فتح المغيث بشرح ألفية الحديث للعراقي

السخاوي - شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي

صفحة جزء
وبالجملة فهذه أنواع لهذا القسم ، ( واختلف في أهله ) أي : أهل هذا القسم المعروفين به أيرد حديثهم أم لا ؟ ( فالرد ) لهم ( مطلقا ) سواء أبينوا السماع أم لا ، دلسوا عن الثقات أم لا ( ثقف ) بضم المثلثة بعدها قاف ثم فاء ، أي : وجد .

كما قال ابن الصلاح تبعا للخطيب وغيره عن فريق من المحدثين والفقهاء ، حتى بعض من احتج بالمرسل ، محتجين لذلك بأن التدليس نفسه جرح ; لما فيه من التهمة والغش ، حيث عدل عن الكشف إلى الاحتمال ، وكذا التشبع بما لم يعط حيث يوهم السماع لما لم يسمعه ، والعلو وهو عنده بنزول ، الذي قال ابن دقيق العيد : إنه أكثر قصد المتأخرين به .

وممن حكى هذا القول القاضي عبد الوهاب في التلخيص فقال : التدليس جرح ، فمن ثبت تدليسه لا يقبل حديثه مطلقا .

قال : وهو الظاهر على أصول [ ص: 229 ] مالك ، وقيده ابن السمعاني في القواطع بما إذا استكشف فلم يخبر باسم من يروي عنه .

قال : لأن التدليس تزوير وإيهام لما لا حقيقة له ، وذلك يؤثر في صدقه ، أما إن أخبر فلا .

والثاني : القبول مطلقا صرحوا أم لا ، حكاه الخطيب في كفايته عن خلق كثيرين من أهل العلم ، قال : وزعموا أن نهاية أمره أن يكون مرسلا .

والثالث - وعزاه ابن عبد البر لأكثر أئمة الحديث - : التفصيل ، فمن كان لا يدلس إلا عن الثقات ، كان تدليسه عند أهل العلم مقبولا و إلا فلا ، قاله البزار ، وبه أشعر قول ابن الصباغ في مدلس الضعيف : " يجب ألا يقبل خبره " ، وبالتفصيل صرح أبو الفتح الأزدي .

وأشار إليه الفقيه أبو بكر الصيرفي في شرح الرسالة ، وجزم به أبو حاتم بن حبان وابن عبد البر وغيرهما في حق سفيان بن عيينة ، وبالغ ابن حبان في ذلك حتى قال : " إنه لا يوجد له تدليس قط ، إلا وجد بعينه قد بين سماعه فيه من ثقة " ; يعني كما قيل في سعيد بن المسيب على ما مضى في المرسل .

[ ص: 230 ] وفي سؤالات الحاكم للدارقطني أنه سئل عن تدليس ابن جريج ، فقال : يجتنب ، وأما ابن عيينة فإنه يدلس عن الثقات .

ولذا قيل : أما الإمام ابن عيينة فقد اغتفروا تدليسه من غير رد ، ومما وقع لابن عيينة أنه روى بالعنعنة عن عمرو بن دينار ، ثم بين حين سئل أن بينهما علي بن المديني عن أبي عاصم عن ابن جريج ، أخرجه الخطيب ، وتقدم عنه التدليس عن الزهري بواسطتين فقط ، لكن مع حذف الصيغة أصلا .

وكذا قيل في حميد الطويل : إنه لم يسمع من أنس إلا اليسير ، وجل حديثه إنما هو عن ثابت عنه ، ولكنه يدلسه .

فقال العلائي ردا على من قال : إنه لا يحتج من حديث حميد إلا بما صرح فيه - : " قد تبين الواسطة فيها ، وهو ثقة محتج به " .

والرابع : إن كان وقوع التدليس منه نادرا ، قبلت عنعنته ونحوها ، وإلا فلا ، وهو ظاهر جواب ابن المديني ; فإن يعقوب بن شيبة قال : سألته عن الرجل يدلس أيكون حجة فيما لم يقل فيه حدثنا ؟ فقال : إذا كان الغالب عليه التدليس فلا .

( والأكثرون ) من أئمة الحديث والفقه والأصول ( قبلوا ) من حديثهم ( ما صرحا ثقاتهم ) خاصة ( بوصله ) كسمعت ، وثنا ، وشبههما [ وممن ذهب إلى هذا التفصيل الشافعي ، وابن معين ، وابن المديني ، بل وظاهر كلامه قبول عنعنتهم إذا [ ص: 231 ] كان التدليس نادرا كما حكيته قريبا ; لأن التدليس ليس كذبا ، وإنما هو تحسين لظاهر الإسناد ، كما قال البزار ، وضرب من الإيهام بلفظ محتمل ، فإذا صرح قبلوه واحتجوا به ، وردوا ما أتى منه باللفظ المحتمل ، وجعلوا حكمه حكم المرسل ونحوه ، وهذا التفصيل هو خامس الأقوال فيهم .

( وصححا ) ببنائه للمفعول ، أي هذا القول ، وممن صححه الخطيب وابن الصلاح ، فعلى هذا فيجوز فتح أوله أي : صحح ابن الصلاح هذا القول ، ولكنه لم يصرح بحكايته عن الأكثرين .

وممن حكاه العلائي ، بل نفى ابن القطان الخلاف في ذلك ، وعبارته : " إذا صرح المدلس الثقة بالسماع قبل بلا خلاف ، وإن عنعن ففيه الخلاف " .

وقريب منه قول ابن عبد البر : " المدلس لا يقبل حديثه حتى يقول : ثنا أو سمعت ، فهذا ما لا أعلم فيه خلافا " .

وكأنه سلف النووي - رحمه الله - في حكايته في شرح المهذب الاتفاق على أن المدلس لا يحتج بخبره إذا عنعن ، ولكنه متعقب بما تقدم ، إلا إن قيد بمن لا يحتج بالمرسل ، وكذا يتعقب نفي ابن القطان الخلاف فيما إذا صرح بما تقدم ، وإن وافق على حكاية الخلاف في المعنعن .

و ( في ) كتب ( الصحيح ) لكل من البخاري ومسلم وغيرهما ( عدة ) من الرواة المدلسين مخرج لحديثهم مما صرحوا فيه بالتحديث ( كالأعمش ) مع قول مهنأ [ ص: 232 ] : سألت أحمد : لم كرهت مراسيله ؟ قال : لأنه كان لا يبالي عمن حدث ( وكهشيم ) - مصغرا ابن بشير - بالتكبير - الواسطي المتأخر ( بعده ) وأحد الآخذين عنه .

فقد قال ابن سعد : إنه كان يدلس كثيرا ، فما قال فيه : أنا فهو حجة ، وإلا فليس بشيء . وسئل ما يحملك على التدليس ؟ قال : إنه أشهى شيء .

وغيرهما كحميد الطويل ، فإنه - كما قال ابن سعد أيضا - : ثقة ، كثير الحديث ، إلا أنه ربما دلس على أنس ، وكقتادة .

( وفتش ) الصحاح ، فإنك تجد بها التخريج لجماعة كثيرين مما صرحوا فيه ، بل ربما يقع فيها من معنعنهم ، ولكن هو - كما قال ابن الصلاح ، وتبعه النووي وغيره - محمول على ثبوت السماع عندهم فيه من جهة أخرى ، إذا كان في أحاديث الأصول لا المتابعات تحسينا للظن بمصنفيها ، يعني ولو لم نقف نحن على ذلك لا في المستخرجات التي هي مظنة لكثير منه ولا في غيرها .

وأشار ابن دقيق العيد إلى التوقف في ذلك ، فإنه قال - بعد تقرير أن معنعن المدلس كالمنقطع ما نصه : وهذا جار على القياس ، إلا أن الجري عليه في تصرفات المحدثين وتخريجاتهم صعب عسير ، يوجب اطراح كثير من الأحاديث التي صححوها ; إذ يتعذر علينا إثبات سماع المدلس فيها من شيخه ، اللهم إلا أن يدعي مدع أن الأولين اطلعوا على ذلك ، وإن لم نطلع نحن عليه . وفي ذلك نظر . انتهى .

وأحسن من هذا كله قول القطب الحلبي في القدح المعلى : " أكثر [ ص: 233 ] العلماء أن المعنعنات التي في الصحيحين منزلة منزلة السماع " ، يعني إما لمجيئها من وجه آخر بالتصريح ، أو لكون المعنعن لا يدلس إلا عن ثقة أو عن بعض شيوخه ، أو لوقوعها من جهة بعض النقاد المحققين سماع المعنعن لها .

ولذا استثني من هذا الخلاف الأعمش ، وأبو إسحاق ، وقتادة بالنسبة لحديث شعبة خاصة عنهم ، فإنه قال : كفيتكم تدليسهم ، فإذا جاء حديثهم من طريقة بالعنعنة ، حمل على السماع جزما .

وأبو إسحاق فقط بالنسبة لحديث القطان عن زهير عنه . وأبو الزبير عن جابر بالنسبة لحديث الليث خاصة عنه ، والثوري بالنسبة لحديث القطان عنه ، بل قال البخاري : لا يعرف لسفيان الثوري عن حبيب بن أبي ثابت ، ولا عن سلمة بن كهيل ، ولا عن منصور ولا عن كثير من مشايخه تدليس ، ما أقل تدليسه ! .

وما أشار إليه شيخنا من إطلاق تخريج أصحاب الصحيح لطائفة منهم ، حيث جعل منهم قسما احتمل الأئمة تدليسه ، وخرجوا له في الصحيح لإمامته ، وقلة تدليسه في جنب ما روى كالثوري ، يتنزل على هذا ، لا سيما وقد جعل من هذا القسم من كان لا يدلس إلا عن ثقة كابن عيينة .

وكلام الحاكم يساعده ، فإنه قال : " ومنهم جماعة من المحدثين المتقدمين والمتأخرين مخرج حديثهم في الصحيح ، إلا أن المتبحر في هذا العلم يميز بين [ ص: 234 ] ما سمعوه وبين ما دلسوه " .

[ قلت : وقد أخرج البخاري في مناقب سعد بن معاذ للأعمش ، عن أبي سفيان طلحة بن نافع عن جابر بالعنعنة ، ثم أردفه برواية الأعمش له ، فقال : حدثنا أبو صالح عن جابر ; لتتقوى بها الرواية الأولى ] .

وكذا يستثنى من الخلاف من أكثر التدليس عن الضعفاء والمجاهيل ; كبقية بن الوليد ; لاتفاقهم - كما قاله شيخنا - على أنه لا يحتج بشيء من حديثهم إلا بما صرحوا بالسماع فيه ، أو من ضعف بأمر آخر سوى التدليس ، فإن هؤلاء حديثهم مردود جزما ، ولو صرحوا بالسماع إلا إن توبعوا ، ولو كان الضعف يسيرا كابن لهيعة .

التالي السابق


الخدمات العلمية