيى بن سعيد القطان وابن مهدي ، فمن جرحاه لا يكاد يندمل جرحه ، ومن وثقاه فهو المقبول ، ومن اختلفا فيه وذلك قليل اجتهد في أمره ، ثم كان بعدهم ممن إذا قال ، سمع منه إمامنا الشافعي ويزيد بن هارون وأبو داود الطيالسي وعبد الرزاق والفريابي وأبو عاصم النبيل ، وبعدهم طبقة أخرى كالحميدي والقعنبي وأبي عبيد ويحيى بن يحيى وأبي الوليد الطيالسي ، ثم صنفت الكتب ودونت في الجرح والتعديل والعلل وبين من هو في الثقة والثبت كالسارية ، ومن هو في الثقة كالشاب الصحيح الجسم ، ومن هو لين كمن توجعه رأسه وهو متماسك يعد من أهل العافية ، ومن صفته كمحموم ترجح إلى السلامة ، ومن صفته كمريض شبعان من المرض ، وآخر كمن سقط قواه وأشرف على التلف وهو الذي يسقط حديثه ، وولاة الجرح والتعديل بعد من ذكرنا يحيى بن معين ، وقد سأله عن الرجال غير واحد من الحفاظ ، ومن ثم اختلفت آراؤه وعبارته في بعض الرجال كما اختلف اجتهاد الفقهاء وصارت لهم الأقوال والوجوه ، فاجتهدوا في المسائل ، كما اجتهد ابن معين في الرجال ، ومن طبقته أحمد بن حنبل ، سأله جماعة من تلامذته عن الرجال وكلامه فيهم باعتدال وإنصاف وأدب وورع .

[ ص: 354 ] وكذا تكلم في الجرح والتعديل أبو عبد الله محمد بن سعد كاتب الواقدي في طبقاته بكلام جيد مقبول ، وأبو خيثمة زهير بن حرب له كلام كثير رواه عنه ابنه أحمد وغيره ، وأبو جعفر عبيد الله بن محمد النبيل حافظ الجزيرة الذي قال فيه أبو داود : لم أر أحفظ منه . وعلي بن المديني ، وله التصانيف الكثيرة في العلل والرجال ، ومحمد بن عبد الله بن نمير الذي قال فيه أحمد : هو درة العراق ، وأبو بكر بن أبي شيبة صاحب ( المسند ) ، وكان آية في الحفظ ، يشبه بأحمد في المعرفة ، وعبيد الله بن عمر القواريري الذي قال فيه صالح جزرة : هو أعلم من رأيت بحديث أهل البصرة ، وإسحاق ابن راهويه إمام خراسان ، وأبو جعفر محمد بن عبد الله بن عمار الموصلي الحافظ ، وله كلام جيد في الجرح والتعديل ، وأحمد بن صالح الطبري حافظ مصر وكان قليل المثل ، وهارون بن عبد الله الحمال ، وكلهم من أئمة الجرح والتعديل .

ثم خلفهم طبقة أخرى متصلة بهم ، منهم إسحاق الكوسج والدارمي والذهلي والبخاري والعجلي الحافظ نزيل المغرب ، ثم من بعدهم أبو زرعة وأبو حاتم الرازيان ، ومسلم وأبو داود السجستاني وبقي بن مخلد وأبو زرعة الدمشقي وغيرهم ، ثم من بعدهم عبد الرحمن بن يوسف بن خراش البغدادي له مصنف في الجرح والتعديل ، قوي النفس كأبي حاتم ، وإبراهيم بن إسحاق الحربي ، ومحمد بن وضاح الأندلسي حافظ قرطبة ، وأبو بكر بن أبي عاصم ، وعبد الله بن أحمد ، وصالح جزرة وأبو بكر البزار ، وأبو جعفر محمد بن عثمان بن أبي شيبة وهو ضعيف ، لكنه من أئمة هذا الشأن ، ومحمد بن نصر المروزي ، ثم من بعدهم أبو بكر الفريابي والبرديجي والنسائي وأبو يعلى والحسن بن سفيان وابن خزيمة وابن جرير الطبري والدولابي وأبو عروبة الحراني وأبو الحسن أحمد بن عمير بن جوصا وأبو جعفر العقيلي .

ثم طبقة أخرى ، منهم ابن أبي حاتم ، وأبو طالب أحمد بن نصر البغدادي الحافظ شيخ الدارقطني وابن عقدة وعبد الباقي بن قانع ، ثم من بعدهم أبو سعيد بن يونس وابن حبان البستي والطبراني وابن عدي الجرجاني [ ص: 355 ] ومصنفه في الرجال ، إليه المنتهى في الجرح كما تقدم ، ثم بعدهم أبو علي الحسين بن محمد الماسرجسي النيسابوري ، وله مسند معلل في ألف وثلاثمائة جزء ، وأبو الشيخ بن حيان ، وأبو بكر الإسماعيلي وأبو أحمد الحاكم والدارقطني وبه ختم ( معرفة العلل ) .

ثم بعدهم أبو عبد الله بن منده وأبو عبد الله الحاكم وأبو نصر الكلاباذي ، وأبو المطرف عبد الرحمن بن فطيس قاضي قرطبة ، وله دلائل السنة في خمس مجلدات ، وفضائل الصحابة كما أسلفته هناك ، وعبد الغني بن سعيد وأبو بكر بن مردويه الأصبهاني وتمام الرازي ، ثم بعدهم أبو الفتح محمد بن أبي الفوارس البغدادي وأبو بكر البرقاني وأبو حازم العبدوي ، وقد كتب عنه عشرة أنفس عشرة آلاف جزء ، وخلف بن محمد الواسطي وأبو مسعود الدمشقي وأبو الفضل الفلكي ، وله كتاب ( الطبقات ) في ألف جزء ، وأبو القاسم حمزة السهمي وأبو يعقوب القراب وأبو ذر الهروبان ، ثم بعدهم أبو محمد الحسن بن محمد الخلال البغدادي وأبو عبد الله الصوري وأبو سعد السمان وأبو يعلى الخليلي ، ثم بعدهم ابن عبد البر وابن حزم الأندلسيان والبيهقي والخطيب ، ثم أبو القاسم سعد بن محمد الزنجاني ، وشيخ الإسلام الأنصاري وأبو صالح المؤذن وابن ماكولا وأبو الوليد الباجي ، وقد صنف في الجرح والتعديل وكان علامة حجة وأبو عبد الله الحميدي وابن مفوز المعافري الشاطبي ثم أبو الفضل بن طاهر المقدسي وشجاع بن فارس الذهلي ، والمؤتمن بن أحمد بن علي الساجي وشيرويه الديلمي الهروي مصنف ( تاريخ هراة ) وأبو علي الغساني ، ثم بعدهم أبو الفضل بن ناصر السلامي والقاضي عياض والسلفي وأبو موسى المديني وأبو القاسم بن عساكر وابن بشكوال . ثم بعدهم عبد الحق الإشبيلي وابن الجوزي وأبو عبد الله بن الفخار المالقي وأبو القاسم السهيلي ، ثم أبو بكر الحازمي وعبد الغني [ ص: 356 ] المقدسي والرهاوي وابن مفضل المقدسي ، ثم بعدهم أبو الحسن بن القطان وابن الأنماطي وابن نقطة وابن الدبيثي وابن خليل الدمشقي ، وأبو بكر بن خلفون الأزدي وابن النجار ثم الزكي المنذري والبرزالي والصريفيني والرشيد العطار وابن الصلاح وابن الأبار وابن العديم وأبو شامة وأبو البقاء خالد بن يوسف النابلسي وابن الصابوني .

ثم بعدهم الدمياطي وابن الظاهري والميدومي والد الصدر وابن دقيق العيد وابن فرج وعبيد الإسعردي ، ثم بعدهم سعد الدين الحارثي والمزي وابن تيمية والذهبي وصفي الدين القرافي وابن البرزالي والقطب الحلبي وابن سيد الناس .

في آخرين من كل طبقة ، منهم في شيوخ شيوخنا المصنف ، ثم تلميذه شيخنا ، وفاق في ذلك على جميع من أدركه ، وطوي البساط بعده إلا لمن شاء الله ، ختم لنا بخير ، فعدلوا وجرحوا ، ووهنوا وصححوا ، ولم يحابوا أبا ولا ابنا ولا أخا ، حتى إن ابن المديني سئل عن أبيه ، فقال : سلوا عنه غيري . فأعادوا ; فأطرق ثم رفع رأسه فقال : هو الدين ، إنه ضعيف ، وكان وكيع بن الجراح لكون والده كان على بيت المال ، يقرن معه آخر إذا روى عنه ، وقال أبو داود صاحب ( السنن ) : ابني عبد الله كذاب ، وإن تأولناه في غير هذا الكتاب ، ونحوه قول الذهبي في ولده أبي هريرة : إنه حفظ القرآن ثم تشاغل عنه حتى نسيه . وقال زيد بن أبي أنيسة كما في مقدمة مسلم : لا تأخذوا عن أخي . يعني يحيى المذكور بالكذب .

[ ص: 357 ] نعم في الخلفاء وآبائهم وأهليهم كما قاله الذهبي في ترجمة داود بن علي بن عبد الله بن عباس من تاريخ الإسلام له : قوم أعرض أهل الجرح والتعديل عن كشف حالهم ; خوفا من السيف والضرب ، قال : وما زال هذا في كل دولة قائمة يصف المؤرخ محاسنها ويغضي عن مساوئها هذا إذا كانت ذا دين وخير ; فإن كان مداحا مداهنا لم يلتفت إلى الورع ، بل ربما أخرج مساوئ الكبير وهناته في هيئة المدح والمكارم والعظمة ، فلا قوة إلا بالله .

ولا شك أن في المتكلمين في ذلك من المتأخرين من كان من الورع بمكان ، كالحافظ عبد الغني صاحب ( الكمال في معرفة الرجال ) المخرج لهم في الكتب الستة الذي هذبه المزي وصار كتابا حافلا ، عليه معول من جاء بعده ، واختصره شيخنا وغيره ، ومن المتقدمين من لم يشك في ورعه ; كالإمام أحمد ، بل قال : إنه أفضل من الصوم والصلاة . وابن المبارك فإنه قال : لو خيرت بين أن ادخل الجنة وبين أن القى عبد الله بن المحرر لاخترت أن القاه ثم أدخل الجنة . فلما رأيته كانت بعرة أحب إلي منه ، وابن معين مع تصريحه بقوله : إنا لنتكلم في أناس قد حطوا رحالهم في الجنة . والبخاري القائل : ما اغتبت أحدا مذ علمت أن الغيبة حرام . وحجتهم التوصل بذلك لصون الشريعة ، وأن حق الله ورسوله هو المقدم .

( ولقد أحسن ) الإمام ( يحيى ) بن سعيد القطان ( في جوابه ) لأبي بكر بن خلاد حين قال له : أما تخشى أن يكون هؤلاء الذين تركت حديثهم خصماءك عند الله [ ص: 358 ] يوم القيامة ؟ ( وسد ) بمهملتين ; أولاهما مفتوحة ، أي : وفق للسداد ، وهو الصواب والقصد من القول والعمل حيث قال : ( لأن يكونوا ) أي : المتروكون ( خصماء لي أحب ) إلي ( من كون خصمي المصطفى ) صلى الله عليه وسلم ( إذ لم أذب ) بفتح الهمزة وضم الذال المعجمة ثم موحدة ، أي : أمنع الكذب عن حديثه وشريعته ; ولذا رأى رجل عند موت ابن معين النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه مجتمعين ، فسألهم عن سبب اجتماعهم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( جئت لأصلي على هذا الرجل فإنه كان يذب الكذب عن حديثي ) . ونودي بين نعشه هذا الذي كان ينفي الكذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم رؤي في النوم ، فقيل له : ما فعل الله بك ؟ قال : غفر لي وأعطاني وحباني وزوجني ثلاثمائة حوراء ، وأدخلني عليه مرتين . وقيل فيه :


ذهب العليم بعيب كل محدث وبكل مختلف وفي الإسناد     وبكل وهم في الحديث ومشكل
يعنى به علماء كل بلاد

فإن قيل : قد شغف جماعة من المتأخرين القائمين بالتاريخ وما أشبهه ; كالذهبي ثم شيخنا بذكر المعايب ولو لم يكن المعاب من أهل الرواية ، وذلك غيبة محضة ; ولذا تعقب ابن دقيق العيد ابن السمعاني في ذكره بعض الشعراء وقدح فيه بقوله : إذا لم يضطر إلى القدح فيه للرواية لم يجز . ونحوه قول ابن المرابط : قد دونت الأخبار ، وما بقي للتجريح فائدة ، بل انقطعت من رأس الأربعمائة ، ودندن هو غيره ممن لم يتدبر مقاله بعيب المحدثين بذلك ، قلت : الملحوظ في تسويغ ذلك كونه نصيحة ولا انحصار لها في الرواية ، فقد ذكروا من الأماكن التي يجوز فيها ذكر المرء بما يكره ولا يعد ذلك غيبة ، بل هو نصيحة واجبة ، أن تكون [ ص: 359 ] للمذكور ولاية لا يقوم بها على وجهها ، إما بأن لا يكون صالحا لها ، وإما بأن يكون فاسقا أو مغفلا أو نحو ذلك ، فيذكر ليزال بغيره ممن يصلح ، أو يكون مبتدعا أو فاسقا ويرى من يتردد إليه للعلم ويخاف عليه عود الضرر من قبله ببيان حاله ، ويلتحق بذلك المتساهل في الفتوى أو التصنيف أو الأحكام أو الشهادات أو النقل ، أو المتساهل في ذكر العلماء أو في الرشاء والارتشاء ; إما بتعاطيه له ، أو بإقراره عليه مع قدرته على منعه ، وآكل أموال الناس بالحيل والافتراء ، أو الغاصب لكتب العلم من أربابها أو المساجد ، بحيث تصير ملكا ، أو غير ذلك من المحرمات ، فكل ذلك جائز أو واجب ذكره ليحذر ضرره ، وكذا يجب ذكر المتجاهر بشيء مما ذكر ونحوه من باب أولى ، قال شيخنا : ويتأكد الذكر لكل هذا في حق المحدث ; لأن أصل وضع فنه بيان الجرح والتعديل ، فمن عابه بذكره لعيب المجاهر بالفسق أو المتصف بشيء مما ذكر فهو جاهل أو ملبس أو مشارك له في صفته فيخشى أن يسري إليه الوصف .

نعم لا يجوز التجريح بشيئين إذا حصل بواحد ، فقد قال العز بن عبد السلام في قواعده : إنه لا يجوز للشاهد أن يجرح بذنبين مهما أمكن الاكتفاء بأحدهما ; فإن القدح إنما يجوز للضرورة فليقدر بقدرها ، ووافقه عليه القرافي ، وهو ظاهر . وقد قسم الذهبي من تكلم في الرجال أقساما ، فقسم تكلموا في سائر الرواة ; كابن معين وأبي حاتم ، وقسم تكلموا في كثير من الرواة ; كمالك وشعبة ، وقسم تكلموا في الرجل بعد الرجل ; كابن عيينة والشافعي ، قال : وهم الكل على ثلاثة أقسام أيضا : قسم منهم متعنت في التوثيق ، متثبت في التعديل يغمز الراوي بالغلطتين والثلاث ، فهذا إذا وثق شخصا فعض على قوله بنواجذك ، وتمسك [ ص: 360 ] بتوثيقه ، وإذا ضعف رجلا فانظر هل وافقه غيره على تضعيفه ، فإن وافقه ولم يوثق ذاك الرجل أحد من الحذاق فهو ضعيف ، وإن وثقه أحد ، فهذا هو الذي قالوا : لا يقبل منه الجرح إلا مفسرا ، يعني لا يكفي فيه قول ابن معين مثلا : هو ضعيف . ولم يبين سبب ضعفه ، ثم يجيء البخاري وغيره يوثقه ، ومثل هذا يختلف في تصحيح حديثه وتضعيفه ، ومن ثم قال الذهبي ، وهو من أهل الاستقراء التام في نقد الرجال : لم يجتمع اثنان من علماء هذا الشأن قط على توثيق ضعيف ولا على تضعيف ثقة . انتهى .

ولهذا كان مذهب النسائي أن لا يترك حديث الرجل حتى يجتمع الجميع على تركه ، كما تقدم مع ترجيحه بما يحسن استحضاره هنا ، وقسم منهم متسمح ; كالترمذي والحاكم ، قلت : وكابن حزم فإنه قال في كل من أبي عيسى الترمذي وأبي القاسم البغوي وإسماعيل بن محمد الصفار وأبي العباس الأصم وغيرهم من المشهورين : إنه مجهول . وقسم معتدل ; كأحمد والدارقطني وابن عدي .

( و ) لوجود المتشدد ومقابله نشأ التوقف في أشياء من الطرفين ، بل ( ربما رد كلام ) كل من المعدل و ( الجارح ) مع جلالته وإمامته ونقده وديانته ; إما لانفراده عن أئمة الجرح والتعديل ; كالشافعي رحمه الله في إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى ; فإنه كما قال النووي : لم يوثقه غيره . وهو ضعيف باتفاق المحدثين ، لكن قد اعتذر الساجي عن الشافعي بأنه لم يخرج عنه إلا في الفضائل ، يعني وهم يتسامحون فيها ، وتعقب بأن الموجود خلافه ، وابن حبان بأن مجالسته لإبراهيم كانت في حداثته .

وعلى كل حال فقد اختار ابن الصلاح كما مضى في محله أن الإمام الذي له أتباع يقلدونه فيما يذهب إليه ، إذا احتج براو ضعفه غيره كان ذلك الراوي حجة في حق من قلد ذلك الإمام ، أو لتحامله ( كالنسائي ) بالإسكان للوزن ، صاحب ( السنن ) ( في أحمد بن صالح ) أبي جعفر المصري الحافظ المعروف بابن الطبري ، حيث جرحه فيما نقله عنه ابن عبد الكريم بقوله : ليس بثقة ولا مأمون ، تركه محمد [ ص: 361 ] بن يحيى ورماه يحيى بالكذب ، وقال في موضع آخر : ثنا معاوية بن صالح ، سمعت ابن معين يقول : أحمد بن صالح كذاب يتفلسف . انتهى .

فإنه - كما قال أبو يعلى الخليلي - ممن اتفق الحفاظ على أن كلامه فيه تحامل قال : ولا يقدح كلام أمثاله فيه . وقال الذهبي في ( الميزان ) : إنه آذى نفسه بكلامه فيه ، والناس كلهم متفقون على إمامته وثقته ، واحتج به البخاري في صحيحه ، وقال : إنه ثقة صدوق ، ما رأيت أحدا يتكلم فيه بحجة ، كان أحمد وابن نمير وغيرهما يثبتونه ، وكان يحيى - يعني ابن معين - يقول : سلوه ; فإنه ثبت . وممن وثقه العجلي ، وقال : صاحب سنة ، وأبو حاتم ، وقال ابن يونس : لم يكن عندنا . كما قال النسائي : لم تكن له آفة غير الكبر . والسبب في كلام النسائي فيه ما ذكره أبو جعفر العقيلي أن أحمد لم يكن يحدث أحدا حتى يسأل عنه ، فجاءه النسائي ، وقد صحب قوما من أصحاب الحديث ، ليسوا هناك ، فأبى أحمد أن يأذن له ، فعمد النسائي إلى جمع أحاديث قد غلط فيها ابن صالح فشنع بها ولم يضره ذلك .

وكذا قال ابن عدي : سمعت محمد بن هارون الرقي يقول : إنه حضر مجلسه فطرده منه فحمله ذلك على التكلم فيه ، وأما ما رواه من كلام ابن معين فيه فجزم ابن حبان بأنه اشتبه عليه ، فالذي تكلم فيه ابن معين إنما هو أحمد بن صالح الشمومي المصري شيخ بمكة ، كان يضع الحديث ، سأل معاوية عنه يحيى ، فأما هذا فهو يقارن ابن معين في الحفظ والإتقان ، وقواه شيخنا بنقل البخاري في هذا عن ابن معين ، كما حكيناه أنه ثبت ، على أن ابن يونس قد رد قول ابن معين أن لو كان في أبي جعفر بقوله : لعل ابن معين لا يدري ما الفلسفة ; فإنه ليس من أهلها ; ولذا كان أحد الأوجه الخمسة التي تدخل الآفة منها في ذلك ، كما ذكره ابن دقيق العيد ، وقال : إنه محتاج إليه في المتأخرين أكثر ; لأن الناس انتشرت بينهم أنواع من العلوم المتقدمة [ ص: 362 ] والمتأخرة حتى علوم الأوائل ، وقد علم أن علوم الأوائل قد انقسمت إلى حق وباطل ، فمن الحق علم الحساب والهندسة والطب ، ومن الباطل ما يقولونه في الطبيعيات وكثير من الإلهيات وأحكام النجوم ، وقد تحدث في هذه الأمور أقوام ، فيحتاج القادح بسبب ذلك أن يكون مميزا بين الحق والباطل ; لئلا يكفر من ليس بكافر أو يقبل رواية الكافر ، والمتقدمون قد استراحوا من هذا ; لعدم شيوع هذه الأمور في زمانهم ، ونحوه قول غيره : إنه مما ينبغي اعتماده في الجارح والمعدل أن يكون عالما باختلاف المذاهب ، فيجرح عند المالكي مثلا بشرب النبيذ متأولا ; لأنه يراه قادحا دون غيره ; إذ لو لم نعتبر ذلك لكان الجارح أو المعدل غارا لبعض الحكام حتى يحكم بقول من لا يرى قبول قوله ، وهو نوع من الغش .

وهنا لطيفة معترضة وهي أن أحمد بن صالح هذا تكلم في حرملة صاحب الشافعي ، فقال ابن عدي : إنه تحامل عليه ، وسببه أن أحمد سمع في كتب حرملة من ابن وهب فأعطاه نصف سماعه ومنعه النصف ، فتولدت بينهما العداوة من هذا ، وكان من يبدأ بحرملة إذا دخل مصر لم يحدثه أحمد بن صالح ، قال : ما رأينا أحدا جمع بينهما ، وكأن مراده من الغرباء ، وإلا فقد جمع بينهما أحمد بن رشدين شيخ الطبراني ، فجوزي أحمد بن صالح بما تقدم .

التالي السابق


الخدمات العلمية