فتح المغيث بشرح ألفية الحديث للعراقي

السخاوي - شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي

صفحة جزء
[ الفرق بين التدليس والإرسال ] وكذا قال الحافظ أبو الحسن بن القطان في بيان الوهم والإيهام له .

قال : " والفرق بينه وبين الإرسال هو أن الإرسال روايته عمن لم يسمع منه ، ولما كان في هذا أنه قد سمع ، كانت روايته عنه بما لم يسمع منه كأنها إيهام سماعه ذلك الشيء ; فلذلك سمي تدليسا " . وارتضاه شيخنا لتضمنه الفرق بين النوعين .

وخالف شيخه في ارتضائه هنا من شرحه حد ابن الصلاح ، وفي قوله في التقييد : إنه هو المشهور بين أهل الحديث ، وقال : إن كلام الخطيب في كفايته يؤيد ما قاله ابن القطان .

قلت : وعبارته فيها : " هو تدليس الحديث الذي لم يسمعه الراوي ممن دلسه عنه بروايته إياه على وجه أنه سمعه منه ، ويعدل عن البيان لذلك " .

قال : " ولو بين أنه لم يسمعه من الشيخ الذي دلسه عنه وكشف ذلك ، لصار ببيانه مرسلا للحديث غير مدلس فيه ; لأن الإرسال للحديث ليس بإيهام من المرسل كونه سامعا ممن لم يسمع منه ، وملاقيا لمن لم يلقه ، إلا أن التدليس الذي ذكرناه متضمن الإرسال لا محالة ; لإمساك المدلس عن ذكر الواسطة " .

" وإنما يفارق حال المرسل بإيهامه السماع ممن لم يسمعه فقط ، وهو الموهن لأمره ، فوجب كون التدليس متضمنا للإرسال ، والإرسال لا يتضمن التدليس ; لأنه لا يقتضي إيهام السماع ممن لم يسمع منه ، ولهذا لم يذم العلماء من أرسل [ ص: 224 ] - يعني لظهور السقط - وذموا من دلس " .

وأصرح منه قول ابن عبد البر في التمهيد : " التدليس عند جماعتهم اتفاقا هو أن يروي عمن لقيه وسمع منه وحدث عنه مما لم يسمعه منه ، وإنما سمعه من غيره عنه ممن ترضى حاله أو لا ترضى ، على أن الأغلب في ذلك أنه لو كانت حاله مرضية لذكره ، وقد يكون لأنه استصغره " .

قال : " وأما حديث الرجل عمن لم يلقه - كمالك عن سعيد بن المسيب ، والثوري عن إبراهيم النخعي - فاختلفوا فيه : فقالت فرقة : إنه تدليس ; لأنهما لو شاءا لسميا من حدثهما ، كما فعلا في الكثير مما بلغهما عنهما ، قالوا : وسكوت المحدث عن ذكر من حدثه مع علة به دلسة .

وقالت طائفة من أهل الحديث : إنما هو إرسال ، قالوا : فكما جاز أن يرسل سعيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وعن أبي بكر وعمر وهو لم يسمع منهما ، ولم يسم أحد من أهل العلم ذلك تدليسا ، كذلك مالك عن سعيد ، قال : ولئن كان هذا تدليسا ، فما أعلم أحدا من العلماء قديما ولا حديثا سلم منه إلا شعبة والقطان ; فإنهما ليسا يوجد لهما شيء من هذا لا سيما شعبة " . انتهى .

وكلامه بالنظر لما اعتمده يشير أيضا إلى الفرق بين التدليس والإرسال الخفي والجلي ; لإدراك مالك لسعيد في الجملة ، وعدم إدراك الثوري للنخعي أصلا ، ولكنه لم يتعرض لتخصيصه بالثقة ، فتخصيصه بها في موضع آخر من تمهيده اقتصار على الجائز منه ; لأنه قد صرح في مكان آخر منه بذمه في غير الثقة .

فقال : " ولا يكون ذلك عندهم إلا عن ثقة ، فإن دلس عن غير ثقة فهو تدليس مذموم عند جماعة أهل الحديث . وكذلك إن حدث عمن لم يسمع منه ، فقد جاوز حد التدليس الذي رخص فيه من رخص من العلماء إلى ما ينكرونه ويذمونه ولا يحمدونه " .

[ ص: 225 ] وسبقه لذلك يعقوب بن شيبة كما حكاه الخطيب عنه ، وهو مع قوله في موضع آخر : " إنه إذا وقع فيمن لم يلقه أقبح وأسمج " - يقتضي أن الإرسال أشد ، بخلاف قوله الأول ، فهو مشعر بأنه أخف ، فكأنه هنا عنى الخفي لما فيه من إيهام اللقي والسماع معا ، وهناك عنى الجلي لعدم الالتباس فيه .

لا سيما وقد ذكر أيضا أن الإرسال قد يبعث عليه أمور لا تضيره ، كأن يكون سمع الخبر من جماعة عن المرسل عنه ; بحيث صح عنده ووقر في نفسه ، أو نسي شيخه فيه مع علمه به عن المرسل عنه ، أو كأن أخذه له مذاكرة ، فينتقل الإسناد لذلك دون الإرسال ، أو لمعرفة المتخاطبين بذلك الحديث واشتهاره بينهم أو لغير ذلك مما هو في معناه ، والظاهر أن هذا في الجلي .

إذا علم هذا ، فقد أدرج الخطيب ثم النووي في هذا القسم تدليس التسوية كما سيأتي ، ووصف غير واحد بالتدليس من روى عمن رآه ولم يجالسه ، بالصيغة الموهمة ، بل وصف به من صرح بالإخبار في الإجازة كأبي نعيم ، أو بالتحديث في الوجادة كإسحاق بن راشد الجزري ، وكذا فيما لم يسمعه كفطر بن خليفة أحد من روى له البخاري مقرونا .

ولذا قال علي بن المديني : قلت ليحيى بن سعيد القطان : يعتمد على قول فطر ثنا ، ويكون موصولا ؟ فقال : لا ، فقلت : أكان ذلك منه سجية ؟ قال : نعم .

وكذا قال الفلاس : إن القطان [ ص: 226 ] قال له : وما ينتفع بقول فطر " ثنا " عطاء ، ولم يسمع منه . وقال ابن عمار عن القطان : كان فطر صاحب ذي سمعت سمعت ، يعني أنه يدلس فيما عداها ، ولعله تجوز في صيغة الجمع فأوهم دخوله .

كقول الحسن البصري : " خطبنا ابن عباس " و " خطبنا عتبة بن غزوان " وأراد أهل البصرة بلده ، فإنه لم يكن بها حين خطبتهما ، ونحوه في قوله : " حدثنا أبو هريرة " وقول طاوس : " قدم علينا معاذ اليمن " .

وأراد أهل بلده ، فإنه لم يدركه ، كما سيأتي الإشارة لذلك في أول أقسام التحمل ، ولكن صنيع فطر فيه غباوة شديدة يستلزم تدليسا صعبا ، كما قال شيخنا ، وسبقه عثمان بن خرذاذ ، فإنه لما قال لعثمان بن أبي شيبة : إن أبا هشام الرفاعي يسرق حديث غيره ويرويه ، وقال له ابن أبي شيبة : أعلى وجه التدليس أو على وجه الكذب ؟ قال : كيف يكون تدليسا وهو يقول : ثنا ؟ ! وكذا من أسقط أداة الرواية أصلا مقتصرا على اسم شيخه ، ويفعله أهل الحديث كثيرا ، ومن أمثلته - وعليه اقتصر ابن الصلاح في التمثيل لتدليس الإسناد - ما قال علي بن خشرم : كنا عند ابن عيينة فقال : الزهري ، فقيل له : حدثك الزهري ؟ فسكت ، ثم قال : الزهري ، فقيل له : أسمعته من الزهري ؟ فقال : لا ، لم أسمعه من الزهري ، ولا ممن سمعه من الزهري ، حدثني عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري ، [ ص: 227 ] أخرجه الحاكم .

ونحوه أن رجلا قال لعبد الله بن عطاء الطائفي : حدثنا بحديث : من توضأ فأحسن الوضوء ، دخل من أي أبواب الجنة شاء فقال : عقبة ، فقيل : سمعته منه ؟ قال : لا ، حدثني سعد بن إبراهيم ، فقيل : لسعد ، فقال : حدثني زياد بن مخراق ، فقيل : لزياد ، فقال : حدثني رجل عن شهر بن حوشب ، يعني عن عقبة .

وسماه شيخنا في تصنيفه في المدلسين تدليس القطع ، ولكنه قد مثل له في نكته على ابن الصلاح بما في الكامل لابن عدي وغيره عن عمر بن عبيد الطنافسي أنه كان يقول : ثنا ثم يسكت وينوي القطع ، ثم يقول : هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة وحينئذ فهو نوعان ، ونحوه تدليس العطف ، وهو أن يصرح بالتحديث في شيخ له ، ويعطف عليه شيخا آخر له ، ولا يكون سمع ذلك المروي منه ، سواء اشتركا في الرواية عن شيخ واحد - كما قيده به شيخنا لأجل المثال الذي وقع له وهو أخف - أم لا .

فروى الحاكم في علومه قال : اجتمع أصحاب هشيم ، فقالوا : لا نكتب عنه اليوم شيئا مما يدلسه ، ففطن لذلك ، فلما جلس قال : ثنا حصين ومغيرة عن إبراهيم ، وساق عدة أحاديث ، فلما فرغ قال [ ص: 228 ] : هل دلست لكم شيئا ؟ قالوا : لا ، فقال : بلى ، كل ما حدثتكم عن حصين فهو سماعي ، ولم أسمع عن مغيرة شيئا .

وهذا محمول على أنه نوى القطع . ثم قال : وفلان ، أي : وحدث فلان ، [ وقريب منه - وسماه ابن دقيق العيد خفي التدليس - قول أبي إسحاق السبيعي : ليس أبو عبيدة - يعني ابن عبد الله بن مسعود - ذكره - يعني : لي عن أبيه - ولكن عبد الرحمن بن الأسود بن يزيد النخعي عن أبيه عن ابن مسعود ، كأنه لما فيه من إيهام سماع أبي عبيدة له من أبيه ، لا سيما مع إدراكه له مع أن الصحيح عدم سماعه منه ] .

التالي السابق


الخدمات العلمية