فتح المغيث بشرح ألفية الحديث للعراقي

السخاوي - شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي

صفحة جزء
[ حكم التدليس ] : وأما حكمه : فقال يعقوب بن شيبة : جماعة من المحدثين لا يرون بالتدليس بأسا ، يعني وهم الفاعلون له أو معظمهم ، ( وذمه ) - أي : أصل التدليس لا خصوص هذا القسم - ( شعبة ) بن الحجاج ( ذو الرسوخ ) في الحفظ والإتقان ; بحيث لقب أمير المؤمنين في الحديث ، فروى الشافعي عنه أنه قال : التدليس أخو الكذب ، وقال غندر عنه : إنه أشد من الزنا ; ولأن أسقط من السماء إلى الأرض أحب إلي من أن أدلس .

وقال أبو الوليد الطيالسي عنه : لأن أخر من السماء إلى الأرض أحب إلي من أن أقول : زعم فلان ، ولم أسمع ذلك الحديث منه .

[ ص: 235 ] ولم ينفرد شعبة بذمه ، بل شاركه ابن المبارك في الجملة الأخيرة ، وزاد : أن الله لا يقبل التدليس .

وممن أطلق على فاعله الكذب أبو أسامة ، وكذا قرنه به بعضهم ، وقرنه آخر بقذف المحصنات ، وقال سليمان بن داود المنقري : التدليس والغش والغرور والخداع والكذب تحشر يوم تبلى السرائر في نفاذ واحد بالمعجمة ، أي : طريق .

وقال عبد الوارث بن سعيد : إنه ذل ، يعني لسؤاله أسمع أم لا ؟

وقال ابن معين : " إني لأزين الحديث بالكلمة ، فأعرف مذلة ذلك في وجهي فأدعه " .

وقال حماد بن زيد : " هو متشبع بما لم يعط " ، ونحوه قول أبي عاصم النبيل : أقل حالاته عندي أنه يدخل في حديث : " المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور " .

وقال وكيع : الثوب لا يحل تدليسه فكيف الحديث ؟ وقال بعضهم : أدنى ما فيه التزين . وقال يعقوب بن شيبة : وكرهه جماعة من المحدثين ، ونحن [ ص: 236 ] نكرهه ، زاد غيره وتشتد الكراهة إذا كان المتروك ضعيفا فهو حرام ، ولكن اختص شعبة منه مع تقدمه بالمزيد كما ترى ، على أن شعبة قد عيب بقوله : لأن أزني أحب إلي من أن أحدث عن يزيد بن أبان الرقاشي . فقال يزيد بن هارون راوي ذلك عنه : ما كان أهون عليه الزنا ! .

قال الذهبي : وهو - أي : التدليس - داخل في قوله عليه السلام : من غشنا فليس منا ; لأنه يوهم السامعين أن حديثه متصل ، وفيه انقطاع ، هذا إن دلس عن ثقة ، فإن كان ضعيفا فقد خان الله ورسوله ، بل هو - كما قال بعض الأئمة - حرام إجماعا .

وأما ما نقله ابن دقيق العيد عن الحافظ أبي بكر أنه قال : التدليس اسم ثقيل شنيع الظاهر ، لكنه خفيف الباطن ، سهل المعنى ، فهو محمول على غير المحرم منه .

( ودونه ) أي : دون الأول من قسمي تدليس الإسناد ، وفصل عنه لعدم الحذف فيه ( التدليس للشيوخ ) ثاني قسميه ، لتصريح ابن الصلاح بأن أمره أخف ، وهو ( أن يصف ) المدلس ( الشيخ ) الذي سمع ذاك منه ( بما لا يعرف ) أي : يشتهر ( به ) من اسم أو كنية ، أو نسبة إلى قبيلة ، أو بلدة أو صنعة ، أو نحو ذلك ، كي يوعر معرفة الطريق على السامع .

ويجوز أن تكون " أن " وما بعدها في موضع رفع على البيان لقوله : " التدليس " .

ومن أمثلة ذلك قول أبي بكر بن مجاهد المقرئ : ثنا عبد الله بن أبي عبد الله ، يريد به الحافظ أبا بكر ابن صاحب السنن الحافظ أبي داود .

وقوله أيضا : ثنا محمد بن سند ، يريد به أبا بكر محمد بن الحسن بن محمد بن زياد النقاش ، نسبة لجد له .

[ ص: 237 ] ( وذا ) الفعل ( بـ ) اختلاف ( مقصد ) بكسر المهملة ، حامل لفاعله عليه ( يختلف ) في الكراهة ، ( فشره ) ما كانت تغطيته ( للضعف ) في الراوي كما فعل في محمد بن السائب الكلبي الضعيف ; حيث قيل : فيه حماد ; لتضمنه الخيانة والغش والغرور ، وذلك حرام هنا وفي الذي قبله ، كما تقدم إجماعا ، إلا أن يكون ثقة عند فاعله ، فهو أسهل إن لم يكن قد انفرد هو بتوثيقه مع علمه بتضعيف الناس له ، ومع ذلك فهو أسهل من الأول أيضا كما أشرت إليه في المرسل .

( و ) يكون ( استصغارا ) لسن الذي حدثه به ، إما بأن يكون أصغر منه أو أكبر ، لكن بيسير أو بكثير ، لكن تأخرت وفاته حتى شاركه في الأخذ عنه من هو دونه .

وقد روى الحارث بن أبي أسامة عن أبي بكر عبد الله بن محمد بن عبيد بن سفيان بن أبي الدنيا ، الحافظ الشهير صاحب التصانيف ، فلكون الحارث أكبر منه قال فيه مرة : عبد الله بن عبيد ، ومرة : عبد الله بن سفيان ، ومرة : أبو بكر بن سفيان ، ومرة : أبو بكر الأموي ، قال الخطيب : ( وذلك خلاف موجب العدالة ومقتضى الديانة من التواضع في طلب العلم ، وترك الحمية في الأخبار بأخذ العلم عمن أخذه ) .

قلت : وقد يكون للخوف من عدم أخذه عنه ، وانتشاره مع الاحتياج إليه ، أو لكون المدلس عنه حيا ، وعدم التصريح به أبعد عن المحذور الذي نهى الشافعي عنه لأجله .

ومنه قول شيخنا : أنا أبو العباس بن أبي الفرج بن أبي عبد الله الصحراوي بقراءتي عليه بالصالحية ، وعنى بذلك الولي أبا زرعة ابن شيخه الزين أبي الفضل العراقي ، ولم يتنبه له إلا أفراد ، مع تحديثه بذلك حتى لجماعة من خواص [ ص: 238 ] الولي وملازميه ، وما علموه .

( و ) يكون ( كـ ) فعل ( الخطيب ) الحافظ المكثر من الشيوخ والمسموع في تنويع الشيخ الواحد ; حيث قال مرة : أخبرنا الحسن بن محمد الخلال ، ومرة : أخبرنا الحسن بن أبي طالب ، ومرة : أنا أبو محمد الخلال ، والجميع واحد .

وقال مرة : عن أبي القاسم الأزهري ، ومرة : عن عبيد الله بن أبي القاسم الفارسي ، ومرة : عن عبيد الله بن أحمد بن عثمان الصيرفي ، والجميع واحد .

وقال مرة : أنا علي بن أبي علي البصري ، ومرة : أنا علي بن الحسن ، ومرة : أنا أبو القاسم التنوخي ، ومرة : أنا علي بن الحسن ، ويصفه مرة بالقاضي ، ومرة : بالمعدل إلى غيرها .

ومراده بهذا كله أبو القاسم علي بن أبي علي المحسن بن علي التنوخي البصري الأصل القاضي ، وهو مكثر في تصانيفه من ذلك جدا ، ويقرب منه ما يقع للبخاري في شيخه الذهلي ; فإنه تارة يقول : ثنا محمد ولا ينسبه ، وتارة : محمد بن عبد الله فينسبه إلى جده ، وتارة : محمد بن خالد ، فينسبه إلى والد جده ، ولم يقل في موضع : محمد بن يحيى ، في نظائر لذلك كثيرة ستأتي جملة منها فيمن ذكر بنعوت متعددة .

( يوهم ) الفاعل بذلك ( استكثارا ) من الشيوخ ; حيث يظن الواحد ببادي الرأي جماعة ، وإلى ذلك أشار الخطيب بقوله : ( أو تكون أحاديثه التي عنده عنه كثيرة ، فلا يحب تكرار الرواية عنه ، فيغير حاله لذلك ) .

قلت : ولكن لا يلزم من كون الناظر قد يتوهم الإكثار أن يكون مقصودا لفاعله ، بل الظن بالأئمة - خصوصا من اشتهر إكثاره مع ورعه - خلافه ; لما يتضمن من التشبع والتزين الذي يراعي تجنبه أرباب الصلاح والقلوب ، كما نبه عليه ياقوتة العلماء [ ص: 239 ] المعافى بن عمران .

وكان من أكابر العلماء والصلحاء ، ولا مانع من قصدهم الاختبار لليقظة ، والإلفات إلى حسن النظر في الرواة وأحوالهم وأنسابهم إلى قبائلهم وبلدانهم وحرفهم وألقابهم وكناهم ، وكذا الحال في آبائهم ، فتدليس الشيوخ دائر بين ما وصفنا .

وقد ذكر الذهبي في فوائد رحلته أنه لما اجتمع بابن دقيق العيد سأله التقي : من أبو محمد الهلالي ؟ فقال : سفيان بن عيينة ، فأعجبه استحضاره .

وألطف منه قوله له : من أبو العباس الذهبي ؟ فقال : أبو طاهر المخلص .

وكذا مر في صحيح ابن حبان - وأنا بين يدي شيخنا - قوله : ثنا أبو العباس الدمشقي ، فقال : من هذا ؟ فبادرته مع أنه لم يقصدني بذلك ، وقلت : هو أبو الحسن أحمد بن عمير بن جوصاء ، فأعجبه الجواب دون المبادرة لتفويتها غرضا له ، ولذا قال ابن دقيق العيد : إن في تدليس الشيخ الثقة مصلحة ، وهي امتحان الأذهان ، واستخراج ذلك وإلقاؤه إلى من يراد اختبار حفظه ومعرفته بالرجال .

على أنه قد قيل في فعل البخاري في الذهلي : إنه لما كان بينهما ما عرف في محله ; بحيث منع الذهلي أصحابه من الحضور عند البخاري ، ولم يكن ذلك بمانع للبخاري من التخريج عنه ; لوفور ديانته وأمانته وكونه عذره في نفسه بالتأويل ، غير أنه خشي من التصريح به ، أن يكون كأنه بتعديله له صدقه على نفسه فأخفى اسمه ، والله أعلم بمراده .

والأكثر في هذا القسم وقوعه من الراوي ، وقد يقع من الطالب بقصد التغطية على شيخه ; ليتوفر عليه ما جرت عادته بأخذه في حديث ذاك المدلس ; كما سيأتي في الفصل الحادي عشر من معرفة من تقبل روايته ، وهو أخفها وأظرفها ، ويجمع الكل مفسدة تضييع المروي عنه ، كما قال ابن الصلاح ; وذلك حيث جهل إلا [ ص: 240 ] أنه نادر فالحذاق لا يخفى ذلك عنهم غالبا ، فإن جهل كان من لازمه تضييع المروي أيضا ، بل قد يتفق أن يوافق ما دلس به شهرة راو ضعيف من أهل طبقته ، ويكون المدلس ثقة ، وكذا بالعكس ، وهو فيه أشد .

وبهذا وكذا بأول المقاصد بهذا القسم قد ينازع في كونه دون الذي قبله ، ولكن الحق أن هذا قل أن يخفى على النقاد بخلاف الأول ، ويعرف كل من التدليس واللقاء بإخباره أو بجزم بعض النقاد ، كما سيأتي في خفي الإرسال ( والشافعي ) بالإسكان - رحمه الله - ( أثبته ) أي : أصل التدليس لا خصوص هذا القسم للراوي .

( بمرة ) ، وعبارته : " ومن عرفناه دلس مرة ، فقد أبان لنا عورته في روايته ، وليست تلك العورة بكذب فيرد بها حديثه " إلى آخر كلامه .

وحكاه البيهقي أيضا : فقال : " من عرف بالتدليس مرة ، لا يقبل منه ما يقبل من أهل النصيحة في الصدق ، حتى يقول : حدثني أو سمعت ، كذلك ذكره الشافعي " . انتهى .

وبيان ذلك أنه بثبوت تدليسه مرة ، صار ذلك هو الظاهر من حاله في معنعناته ، كما أنه بثبوت اللقاء مرة صار الظاهر من حاله السماع .

وكذا من عرف بالكذب في حديث واحد صار الكذب هو الظاهر من حاله ، وسقط العمل بجميع حديثه مع جواز كونه صادقا في بعضه .

( قلت : وشرها ) أي : أنواع التدليس ، حتى ما ذكر ابن الصلاح أنه شره ( أخو ) أي : صاحب ( التسوية ) الذي أشار إليه الخطيب بقوله : " وربما لم يسقط المدلس اسم شيخه الذي حدثه ، [ ص: 241 ] لكنه يسقط ممن بعده في الإسناد رجلا يكون ضعيفا في الرواية أو صغير السن ، ويحسن الحديث بذلك " وتبعه النووي في ذلك القسم الأول من تقريبه ، وجماعة ليس فيهم ابن الصلاح ، منهم العلائي وتلميذه الناظم ، لكن جعله قسما ثالثا للتدليس .

وحقق تلميذه شيخنا أنه نوع من الأول ، وصنيع النووي في شرح مسلم و ( تقريبه ) يقتضيه . وبالتسوية سماه أبو الحسن بن القطان فمن بعده ، فقال : سواه فلان .

وأما القدماء فسموه تجويدا ; حيث قالوا : جوده فلان ، وصورته أن يروي المدلس حديثا عن شيخ ثقة بسند فيه راو ضعيف ، فيحذفه المدلس من بين الثقتين اللذين لقي أحدهما الآخر ، ولم يذكر أولهما بالتدليس ، ويأتي بلفظ محتمل فيستوي الإسناد كله ثقات .

ويصرح المدلس بالاتصال عن شيخه ; لأنه قد سمعه منه ، فلا يظهر في الإسناد ما يقتضي رده إلا لأهل النقد والمعرفة بالعلل ، ويصير الإسناد عاليا ، وهو في الحقيقة نازل ، وهو مذموم جدا ; لما فيه من مزيد الغش والتغطية ، وربما يلحق الثقة الذي هو دون الضعيف الضرر من ذلك بعد تبين الساقط بإلصاق ذلك به مع براءته .

[ ص: 242 ] قال ابن حزم : صح عن قوم إسقاط المجروح وضم القوي إلى القوي ; تلبيسا على من يحدث ، وغرورا لمن يأخذ عنه ، فهذا مجروح وفسقه ظاهر ، وخبره مردود ; لأنه ساقط العدالة . انتهى .

وممن كان يفعله بقية بن الوليد ، والوليد بن مسلم ، وبالتقييد باللقاء خرج الإرسال ، فقد ذكر ابن عبد البر وغيره أن مالكا سمع من ثور بن زيد أحاديث عن عكرمة ، عن ابن عباس ، ثم حدث بها بحذف عكرمة ; لأنه كان يكره الرواية عنه ، ولا يرى الاحتجاج بحديثه . انتهى .

في أمثلة لذلك عن مالك بخصوصه ، فلو كانت التسوية بالإرسال تدليسا ، لعد مالك في المدلسين ، وقد أنكروا على من عده فيهم ، فقال ابن القطان : ولقد ظن بمالك على بعده عنه عمله .

وقال الدارقطني : إن مالكا ممن عمل به وليس عيبا ، عندهم .

قلت : وهو محمول على أن مالكا ثبت عنده الحديث عن ابن عباس ، وإلا فقد قال الخطيب : إنه لا يجوز هذا الصنيع وإن احتج بالمرسل ; لأنه قد علم أن الحديث عمن ليس بحجة عنده وكذا بالتقييد بالضعيف - كان أخص من المنقطع ، على أن بعضهم قد أدرج في تدليس التسوية ما كان المحذوف ثقة .

ومن أمثلته ما رواه هشيم عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن الزهري عن عبد الله بن الحنفية عن أبيه ، هو محمد بن الحنفية ، عن علي في تحريم لحوم الحمر الأهلية قالوا : ويحيى لم يسمعه من الزهري ، وإن سمع منه غيره إنما [ ص: 243 ] أخذه عن مالك عنه ، ولكن هشيم قد سوى الإسناد ، كما جزم به ابن عبد البر وغيره ، ويتأيد بقول الخطيب الذي أسلفته في أول هذا القسم : " أو صغير السن " .

ويلتحق بتدليس التسوية في مزيد الذم ما حكيناه في القسم الأول عن فطر .

تتمة : المدلسون مطلقا على خمس مراتب ، بينها شيخنا - رحمه الله - في تصنيفه المختص بهم ، المستمد فيه من جامع التحصيل للعلائي وغيره : من لم يوصف به إلا نادرا ، كالقطان ويزيد بن هارون ، من كان تدليسه قليلا بالنسبة لما روى مع إمامته ، وجلالته ، وتحريه كالسفيانين ، من أكثر منه غير متقيد بالثقات ، من كان أكثر تدليسه عن الضعفاء والمجاهيل ، من انضم إليه ضعف بأمر آخر .

التالي السابق


الخدمات العلمية