فتح المغيث بشرح ألفية الحديث للعراقي

السخاوي - شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي

صفحة جزء
[ ص: 244 ] ( الشاذ )

161 - وذو الشذوذ ما يخالف الثقه فيه الملا فالشافعي حققه      162 - والحاكم الخلاف فيه ما اشترط
وللخليلي مفرد الراوي فقط      163 - ورد ما قالا بفرد الثقه
كالنهي عن بيع الولا والهبه      164 - وقول مسلم روى الزهري
تسعين فردا كلها قوي      165 - واختار فيما لم يخالف أن من
يقرب من ضبط ففرده حسن      166 - أو بلغ الضبط فصحح أو بعد
عنه فمما شذ فاطرحه ورد

.

لما كان تعارض الوصل والإرسال مفتقرا لبيان الحكم فيما يقابل الراجح منهما ، ناسب بعد التدليس المقدم مناسبته ذكر الشاذ ثم المنكر .

[ معنى الشاذ لغة واصطلاحا والخلاف فيه ] والشاذ لغة : المنفرد عن الجمهور ، يقال : شذ يشذ بضم الشين المعجمة وكسرها شذوذا إذا انفرد ، ( وذو الشذوذ ) يعني الشاذ .

اصطلاحا : ( ما يخالف ) الراوي ( الثقة فيه ) بالزيادة أو النقص في السند أو في المتن ( الملا ) بالهمز وسهل تخفيفا ، أي الجماعة الثقات من الناس ; بحيث لا يمكن الجمع بينهما .

( فالشافعي ) بهذا التعريف ( حققه ) ، وكذا حكاه أبو يعلى الخليلي عن جماعة من أهل الحجاز وغيره عن المحققين ; لأن العدد الكثير أولى بالحفظ من الواحد ، وهو مشعر بأن مخالفته للواحد الأحفظ كافية في الشذوذ ، وفي كلام ابن الصلاح ما يشير إليه ; حيث قال : ( فإن كان مخالفا لما رواه من هو أولى منه بالحفظ لذلك وأضبط ، كان ما انفرد به شاذا مردودا ) .

[ ص: 245 ] ولذا قال شيخنا : ( فإن خولف - أي : الراوي - بأرجح منه لمزيد ضبط أو كثرة عدد أو غير ذلك من وجوه الترجيحات - فالراجح يقال له : المحفوظ ، ومقابله وهو المرجوح ، يقال له : الشاذ ) .

ومن هنا يتبين أنه لا يحكم في تعارض الوصل والرفع مع الإرسال والوقف بشيء معين ، بل إن كان من أرسل أو وقف من الثقات أرجح قدم ، وكذا بالعكس .

مثال الشذوذ في السند : ما رواه الترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه من طريق ابن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن عوسجة ، عن ابن عباس أن رجلا توفي على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولم يدع وارثا إلا مولى هو أعتقه . . . . الحديث .

فإن حماد بن زيد رواه عن عمرو مرسلا بدون ابن عباس ، لكن قد تابع ابن عيينة على وصله ابن جريج وغيره ، ولذا قال أبو حاتم : المحفوظ حديث ابن عيينة هذا ، مع كون حماد من أهل العدالة والضبط ، ولكنه رجح رواية من هم أكثر عددا منه .

ومثاله في المتن : زيادة يوم عرفة في حديث : أيام التشريق أيام أكل وشرب ، فإن الحديث من جميع طرقه بدونها ، وإنما جاء بها موسى بن علي بن رباح ، عن أبيه ، عن عقبة بن عامر ، كما أشار إليه ابن عبد البر .

قال الأثرم : والأحاديث إذا كثرت كانت أثبت من الواحد الشاذ ، وقد يهم الحافظ أحيانا . على أنه قد صحح حديث موسى هذا ابن خزيمة ، وابن حبان ، [ ص: 246 ] والحاكم ، وقال : إنه على شرط مسلم .

وقال الترمذي : إنه حسن صحيح ، وكأن ذلك لأنها زيادة ثقة غير منافية لإمكان حملها على حاضري عرفة وبما تقرر علم أن الشافعي قيد التفرد بقيدين : الثقة ، والمخالفة .

( والحاكم ) صاحب المستدرك والمعرفة ( الخلاف ) للغير ( فيه ) أي : في الشاذ ( ما اشترط ) بل هو عنده ما انفرد به ثقة من الثقات ، وليس له أصل بمتابع لذلك الثقة ، فاقتصر على قيد الثقة وحده ، وبين ما يؤخذ منه أنه يغاير المعلل ; من حيث إن ذاك وقف على علته الدالة على جهة الوهم فيه ، من إدخال حديث في حديث ، أو وصل مرسل ، أو نحو ذلك كما سيأتي .

والشاذ لم يوقف له على علة أي معينة ; وهذا يشعر باشتراك هذا مع ذاك في كونه ينقدح في نفس الناقد أنه غلط ، وقد تقصر عبارته عن إقامة الحجة على دعواه ، وإنه من أغمض الأنواع وأدقها ، ولا يقوم به إلا من رزقه الله الفهم الثاقب ، والحفظ الواسع ، والمعرفة التامة بمراتب الرواة ، والملكة القوية بالأسانيد والمتون . وهو كذلك ، بل الشاذ - كما نسب لشيخنا - أدق من المعلل بكثير .

ثم إن الحاكم لم ينفرد بهذا التعريف ، بل قال النووي في شرح المهذب : " إنه مذهب جماعات من أهل الحديث ، قال : وهذا ضعيف " .

( وللخليلي ) نسبة لجده الأعلى ; لأنه الحافظ أبو يعلى الخليل بن عبد الله بن أحمد بن إبراهيم بن الخليل القزويني ، وهو قول ثالث فيه ( مفرد الراوي فقط ) ثقة كان أو غير ثقة ، خالف أو لم يخالف ، فما انفرد به الثقة يتوقف فيه ولا يحتج به ، ولكن يصلح أن يكون شاهدا ، وما انفرد به غير الثقة فمتروك .

[ ص: 247 ] والحاصل كما قال شيخنا من كلامهم أن الخليلي يسوي بين الشاذ والفرد المطلق ، فيلزم على قوله أن يكون في الشاذ الصحيح وغير الصحيح ، فكلامه أعم ، وأخص منه كلام الحاكم ; لأنه يخرج تفرد غير الثقة ، ويلزم على قوله أن يكون في الصحيح الشاذ وغير الشاذ ، وهو ما لا يكون فردا [ وهو ما لا يكون فردا ] ، بل اعتمد ذلك في صنيعه ; حيث ذكر في أمثلة الشاذ حديثا أخرجه البخاري في صحيحه من الوجه الذي حكم عليه بالشذوذ .

وأخص منه كلام الشافعي لتقييده بالمخالفة ، مع كونه يلزم عليه ما يلزم على قول الحاكم ، لكن الشافعي صرح بأنه مرجوح ، وأن الرواية الراجحة أولى ، وهل يلزم من ذلك عدم الحكم عليه بالصحة ؟ محل توقف ، أشير إليه في الكلام على الصحيح ، وإنه يقدح في الاحتجاج لا في التسمية ، ويستأنس لذلك بالمثال الذي أورده الحاكم مع كونه في الصحيح ، فإنه موافق على صحته ، إلا أنه يسميه شاذا ، ولا مشاحة في التسمية .

[ الرد على الحاكم والخليلي ] ( و ) لكن ( رد ) ابن الصلاح ( ما قالا ) أي : الحاكم والخليلي ( بفرد الثقة ) المخرج في كتب الصحيح المشترط فيه نفي الشذوذ ، لكون العدد غير شرط فيه على المعتمد ، بل الصحة تجامع الغرابة .

وأمثلة ذلك فيها كثيرة ; ( كـ ) حديث ( النهي عن بيع الولا ) بالقصر للضرورة ( والهبة ) ; فإنه لم يصح إلا من رواية عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر ، حتى قال مسلم عقبه : الناس كلهم في هذا الحديث عيال عليه ، وحديث ابن عيينة المخرج في الصحيحين عن عمرو بن دينار ، عن أبي العباس الشاعر ، عن عبد الله بن [ ص: 248 ] عمر في حصار الطائف تفرد به ابن عيينة [ المخرج في الصحيحين ] عن عمرو ، وعمرو عن أبي العباس ، وأبو العباس عن ابن عمر .

( و ) كذا رده بـ ( قول مسلم ) هو ابن الحجاج في الأيمان والنذور من ( صحيحه ) ( روى الزهري ) نحو ( تسعين ) بتقديم المثناة ( فردا ) لا يشاركه أحد في روايتها ( كلها ) إسنادها ( قوي ) هذا مع إمكان الجواب عن الحاكم بما أشعر به اقتصاره على جهة واحدة في المغايرة بينه وبين المعلل ; من كون الشاذ أيضا ينقدح في نفس الناقد أنه غلط ; حيث يقال : ما في الصحيح من الأفراد منتف عنه ذلك .

وأما الخليلي فليس في كلامه ما ينافي ذلك أيضا ، لا سيما وليس هو ممن يشترط العدد في الصحيح .

[ القول المختار في هذه المسألة ] ( و ) بعد أن رد ابن الصلاح كلامهما ( اختار ) مما استخرجه من صنيع الأئمة ( فيما لم يخالف ) الثقة فيه غيره ، وإنما أتى بشيء انفرد به ( أن من يقرب من ضبط ) تام ( ففرده حسن ) .

ومنه حديث إسرائيل عن يوسف بن أبي بردة عن أبيه عن عائشة ، قالت : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج من الخلاء ، قال : غفرانك ، فقد قال الترمذي عقب تخريجه : حسن غريب ، لا نعرفه إلا من حديث إسرائيل عن يوسف عن أبي بردة .

قال : ولا نعرف في هذا الباب إلا حديث عائشة ( أو بلغ الضبط ) التام ( فصحح ) فرده ، وقد تقدم مثاله ، ( أو بعد ) عنه بأن لم يكن ضابطا أصلا ( فـ ) فرده ( مما شذ فاطرحه ورد ) ما وقع لك منه ، وأمثلته كثيرة .

وحينئذ فالشاذ المردود - كما قاله ابن الصلاح - قسمان : أحدهما : الحديث الفرد المخالف ، وهو الذي عرفه الشافعي .

وثانيهما : الفرد الذي ليس في راويه [ ص: 249 ] من الثقة والضبط ما يقع جابرا لما يوجب التفرد والشذوذ من النكارة والضعف . انتهى .

وتسمية ما انفرد به غير الثقة شاذا كتسمية ما كان في رواته ضعيف أو سيئ الحفظ ، أو غير ذلك من الأمور الظاهرة معللا ، وذلك فيهما مناف لغموضهما ، فالأليق في حد الشاذ ما عرفه به الشافعي ، ولذا اقتصر شيخنا في شرح النخبة عليه ، كما أن الأليق في الحسن ما اقتصر عليه الترمذي .

التالي السابق


الخدمات العلمية