فتح المغيث بشرح ألفية الحديث للعراقي

السخاوي - شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي

صفحة جزء
فائدة : [ إيراد " عن " لغير الرواية ] : قد ترد " عن " ولا يقصد بها الرواية ، بل يكون المراد سياق قصة ; سواء أدركها [ أو لم يدركها ] ، ويكون هناك شيء محذوف [ ص: 208 ] تقديره عن قصة فلان ، وله أمثلة كثيرة من أبينها ما رواه ابن أبي خيثمة في تأريخه : ثنا أبي ، ثنا أبو بكر بن عياش ، ثنا أبو إسحاق - هو السبيعي - عن أبي الأحوص - يعني عوف بن مالك - أنه خرج عليه خوارج فقتلوه .

قال شيخنا : فهذا لم يرد أبو إسحاق بقوله : " عن أبي الأحوص " أنه أخبره به ، وإن كان قد لقيه وسمع منه ; لأنه يستحيل أن يكون حدثه به بعد قتله ، وإنما المراد على حذف مضاف تقديره : عن قصة أبي الأحوص .

وقد روى ذلك النسائي في الكنى من طريق يحيى بن آدم عن أبي بكر بن عياش ، سمعت أبا إسحاق يقول : خرج أبو الأحوص إلى الخوارج فقاتلهم فقتلوه .

ولذا قال موسى بن هارون - فيما نقله ابن عبد البر في التمهيد عنه - : كان المشيخة الأولى جائزا عندهم أن يقولوا : عن فلان ، ولا يريدون بذلك الرواية ، وإنما معناه عن قصة فلان ، ( وحكم أن ) بالتشديد والفتح ، وقد تكون مكسورة .

( حكم عن ) فيما تقدم ( فالجل ) بضم الجيم وتشديد اللام ، أي : المعظم من أهل العلم ، ومنهم مالك كما حكاه عنهم ابن عبد البر في التمهيد ( سووا ) بينهما ، وأنه لا اعتبار بالحروف والألفاظ ، وإنما هو باللقاء والمجالسة والسماع يعني مع السلامة من التدليس ، فإذا كان سماع بعضهم من بعض صحيحا .

كان حديث بعضهم عن بعض بأي لفظ ورد محمولا على الاتصال حتى يتبين فيه الانقطاع ، يعني ما لم يعلم استعماله خلافه كما سيأتي ، ويتأيد التسوية بين " أن " و " عن " بأن لغة بني تميم إبدال العين من الهمزة ( و ) لكن ( للقطع ) وعدم اتصال السند الآتي [ ص: 209 ] بأن ( نحا ) بالحاء المهملة ، أي : ذهب الحافظ أبو بكر ( البرديجي ) بفتح الموحدة كما هو على الألسنة ، مع أنه نسبة لبرديج على مثال فعليل بالكسر خاصة ، كما حكاه الصغاني في العباب .

( حتى يبين ) أي : يظهر ( الوصل ) بالتصريح منه بالسماع ونحوه ، لذلك الخبر بعينه ، ( في التخريج ) يعني في رواية أخرى ، حكاه ابن عبد البر عنه ، قال : وعندي أنه لا معنى له ; لإجماعهم على أن الإسناد المتصل بالصحابي سواء قال فيه الصحابي : " قال رسول الله " أو " أن " أو " عن " أو " سمعت " ; فكله عند العلماء سواء . انتهى .

ولا يلزم من كونها في أحاديث الصحابة سواء اطراد ذلك فيمن بعدهم ، على أن البرديجي لم ينفرد بذلك ، فقد قال أبو الحسن الحصار : إن فيها اختلافا ، والأولى أن تلحق بالمقطوع ; إذ لم يتفقوا على عدها في المسند ، ولولا إجماعهم في " عن " ، لكان فيه نظر .

قلت : قد تقدم فيها الخلاف أيضا . قال الذهبي عقب قول البرديجي : إنه قوي ، ( قال ) ابن الصلاح ( ومثله ) بالنصب على المفعولية ، أي : مثل الذي نحاه البرديجي .

( رأى ) الحافظ الفحل ( ابن شيبة ) هو أبو يوسف يعقوب السدوسي البصري في مسنده الفحل يعني الآتي في أدب الطالب ، فإنه حكم على رواية أبي الزبير عن محمد ابن الحنفية عن عمار قال : أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي فسلمت عليه فرد علي السلام - بالاتصال .

وعلى رواية قيس بن سعد عن عطاء بن أبي رباح ، عن ابن الحنفية ، أن عمارا مر بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي - بالإرسال من حيث كونه قال : " إن عمارا " ولم يقل [ ص: 210 ] : " عمار " ( كذا له ) أي : لابن الصلاح ; حيث فهم الفرق بين الصيغتين من مجردهما .

( ولم يصوب ) أي لم يعرج ( صوبه ) أي : صوب مقصد يعقوب في الفرق ; وذلك أن حكمه عليه بالإرسال إنما هو من جهة كونه أضاف إلى الصيغة الفعل الذي لم يدركه محمد ابن الحنفية أحد التابعين ، وهو مرور عمار ; إذ لا فرق بين أن يقول ابن الحنفية : إن عمارا مر بالنبي - صلى الله عليه وسلم - أو إن النبي مر بعمار ، فكلاهما سواء في ظهور الإرسال ، بخلاف الرواية الأخرى ، فإنه حكاها عن عمار فكانت متصلة ، ولو كان أضاف لـ " أن " القول كأن يقول : عن ابن الحنفية ، إن عمارا قال : مررت بالنبي - صلى الله عليه وسلم - لكان ظاهر الاتصال أيضا .

وقد صرح البيهقي في تعليل الحكم بالانقطاع فيما يشبه هذا بذلك ; فإنه قال في حديث عكرمة بن عمار عن قيس بن طلق : إن طلقا سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الرجل يمس ذكره وهو في الصلاة ، فقال : " لا بأس به ، إنما هو كبعض جسده . هذا منقطع ; لأن قيسا لم يشهد سؤال طلق .

( قلت ) وبالجملة ( الصواب من أدرك ) [ لقيا أو إمكانا كما مر ] ( ما رواه ) من قصة أو واقعة ( بالشرط الذي تقدما ) وهو السلامة من التدليس فيمن دون الصحابي ، ( يحكم ) بسكون الميم ( له ) أي : لحديثه ( بالوصل كيف ما روى بـ " قال " أو ) بـ ( " عن " أو بـ " أن " ) وكذا ذكر ، وفعل ، وحدث ، وكان يقول ، وما جانسها .

( فـ ) كلها ( سوا ) بفتح المهملة والقصر للضرورة ، ويجوز أن يكون سكن الهمزة ثم أبدلها ألفا ، وهي لغة فصيحة جاء بها القرآن .

وممن صرح بالتسوية ابن عبد البر كما تقدم ، ولكن ينبغي تقييده بمن لم يعلم له استعمال خلافه كالبخاري ، فإنه قد يورد الحكم بالاتصال عن شيوخه بـ " قال " ما يرويه في موضع آخر بواسطة عنهم ، كما تقدم في التعليق ، وبمن عدا المتأخرين كما سيأتي قريبا .

[ ص: 211 ] ولذا قال شيخنا : إن ما وجد في عبارات المتقدمين - يعني من ذلك - فهو محمول على السماع بشرطه ، إلا من عرف من عادته استعمال اصطلاح حادث .

قال ابن المواق : وهو - أي : التقييد بالإدراك - أمر بين لا خلاف بين أهل التمييز من أهل هذا الشأن في انقطاع ما يعلم أن الراوي لم يدرك زمان القصة فيه .

قال شيخنا : وهو كما قال ، لكن في نقل الاتفاق نظر ، فقد قال أبو عمر بن عبد البر في الكلام على حديث [ مالك عن ] ضمرة عن عبيد الله بن عبد الله ، أن عمر بن الخطاب سأل أبا واقد الليثي : ماذا كان يقرأ به النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأضحى والفطر . . . الحديث .

قال قوم : هذا منقطع ; لأن عبيد الله لم يلق عمر ، وقال قوم : بل هو متصل ; لأن عبيد الله لقي أبا واقد ، قال : فثبت بهذا الخدش في الاتفاق ، وإن كنا لا نسلمه لأبي عمر - انتهى .

[ ص: 212 ] ( وما حكى ) أي : ابن الصلاح ( عن ) الإمام ( أحمد بن حنبل ) من أن قول عروة : إن عائشة قالت : يا رسول الله ، وقوله : عن عائشة - ليسا بسواء .

( و ) كذا ما حكاه عن ( قول يعقوب ) بن شيبة ( على ذا ) أي : المذكور من القاعدة ( نزل ) ، ثم إن حكم يعقوب بالإرسال مع الطريق المتصلة لا مانع منه ، فعادة النقاد جارية بحكاية الاختلاف في الإرسال والوصل ، وكذا الرفع والوقف ونحو ذلك ، ثم يرجحون ما يؤدي اجتهادهم إليه ، وقد لا يتهيأ لهم ترجيح .

ومما ينبه عليه شيئان : أحدهما أن الخطيب مثل لهذه المسألة بحديث نافع عن ابن عمر عن عمر ، أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - : أينام أحدنا وهو جنب ؟ وفي رواية عن نافع ، عن ابن عمر ، أن عمر قال : يا رسول الله .

ثم قال : وظاهر الأولى يوجب أن يكون من مسند عمر ، والثانية أن يكون من مسند ابن عمر .

قال ابن الصلاح : وليس هذا المثال مماثلا لما نحن بصدده ; لأن الاعتماد فيه في الحكم بالاتصال على مذهب الجمهور إنما هو على اللقاء والإدراك ، وذلك في هذا الحديث مشترك متردد ; لتعلقه بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وبعمر ، وصحبة ابن عمر لهما ، فاقتضى ذلك من جهة كونه رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ومن جهة أخرى كونه رواه عن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .

ثانيهما : أن ما تقدم في كون " عن " وما أشبهها محمولا على السماع والحكم له بالاتصال بالشرطين المذكورين - هو في المتقدمين خاصة ، وإلا فقد قال ابن الصلاح : لا أرى الحكم يستمر بعدهم فيما وجد من المصنفين في تصانيفهم مما [ ص: 213 ] ذكره عن مشايخهم قائلين فيه : ذكر فلان ، قال فلان ، ونحو ذلك .

أي : فليس له حكم الاتصال ، إلا إن كان له من شيخه إجازة ، يعني فإنه لا يلزم من كونه سمع عليه أو أخذ عنه أن تكون له منه إجازة .

قال : بل كثر استعمالها بين المصنفين في التعليق ، وتعمد حذف الإسناد ، وهو فيما إذا لم يعز ما يجيء بها لكتاب أصلا ، يعني كأن يقال في الكتاب الفلاني عن فلان أشد .

قال : ( وكثر ) بين المنتسبين إلى الحديث ( استعمال عن في ذا الزمن ) المتأخر ، أي : بعد الخمسمائة ( إجازة ) بالنصب على البيان ، فإذا قال الواحد من أهله : قرأت على فلان ، عن فلان ، أو نحو ذلك ، فظن به أنه رواه بالإجازة ، ( وهو ) مع ذلك ( بوصل ما ) أي : بنوع من الوصل ( قمن ) بفتح القاف وكذا الميم للمناسبة ، وإن كان فيه الكسر أيضا ، أي : حقيق وجدير بذلك ، على ما لا يخفى .

وإنما لم يثبت ابن الصلاح الحكم في أنه رواه بالإجازة ; لكونه كان قريبا من وقت استعماله لها كذلك وقبل فشوه ، وأما الآن فقد تقرر واشتهر فليجزم به .

وقول الراوي : أنا فلان أن فلانا حدثه ، سيأتي في أواخر رابع أقسام التحمل حكاية أن ذلك إجازة مع النزاع فيه .

التالي السابق


الخدمات العلمية