فتح المغيث بشرح ألفية الحديث للعراقي

السخاوي - شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي

صفحة جزء
ولنرجع إلى ما نحن فيه ; ولذا قيل في كل من الجرح والتعديل : إنه لا يقبل إلا مفسرا ، لا سيما وقد استفسر جماعة ممن جرح أو عدل فذكروا ما لا يقتضي واحدا منهما ، كما تقرر في معرفة من تقبل روايته مع فوائد مهمة ، وأن المعتمد قبولهما من العارف بأسبابهما بدون تفسير ، في آخرين غير النسائي من الحفاظ المتقدمين وغيرهم ، أورد [ ص: 363 ] ابن عبد البر في جامع العلم له عنهم أمورا كثيرة ، وحكم بأنه لا يلتفت إليها ، وحمل بعضها على أنها خرجت عن غضب ، وجرح من قالها أو نحو ذلك . ( فربما كان لجرح مخرج ) أي : مخلص صحيح يزول به ، ولكن ( غطى عليه السخط ) وحجب عنه الفكر ( حين يحرج ) بحاء مهملة ثم راء مفتوحة وجيم ، أن يضيق صدره بسبب ناله ; لأن الفلتات من الأنفس لا يدعى العصمة منها ; فإنه ربما حصل غضب لمن هو من أهل التقوى فبدرت منه بادرة لفظ فحبك الشيء يعمي ويصم ، لا أنهم مع جلالتهم ووفور ديانتهم تعمدوا القدح بما يعلمون بطلانه ، حاشاهم ، وكل تقي من ذلك .

ثم إن أكثر ما يكون هذا الداء في المتعاصرين ، وسببه غالبا مما هو في المتأخرين أكثر المنافسة في المراتب ، ولكن قد عقد ابن عبد البر في جامعه بابا لكلام الأقران المتعاصرين بعضهم في بعض ، ورأى أن أهل العلم لا يقبل الجرح فيهم إلا ببيان واضح ، فإن انضم لذلك عداوة فهو أولى بعدم القبول ، ولو كان سبب تلك العداوة الاختلاف في الاعتقاد ; فإن الحاذق إذا تأمل ثلب أبي إسحاق الجوزجاني لأهل الكوفة رأى العجب ; وذلك لشدة انحرافه في النصب وشهرة أهلها بالتشيع ، فتراه لا يتوقف في جرح من ذكره منهم بلسان ذلق وعبارة طلقة ، حتى إنه أخذ يلين مثل الأعمش وأبي نعيم وعبيد الله بن موسى وأساطين الحديث وأركان الرواية ، فهذا إذا عارضه مثله أو أكثر منه فوثق رجلا ممن ضعفه هو قبل التوثيق ، ويلتحق به عبد الرحمن بن يوسف بن خراش المحدث الحافظ ; فإنه من غلاة الشيعة ، بل نسب إلى الرفض ، فيتأتى في جرحه لأهل الشام للعداوة البينة في الاعتقاد ، وكذا كان ابن عقدة شيعيا ، فلا يستغرب منه أن يتعصب لأهل الرفض ; ولذا كانت المخالفة في العقائد أحد الأوجه الخمسة التي تدخل الآفة منها ; فإنها - كما قال ابن دقيق العيد - أوجبت [ ص: 364 ] تكفير الناس بعضهم لبعض ، أو تبديعهم ، وأوجبت عصبية اعتقدوها دينا يتدينون ويتقربون به إلى الله تعالى ، ونشأ من ذلك الطعن بالتكفير أو التبديع ، قال : وهذا موجود كثيرا في الطبقة المتوسطة من المتقدمين ، بل قال شيخنا : إنه موجود كثيرا قديما وحديثا ، ولا ينبغي إطلاق الجرح بذلك ، فقد قدمنا تحقيق الحال في العمل برواية المبتدعة ، وحكينا كلام الشافعي هناك آخر المسألة .

ويلتحق بهذا مما جعله ابن دقيق العيد وجها مستقلا الاختلاف الواقع بين المتصوفة وأصحاب العلوم الظاهرة ، فقد وقع بينهم تنافر أوجب كلام بعضهم في بعض قال : وهذه غمرة لا يخلص منها إلا العالم الوافي بشواهد الشريعة ، ولا أحصر ذلك في العلم بالفروع المذهبية ، فإن كثيرا من أحوال المحققين من الصوفية لا يفي بتمييز حقه من باطله علم الفروع ، بل لابد مع ذلك من معرفة القواعد الأصولية ، والتمييز بين الواجب والجائز ، والمستحيل العقلي والمستحيل العادي ، فقد يكون المتميز في الفقه جاهلا بذلك ، حتى يعد المستحيل عادة مستحيلا عقلا ، وهذا المقام خطر شديد ; فإن القادح في المحق من الصوفية معاد لأولياء الله ، وقد قال فيما أخبر عنه نبيه صلى الله عليه وسلم : ( من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة ) .

والتارك لإنكار الباطل مما يسمعه عن بعضهم تارك للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، عاص لله تعالى بذلك ، فإن لم ينكر بقلبه فقد دخل تحت قوله صلى الله عليه وسلم : ( وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل ) . فإذا انضما - أعني الاختلاف بين المتصوفة وأهل علم الظاهر والمخالفة في العقائد - مع الوجهين الماضيين ; وهما الجهل بمراتب العلوم والغرض والهوى ، وانضاف إليها عدم الورع والأخذ بالتوهم والقرائن التي قد تتخلف - كانت الأوجه الخمسة ، التي ذكر ابن دقيق العيد في [ ص: 365 ] ( الاقتراح ) أنها لا تدخل الآفة في هذا الباب منها ، وقال في خامسها : إن من فعل ذلك ، أي : أخذ بالتوهم والقرائن فقد دخل تحت قوله صلى الله عليه وسلم : ( إياك والظن ; فإن الظن أكذب الحديث ) . قلت : لا سيما وقد جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن احمل أمر أخيك على أحسنه ، ولا تظنن بكلمة خرجت منه سوءا وأنت تجد لها في الخير محملا . انتهى .

وهذا ضرر عظيم فيما إذا كان الجارح معروفا بالعلم وكان قليل التقوى ، فإن علمه يقتضي أن يجعل أهلا لسماع قوله وجرحه ، فيقع الخلل بسبب قلة ورعه وأخذه بالتوهم ، قال : ولقد رأيت رجلا لا يختلف أهل عصرنا في سماع قوله إن جرح ذكر له إنسان أنه سمع من شيخ ، فقال له : أين سمعت منه ؟ فقال : بمكة أو قريبا من هذا ، وقد كان جاء إلى مصر ، يعني في طريقه للحج ، فأنكر ذلك ، وقال : إنه كان صاحبي ولو جاء إلى مصر لاجتمع بي أو كما قال : فانظر إلى هذا التعليق بهذا الوهم البعيد والخيال الضعيف فيما أنكره ، وقد أشار المصنف إلى حاصلها ، وقال : إنه واضح جلي .

التالي السابق


الخدمات العلمية