فتح المغيث بشرح ألفية الحديث للعراقي

السخاوي - شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي

صفحة جزء
[ الخلاف في الاحتجاج بالمرسل ] ( واحتج ) الإمام ( مالك ) هو ابن أنس في المشهور عنه و ( كذا ) الإمام أبو حنيفة ( النعمان ) بن ثابت ( وتابعوهما ) المقلدون لهما ، والمراد الجمهور من الطائفتين ، بل وجماعة من المحدثين ، والإمام أحمد في رواية حكاها النووي وابن القيم وابن كثير وغيرهم ( به ) أي : بالمرسل ( ودانوا ) بمضمونه ، أي : جعل كل واحد منهم ما هو عنده مرسل دينا يدين به في الأحكام وغيرها ، وحكاه النووي في شرح المهذب عن كثيرين من الفقهاء أو أكثرهم ، قال : ونقله الغزالي عن الجماهير .

وقال أبو داود في رسالته : وأما المراسيل فقد كان أكثر العلماء يحتجون بها فيما مضى ، مثل سفيان الثوري ومالك ، وتابعه عليه أحمد وغيره . انتهى .

وكان من لم يذكر أحمد في هذا الفريق رأى ما في الرسالة أقوى ، مع ملاحظة صنيعه في العلل ، كما سيأتي قريبا ، وكونه يعمل بالضعيف الذي يندرج فيه [ ص: 176 ] المرسل ، فذاك إذا لم يجد في الباب غيره كما تقدم ، ثم اختلفوا أهو أعلى من المسند ، أو دونه ، أو مثله ؟ وتظهر فائدة الخلاف عند التعارض .

والذي ذهب إليه أحمد ، وأكثر المالكية ، والمحققون من الحنفية - كالطحاوي وأبي بكر الرازي - تقديم المسند .

قال ابن عبد البر : وشبهوا ذلك بالشهود ، يكون بعضهم أفضل حالا من بعض ، وأقعد وأتم معرفة ، وإن كان الكل عدولا جائزي الشهادة . انتهى .

والقائلون بأنه أعلى وأرجح من المسند ، وجهوه بأن من أسند ، فقد أحالك على إسناده والنظر في أحوال رواته والبحث عنهم ، ومن أرسل مع علمه ودينه وإمامته وثقته ، فقد قطع لك بصحته ، وكفاك النظر فيه ، ومحل الخلاف فيما قيل : إذا لم ينضم إلى الإرسال ضعف في بعض رواته ، وإلا فهو حينئذ أسوأ حالا من مسند ضعيف جزما .

ولذا قيل : إنهم اتفقوا على اشتراط ثقة المرسل ، وكونه لا يرسل إلا عن الثقات ، قاله ابن عبد البر ، وكذا أبو الوليد الباجي من المالكية ، وأبو بكر الرازي من الحنفية .

وعبارة الثاني : لا خلاف أنه لا يجوز العمل بالمرسل ، إذا كان مرسله غير متحرز ، بل يرسل عن غير الثقات أيضا ، وأما الأول فقال : لم تزل الأئمة يحتجون بالمرسل ، إذا تقارب عصر المرسل والمرسل عنه ، ولم يعرف المرسل بالرواية عن الضعفاء .

وممن اعتبر ذلك من مخالفيهم الشافعي ، فجعله شرطا في المرسل المعتضد ، ولكن قد توقف شيخنا في صحة نقل الاتفاق من الطرفين قبولا وردا ، قال : لكن ذلك فيهما عن جمهورهم مشهور . انتهى .

[ ص: 177 ] وفي كلام الطحاوي ما يومئ إلى احتياج المرسل ونحوه إلى الاحتفاف بقرينة ; وذلك أنه قال - في حديث أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود أنه سئل : كان عبد الله مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة الجن ؟ قال : لا - ما نصه : فإن قيل هذا منقطع ; لأن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه شيئا .

يقال : نحن لم نحتج به من هذه الجهة ، إنما احتججنا به ; لأن مثل أبي عبيدة على تقدمه في العلم ، وموضعه من عبد الله ، وخلطته بخاصته من بعده - لا يخفى عليه مثل هذا من أموره ، فجعلنا قوله حجة لهذا ، لا من الطريق التي وصفت .

ونحوه قول الشافعي رحمه الله في حديث لطاوس عن معاذ : طاوس لم يلق معاذا ، لكنه عالم بأمر معاذ ، وإن لم يلقه ; لكثرة من لقيه ممن أخذ عن معاذ ، وهذا لا أعلم من أحد فيه خلافا ، وتبعه البيهقي وغيره .

ومن الحجج لهذا القول : أن احتمال الضعف في الواسطة ; حيث كان المرسل تابعيا لا سيما بالكذب بعيد جدا ; فإنه - صلى الله عليه وسلم - أثنى على عصر التابعين ، وشهد له بعد الصحابة بالخيرية ، ثم للقرنين - كما تقدم - بحيث استدل بذلك على تعديل أهل القرون الثلاثة ، وإن تفاوتت منازلهم في الفضل فإرسال التابعي ، بل ومن اشتمل عليه باقي القرون الثلاثة الحديث بالجزم من غير وثوق بمن قاله - مناف لها ، هذا مع كون المرسل عنه ممن اشترك معهم في هذا الفضل .

وأوسع من هذا قول عمر - رضي الله عنه - : المسلمون عدول ، بعضهم على بعض ، إلا مجلودا في حد ، أو مجربا عليه شهادة زور ، أو ظنينا في ولاء أو قرابة .

[ ص: 178 ] قالوا : فاكتفى - رضي الله عنه - بظاهر الإسلام في القبول ، إلا أن يعلم منه خلاف العدالة ، ولو لم يكن الواسطة من هذا القبيل ، لما أرسل عنه التابعي ، والأصل قبول خبره حتى يثبت عنه ما يقتضي الرد .

وكذا ألزم بعضهم المانعين بأن مقتضى الحكم لتعاليق البخاري المجزومة بالصحة إلى من علق عنه - أن من يجزم من أئمة التابعين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بحديث يستلزم صحته من باب أولى ، لا سيما وقد قيل : إن المرسل لو لم يحتج بالمحذوف ، لما حذفه ، فكأنه عدله .

ويمكن إلزامهم أيضا بأن مقتضى تصحيحهم في قول التابعي : " من السنة " وقفه على الصحابي - حمل قول التابعي : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، على أن المحدث له بذلك صحابي ; تحسينا للظن به ، في حجج يطول إيرادها ، لاستلزامه التعرض للرد ، مع كون جامع التحصيل في هذه المسألة للعلائي متكفلا بذلك كله ، وكذا صنف فيها ابن عبد الهادي جزءا .

( ورده ) أي : الاحتجاج بالمرسل ( جماهر ) بحذف الياء تخفيفا جمع جمهور ; أي : معظم ( النقاد ) من المحدثين ; كالشافعي وأحمد [ وغيرهما من المتقدمين والمتأخرين ] ، وحكموا بضعفه ( للجهل بالساقط في الإسناد ) ; فإنه يحتمل أن يكون تابعيا لعدم تقيدهم بالرواية عن الصحابة ، ثم يحتمل أن يكون ضعيفا ; لعدم تقيدهم بالثقات ، وعلى تقدير كونه ثقة يحتمل أن يكون روى عن تابعي أيضا يحتمل أن يكون ضعيفا ، وهلم جرا إلى ستة أو سبعة ، فهو أكثر ما وجد من رواية بعض التابعين عن بعض ، واجتماع ستة في حديث يتعلق بسورة الإخلاص .

( وصاحب التمهيد ) وهو أبو عمر بن عبد البر ( عنهم ) يعني المحدثين ( نقله ) ، بل حكى الإجماع على طلب عدالة المخبر ( ومسلم ) وهو ابن الحجاج ( صدر الكتاب ) الشهير الذي صنفه في الصحيح ( أصله ) أي : رد الاحتجاج به ، فإنه قال في أثناء كلام ذكره في مقدمة الصحيح على وجه الإيراد على لسان [ ص: 179 ] خصمه : والمرسل من الروايات في أصل قولنا ، وقول أهل العلم بالأخبار - ليس بحجة . وأقره ومشى عليه في كتابه .

[ وكذا أحمد في العلل ] حيث يعل الطريق المسندة بالطريق المرسلة ، ولو كان المرسل عنده حجة لازمة ، لما أعل به ، ويكفينا نقل صاحبه أبي داود أنه تبع فيه الشافعي ، كما تقدم .

وكذا حكي عن مالك ، وهو غريب ، فالمشهور عنه الأول ، وممن حكى الثاني عن مالك الحاكم ، وقال النووي في شرح المهذب : المرسل لا يحتج به عندنا ، وعند جمهور المحدثين ، وجماعة من الفقهاء ، وجماهير أصحاب الأصول والنظر .

قال : وحكاه الحاكم أبو عبد الله عن سعيد بن المسيب ومالك وجماعة أهل الحديث والفقهاء . انتهى .

وبسعيد يرد على ابن جرير الطبري من المتقدمين ، وابن الحاجب من المتأخرين ادعاؤهما إجماع التابعين على قبوله ; إذ هو من كبارهم ، مع أنه لم ينفرد من بينهم بذلك ، بل قال به منهم ابن سيرين والزهري .

وغايته أنهم غير متفقين على مذهب واحد ، كاختلاف من بعدهم ، ثم إن ما أشعر به كلام أبي داود في كون الشافعي أول من ترك الاحتجاج به - ليس على ظاهره ، بل هو قول ابن مهدي ، ويحيى القطان ، وغير واحد ممن قبل الشافعي ، ويمكن أن اختصاص الشافعي لمزيد التحقيق فيه .

وبالجملة فالمشهور عن أهل الحديث خاصة القول بعدم صحته ، بل هو قول جمهور الشافعية ، واختيار إسماعيل القاضي ، وابن عبد البر ، وغيرهما من المالكية ، [ ص: 180 ] والقاضي أبي بكر بن الباقلاني ، وجماعة كثيرين من أئمة الأصول .

وبالغ بعضهم في التضييق ، فرد مراسيل الصحابة ، كما بالغ من توسع من أهل الطرف الآخر ، فقبل مراسيل أهل هذه الأعصار وما قبلها ، وبينا هناك رده ، وسنبين رد الآخر آخر الباب ، وما أوردته من حجج الأولين مردود .

أما الحديث فمحمول على الغالب والأكثرية ، وإلا فقد وجد فيمن بعد الصحابة من القرنين من وجدت فيه الصفات المذمومة ، لكن بقلة ; بخلاف من بعد القرون الثلاثة ; فإن ذلك كثر فيهم واشتهر .

وقد روى الشافعي عن عمه : ثنا هشام بن عروة عن أبيه قال : إني لأسمع الحديث أستحسنه ، فما يمنعني من ذكره إلا كراهية أن يسمعه سامع فيقتدي به ، وذلك أني أسمعه من الرجل لا أثق به ، فقد حدث به عمن أثق به ، أو أسمعه من رجل أثق به قد حدث به عمن لا أثق به .

وهذا - كما قال ابن عبد البر - : يدل على أن ذلك الزمان - أي : زمان الصحابة والتابعين - كان يحدث فيه الثقة وغيره .

ونحوه ما أخرجه العقيلي من حديث ابن عون ، قال : ذكر أيوب السختياني لمحمد بن سيرين حديثا عن أبي قلابة ، فقال : أبو قلابة رجل صالح ، ولكن عمن ذكره أبو قلابة .

ومن حديث عمران بن حدير أن رجلا حدثه عن سليمان التيمي عن محمد بن سيرين : " أن من زار قبرا أو صلى إليه ، فقد برئ الله منه " .

قال عمران : فقلت لمحمد عن أبي مجلز : إن رجلا ذكر عنك كذا ، فقال أبو مجلز : كنت أحسبك يا أبا بكر [ ص: 181 ] أشد اتقاء ، فإذا لقيت صاحبك ، فأقرئه السلام وأخبره أنه كذب .

قال : ثم رأيت سليمان عند أبي مجلز ، فذكرت ذلك له ، فقال : سبحان الله ، إنما حدثنيه مؤذن لنا ، ولم أظنه يكذب . فإن هذا والذي قبله فيهما رد أيضا على من يزعم أن المراسيل لم تزل مقبولة معمولا بها .

ومثل هذه حديث عاصم عن ابن سيرين قال : كانوا لا يسألون عن الإسناد ، حتى وقعت الفتنة بعد ، وأعلى من ذلك ما رويناه في الحلية من طريق ابن مهدي عن ابن لهيعة أنه سمع شيخا من الخوارج يقول بعدما تاب : إن هذه الأحاديث دين ، فانظروا عمن تأخذون دينكم ، فإنا كنا إذا هوينا أمرا ، صيرناه حديثا . انتهى .

ولذا قال شيخنا : إن هذه والله قاصمة الظهر للمحتجين بالمرسل ; إذ بدعة الخوارج كانت في مبدأ الإسلام ، والصحابة متوافرون ، ثم في عصر التابعين فمن بعدهم ، وهؤلاء كانوا إذا استحسنوا أمرا ، جعلوه حديثا وأشاعوه ، فربما سمع الرجل الشيء فحدث به ، ولم يذكر من حدثه به ; تحسينا للظن ، فيحمله عنه غيره ، ويجيء الذي يحتج بالمقاطيع ، فيحتج به مع كون أصله ما ذكرت ، فلا حول ولا قوة إلا بالله .

وأما الإلزام بتعاليق البخاري ، فهو قد علم شرطه في الرجال ، وتقيده بالصحة ، بخلاف التابعين ، وأما ما بعده ، فالتعديل المحقق في المبهم لا يكفي على المعتمد ، كما سيأتي في سادس فروع من تقبل روايته ، فكيف باسترسال إلى هذا الحد .

[ ص: 182 ] نعم قد قال ابن كثير : المبهم الذي لم يسم ، أو سمي ولم تعرف عينه - لا يقبل روايته أحد علمناه ، ولكنه إذا كان في عصر التابعين والقرون المشهود لها بالخير ، فإنه يستأنس بروايته ، ويستضاء بها في مواطن ، وقد وقع في مسند أحمد وغيره من هذا القبيل كثير ، وكذا يمكن الانفصال عن الأخير ; بأن الموقوف لا انحصار له فيما اتصل ، بخلاف المحتج به .

وبهذا وغيره مما لم نطل بإيراده قويت الحجة في رد المرسل ، وإدراجه في جملة الضعيف ( لكن إذا صح ) يعني ثبت ( لنا ) أهل الحديث ، خصوصا الشافعية ، تبعا لنص إمامهم ( مخرجه ) أي : اتصال المرسل ( بمسند ) يجيء من وجه آخر صحيح أو حسن أو ضعيف يعتضد به .

( أو ) بـ ( مرسل ) آخر ( يخرجه ) أي : يرسله ( من ليس يروي عن رجال ) أي : شيوخ راوي المرسل ( الأول ) حتى يغلب على الظن عدم اتحادهما ( نقبله ) بالجزم جوابا لإذا الشرطية ; كما صرح ابن مالك في التسهيل بجوازه في قليل من الكلام ، وهو ظاهر كلام ابنه الشارح ، ولكن نصوص مشاهير النحاة على اختصاصه بضرورة الشعر ، على أنه لو قال : " متى " بدل " إذا " ، و " يقبل " بدل " نقبله " - كما قال شيخنا - لكان أحسن ، وكذا يعتضد بما ذكره مع هذين الشافعيين - كما سيأتي - من موافقة قول بعض الصحابة ، أو فتوى عوام أهل العلم ، مع كون الاعتضاد بها في الترتيب هكذا .

وقد نظم الزائد بعض الآخذين عن الناظم فقال : أو كان قول واحد من صحب خير الأنام عجم وعرب [ ص: 183 ] أو كان فتوى جل أهل العلم وشيخنا أهمله في النظم .

التالي السابق


الخدمات العلمية