فتح المغيث بشرح ألفية الحديث للعراقي

السخاوي - شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي

صفحة جزء
[ ص: 205 ] [ الاشتراط للاتصال ثبوت اللقاء ] وممن صرح باشتراط ثبوت اللقاء علي بن المديني ، والبخاري ، وجعلاه شرطا في أصل الصحة ، وإن زعم بعضهم أن البخاري إنما التزم ذلك في جامعه فقط ، وكذا عزا اللقاء للمحققين النووي ، بل هو مقتضى كلام الشافعي ، كما قاله شيخنا ، واقتضاه ما في شرح الرسالة لأبي بكر الصيرفي .

( و ) لكن ( مسلم لم يشرط ) في الحكم بالاتصال ( اجتماعا ) بينهما ، بل أنكر اشتراطه في مقدمة ( صحيحه ) ، وادعى أنه قول مخترع لم يسبق قائله إليه ، وأن القول الشائع المتفق عليه بين أهل العلم بالأخبار قديما وحديثا ما ذهب هو إليه من عدم اشتراطه .

( لكن ) اشترط ( تعاصرا ) أي : كونهما في عصر واحد فقط ، وإن لم يأت في خبر قط أنهما اجتمعا أو تشافها ، يعني تحسينا للظن ، بالثقة ، قال ابن الصلاح : وفيما قاله نظر . انتهى .

ووجهه فيما يظهر ما علم من تجويز أهل ذاك العصر للإرسال ، فلو لم يكن مدلسا وحدث بالعنعنة عن بعض من عاصره - لم يدل ذلك على أنه سمع منه ; لأنه وإن كان غير مدلس فقد يحتمل أن يكون أرسل عنه ; لشيوع الإرسال بينهم .

فاشترطوا أن يثبت أنه لقيه وسمع منه ، لتحمل عنعنته على السماع ; لأنه لو لم يحمل حينئذ على السماع لكان مدلسا ، والفرض السلامة من التدليس ، فبان رجحان اشتراطه .

ويؤيده قول أبي حاتم في ترجمة أبي قلابة الجرمي : إنه روى عن جماعة لم يسمع منهم ، لكنه عاصرهم ، كأبي زيد عمرو بن أخطب ، وقال مع ذلك : إنه لا يعرف له [ ص: 206 ] تدليس ، ولذا قال شيخنا عقب حكايته في ترجمة أبي قلابة من " تهذيبه " : إن هذا مما يقوي من ذهب إلى اشتراط اللقاء غير مكتف بالمعاصرة ، على أن مسلما موافق للجماعة فيما إذا عرف استحالة لقاء التابعي لذلك الصحابي في الحكم على ذلك بالانقطاع .

وحينئذ فاكتفاؤه بالمعاصرة إنما هو فيما يمكن فيه اللقاء ( وقيل ) : إنه ( يشترط طول صحابة ) بين المعنعن والذي فوقه ، قاله أبو المظفر بن السمعاني . وفيه تضييق .

( وبعضهم ) وهو أبو عمرو الداني ( شرط معرفة الراوي ) المعنعن ( بالأخذ ) عمن عنعن ( عنه ) ، كما حكاه ابن الصلاح عنه .

لكن بلفظ : إذا كان معروفا بالرواية عنه ، والأمر فيه قريب ، نعم الذي حكاه الزركشي عن قول الداني في جزء له في علوم الحديث ، مما هو منقول عن أبي الحسن القابسي أيضا اشتراط إدراك الناقل للمنقول عنه إدراكا بينا ، فإما أن يكون أحدهما وهما ، أو قالهما معا ، فإنه لا مانع من الجمع بينهما ، بل قد يحتمل الكناية بذلك عن اللقاء ، إذ معرفة الراوي بالأخذ عن شيخ بل وإكثاره عنه قد يحصل لمن لم يلقه إلا مرة .

( وقيل ) في أصل المسألة قول آخر وهو : ( كل ما أتانا منه ) أي : من سند معنعن وصف راويه بالتدليس أم لا ( منقطع ) لا يحتج به ( حتى يبين الوصل ) بمجيئه من طريق المعنعن نفسه بالتحديث ونحوه .

ولم يسم ابن الصلاح قائله ، كما وقع للرامهرمزي في كتابه " المحدث [ ص: 207 ] الفاصل " ; حيث نقله عن بعض المتأخرين من الفقهاء ، ووجهه بعضهم بأن " عن " لا إشعار له بشيء من أنواع التحمل ، ويصح وقوعها فيما هو منقطع ، كما إذا قال الواحد منا مثلا : عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو عن أنس أو نحوه .

ولذلك قال شعبة : كل إسناد ليس فيها ثنا وأنا فهو خل وبقل . وقال أيضا : فلان عن فلان ليس بحديث ، ولكن هذا القول - كما قال النووي - مردود بإجماع السلف . انتهى .

وفيه من التشديد ما لا يخفى ، ويليه اشتراط طول الصحبة ، ومقابله في الطرف الآخر الاكتفاء بالمعاصرة ، وحينئذ فالمذهب الوسط الاقتصار على اللقاء ، وما خدشه به مسلم من وجود أحاديث اتفق العلماء على صحتها مع أنها ما رويت إلا معنعنة ولم يأت في خبر قط أن بعض رواتها لقي شيخه - فغير لازم ; إذ لا يلزم من نفي ذلك عنده نفيه في نفس الأمر .

وكذا ما ألزم به رد المعنعن دائما ; لاحتمال عدم السماع ليس بوارد ; إذ المسألة مفروضة - كما تقدم - في غير المدلس ، ومتى فرض أنه لم يسمع ما عنعنه كان مدلسا .

التالي السابق


الخدمات العلمية