فتح المغيث بشرح ألفية الحديث للعراقي

السخاوي - شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي

صفحة جزء
[ الفرع الثاني ] ( و ) الفرع الثاني ( قوله ) أي : الصحابي ( كنا نرى ) كذا ، أو نفعل كذا ، أو نقول كذا ، أو نحو ذلك ، وحكمه أنه ( إن كان ) ذلك ( مع ) ذكر ( عصر النبي ) - صلى الله عليه وسلم - ; كقول جابر : كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو : كنا نأكل لحوم الخيل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقول غيره : " كنا لا نرى بأسا بكذا ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - فينا " ، أو : " كان يقال كذا وكذا على عهده " ، أو : " كانوا يفعلون كذا وكذا [ ص: 149 ] في حياته " إلى غيرها من الألفاظ المفيدة للتكرار والاستمرار .

فهو وإن كان موقوفا لفظا ( من قبيل ما رفع ) الصحابي بصريح الإضافة ، كما ذهب إليه الجمهور من المحدثين وغيرهم ، وقطع به الخطيب ، ومن قبله الحاكم ; كما سيأتي .

وصححه من الأصوليين الإمام فخر الدين وأتباعه ، وعللوه بأن غرض الراوي بيان الشرع ، وذلك يتوقف على علم النبي - صلى الله عليه وسلم - وعدم إنكاره .

قال ابن الصلاح : وهو الذي عليه الاعتماد ; لأن ظاهر ذلك مشعر بأنه - صلى الله عليه وسلم - اطلع عليه وقررهم ، وتقريره كقوله وفعله .

قال الخطيب : ولو علم الصحابي إنكارا منه - صلى الله عليه وسلم - في ذلك ، لبينه .

قال شيخنا : ( ويدل له احتجاج أبي سعيد الخدري على جواز العزل بفعلهم له في زمن نزول الوحي ، فقال : كنا نعزل والقرآن ينزل ، لو كان شيء ينهى عنه ، نهى عنه القرآن ، وهو استدلال واضح ; لأن الزمان زمان تشريع .

وكذا يدل له مجيء بعض ما أتى ببعض هذه الصيغ بصريح الرفع ( وقيل : لا ) يكون مرفوعا ، حكاه ابن الصلاح عن البرقاني بلاغا أنه سأل الإسماعيلي عنه ، [ ص: 150 ] فأنكر أن يكون مرفوعا ، كما خالف في نحو ( ( أمرنا ) ) ، يعني بل هو موقوف مطلقا قيد أم لا ، بخلاف القول الأول ، فهو مفصل ، فإن قيد بالعصر النبوي - كما تقدم - فمرفوع ( أو لا ) أي : وإن لم يقيد ( فلا ) يكون مرفوعا ( كذاك له ) أي لابن الصلاح ; حيث جزم به ، ولم يحك فيه غيره .

( و ) كذا ( للخطيب ) أيضا في الكفاية ، كما زاده الناظم مع أنه قد فهم عن مشترطي القيد في الرفع - وهم الجمهور كما تقدم - القول به .

ولذلك قال النووي في شرح مسلم : وقال الجمهور من المحدثين وأصحاب الفقه والأصول : إن لم يضفه ، فهو موقوف ( قلت : لكن ) قد ( جعله ) أي : هذا اللفظ الذي لم يقيد بالعصر النبوي ( مرفوعا الحاكم ) أبو عبد الله النيسابوري .

وعبارته في علومه : ومنه - أي : ومما لم يصرح فيه بذكر الرسول - صلى الله عليه وسلم - قول الصحابي المعروف بالصحبة : أمرنا أن نفعل كذا ، ونهينا عن كذا ، وكنا نؤمر بكذا ، وكنا ننهى عن كذا ، وكنا نفعل كذا ، وكنا نقول ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - فينا كذا ، وكنا لا نرى بأسا بكذا ، وكان يقال كذا وكذا ، وقول الصحابي : من السنة كذا ، وأشباه ما ذكرنا ; إذا قاله الصحابي المعروف بالصحبة ، فهو حديث مسند ; أي : مرفوع .

وكذا جعله مرفوعا الإمام فخر الدين ( الرازي ) - نسبة بإلحاق الزاي للري ، مدينة مشهورة كبيرة من بلاد الديلم بين قومس والجبال - صاحب التفسير والمحصول [ ص: 151 ] ، ومناقب الشافعي ، وشرح الوجيز للغزالي وغيرها ، وأحد الأئمة وهو أبو عبد الله وأبو الفضائل محمد ( ابن الخطيب ) بالري ، تلميذ محيي السنة البغوي ، الإمام ضياء الدين عمر بن الحسين بن الحسن بن علي القرشي البكري التيمي الشافعي ، توفي بهراة في سنة ست وستمائة ( 606 هـ ) عن ثلاث وستين سنة ، كما نص على ذلك في ( ( المحصول ) ) .

ولم يفرقا بين المضاف وغيره ، وحينئذ فعن الفخر في المسألة قولان ، وقال ابن الصباغ في ( ( العدة ) ) : إنه الظاهر .

قال الناظم تبعا للنووي في شرح المهذب ، ( وهو القوي ) يعني من حيث المعنى ، زاد النووي : إنه ظاهر استعمال كثير من المحدثين ، وأصحابنا في كتب الفقه ، واعتمده الشيخان في صحيحيهما ، وأكثر منه البخاري .

قلت : ومما خرجه من أمثلة المسألة حديث سالم بن أبي الجعد عن جابر : ( ( كنا إذا صعدنا كبرنا ، وإذا هبطنا سبحنا ) ) .

ويتأيد القول بالرفع بإيراد النسائي له من وجه آخر عن جابر قال : كنا نسافر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فإذا صعدنا . . . وذكره ، فتحصل في المسألة ثلاثة أقوال : الرفع مطلقا ، الوقف مطلقا ، التفصيل .

وفيها رابع أيضا ; وهو تفصيل آخر بين أن يكون ذلك الفعل مما لا يخفى غالبا فمرفوع ، أو يخفى ; كقول بعض الأنصار : ( ( كنا نجامع فنكسل ولا نغتسل ) ) [ ص: 152 ] فموقوف ، وبه قطع الشيخ أبو إسحاق الشيرازي ، وكذا قاله ابن السمعاني ، وحكاه النووي في شرح مسلم عن آخرين .

وخامس ، وهو أنه إن أورده في معرض الاحتجاج فمرفوع ، وإلا فموقوف ; حكاه القرطبي .

وسادس ، وهو أنه إن كان قائله من أهل الاجتهاد فموقوف ، وإلا فمرفوع .

وسابع : وهو الفرق بين كنا نرى ، وكنا نفعل ، بأن الأول مشتق من الرأي فيحتمل أن يكون مستنده تنصيصا أو استنباطا .

وتعليل السيف الآمدي وأتباعه كون " كنا نفعل " ونحوه حجة بأنه ظاهر في قول كل الأمة ، ولا يحسن معه إدراجهم مع القائلين بالأول ، كما فعل الشارح ; لاختلاف المدركين .

وكل ما أوردناه من الخلاف ; حيث لم يكن في القصة اطلاعه - صلى الله عليه وسلم - ، أما إذا كان - كقول ابن عمر : كنا نقول ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - حي : أفضل هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر وعثمان ، ويسمع ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا ينكره - فحكمه الرفع إجماعا .

ثم إن النفي كالإثبات - فيما تقدم - كما علم من التمثيل ، ولذلك مثل ابن الصباغ للمسألة بقول عائشة : كانت اليد لا تقطع في الشيء التافه .

[ ص: 153 ]

110 - لكن حديث " كان باب المصطفى يقرع بالأظفار " مما وقفا      111 - حكما لدى الحاكم والخطيب
والرفع عند الشيخ ذو تصويب      112 - وعد ما فسره الصحابي
رفعا فمحمول على الأسباب      113 - وقولهم " يرفعه " أو " يبلغ به "
" رواية " " ينميه " رفع فانتبه      114 - وإن يقل " عن تابع " فمرسل
قلت من السنة عنه نقلوا      115 - تصحيح وقفه وذو احتمال
نحو " أمرنا منه " للغزالي      116 - وما أتى عن صاحب بحيث لا
يقال رأيا ، حكمه الرفع على      117 - ما قال في المحصول نحو " من أتى
" فالحاكم الرفع لهذا أثبتا      118 - وما رواه عن أبي هريره
محمد وعنه أهل البصره      119 - وكرر " قال " بعد فالخطيب
روى به الرفع وذا عجيب

.

" لكن حديث كان باب المصطفى " - صلى الله عليه وسلم - ( يقرع ) من الصحابة ( بالأظفار ) تأدبا وإجلالا ، كما عرف ذلك منهم في حقه .

وإن قال السهيلي : إنه لأن بابه الكريم لم يكن له حلق يطرق بها . ( مما وقفا حكما ) أي : حكمه الوقف ( لدى ) أي : عند ( الحاكم ) ، فإنه قال بعد أن أسنده ، كما سيأتي : هذا حديث يتوهمه من ليس من أهل الصنعة مسندا ; لذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه ، وليس بمسند ; فإنه موقوف على صحابي ، حكى عن أقرانه من الصحابة فعلا ، وليس يسنده واحد منهم ( و ) كذا عند ( الخطيب ) أيضا في جامعه نحوه .

وإن أنكر البلقيني تبعا لبعض مشائخه وجوده فيه ، فعبارته في الموقوف الخفي [ ص: 154 ] الذي ذكر من أمثلته هذا الحديث - نصها : قد يتوهم أنه مرفوع لذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه ، وإنما هو موقوف على صحابي ، حكى فيه عن غير النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلا ، وذلك متعقب عليهما ( والرفع ) في هذا الحديث ( عند الشيخ ) ابن الصلاح ( ذو تصويب ) .

قال : والحاكم معترف بكون ذلك من قبيل المرفوع ; يعني لأنه جنح إلى الرفع في غير المضاف ، فهو هنا أولى ; لكونه كما قال ابن الصلاح أحرى باطلاعه - صلى الله عليه وسلم - عليه .

قال : وقد كنا عددنا هذا فيما أخذنا عليه ، ثم تأولناه له على أنه أراد : أنه ليس بمسند لفظا ، بل هو موقوف لفظا ; كسائر ما تقدم ، وإنما جعلناه مرفوعا من حيث المعنى . انتهى .

وهو جيد ، وحاصله كما قال شيخنا أن له جهتين : جهة الفعل وهو صادر من الصحابة فيكون موقوفا ، وجهة التقرير وهو مضاف إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من حيث إن فائدة قرع بابه أنه يعلم أنه قرع ، ومن لازم علمه بكونه قرع مع عدم إنكار ذلك على فاعله - التقرير على ذلك الفعل ، فيكون مرفوعا ، لكن يخدش فيه أنه يلزم منه أن يكون جميع قسم التقرير يجوز أن يسمى موقوفا ; لأن فاعله غير النبي - صلى الله عليه وسلم - قطعا ، وإلا فما اختصاص حديث القرع بهذا الإطلاق .

قلت : والظاهر أنه يلتزمه في غير التقرير الصريح كهذا الحديث ، وغيره لا يلزمه ، ويستأنس له بمنع الإمام أحمد وابن مبارك من رفع حديث " حذف السلام سنة " كما سيأتي في آخر هذه الفروع ، على أنه يحتمل أن الحاكم ترجح عنده احتمال كون القرع بعده - صلى الله عليه وسلم - بأن الاستئذان في حياته كان ببلال أو برباح أو بغيرهما ، وربما كان بإعلام المرء بنفسه .

بل في حديث بسر بن سعيد عن زيد بن [ ص: 155 ] ثابت : احتجر النبي - صلى الله عليه وسلم - في المسجد حجرة ، وفيه : أنه لم يخرج إليهم ليلة ، وقال : فتنحنحوا ورفعوا أصواتهم وحصبوا بابه ، ولم يجئ في خبر صريح الاستئذان عليه بالقرع .

وإن فائدة ذكر القرع مع كونه بعده ما تضمنه من استمرارهم على مزيد الأدب بعده ; إذ حرمته ميتا كحرمته حيا ، وإذا كان كذلك ، فهو موقوف مطلقا . فالله أعلم .

والحديث المشار إليه أخرجه الحاكم في علومه ، وكذا في الأمالي كما عزاه إليها البيهقي في مدخله حيث أخرجه عن راو ، ورواه أبو نعيم في المستخرج على علوم الحديث ، له عن راو آخر ، كلاهما عن أحمد بن عمرو الزيبقي ، بالزاي المكسورة المشددة ثم تحتانية ، عن زكريا بن يحيى المنقري ، عن الأصمعي ، عن كيسان مولى هشام بن حسان ، في رواية أبي نعيم عن هشام بن حسان ، وفي رواية الآخرين عن محمد بن حسان ، زاد البيهقي : هو أخو هشام بن حسان ، وهو حسن الحديث .

ثم اتفقوا عن محمد بن سيرين ، زاد أبو نعيم في روايته : عن عمرو بن وهب ، ثم اتفقوا عن المغيرة بن شعبة ، رضي الله تعالى عنه ، قال : كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرعون بابه بالأظافير .

وفي الباب عن أنس ، أخرجه الخطيب في جامعه من طريق أبي غسان مالك بن إسماعيل النهدي ، وضرار بن صرد شيخ حميد بن الربيع فيه ، كلاهما عن المطلب بن زياد الثقفي ، ثم افترقا .

ففي رواية أبي غسان : أخبرني أبو بكر بن عبد الله الأصبهاني عن محمد بن مالك بن المنتصر .

وفي رواية حميد : ثنا عمر بن سويد ، يعني العجلي ، كلاهما عن أنس بن مالك قال : كان باب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرع بالأظافير . لفظ حميد ، ولفظ الآخر : كانت أبواب النبي . والباقي سواء ، [ ص: 156 ] وكذا أخرجه البخاري في الأدب المفرد والتأريخ عن أبي غسان ، والبزار في مسنده عن حميد بن الربيع عن ضرار به .

التالي السابق


الخدمات العلمية