فتح المغيث بشرح ألفية الحديث للعراقي

السخاوي - شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي

صفحة جزء
الاعتبار والمتابعات والشواهد

171 - الاعتبار سبرك الحديث هل شارك راو غيره فيما حمل      172 - عن شيخه فإن يكن شورك من
معتبر به فتابع وإن      173 - شورك شيخه ففوق فكذا
وقد يسمى شاهدا ثم إذا      174 - متن بمعناه أتى فالشاهد
وما خلا عن كل ذا مفارد      175 - مثاله : " لو أخذوا إهابها "
فلفظة الدباغ ما أتى بها      176 - عن عمرو إلا ابن عيينة وقد
توبع عمرو في الدباغ فاعتضد      177 - ثم وجدنا : " أيما إهاب "
فكان فيه شاهدا في الباب

.

لما انتهى الشاذ والمنكر المجتمعان في الانفراد ، أردفا ببيان الطريق المبين للانفراد وعدمه ، ولكنه لو أخر عن الأفراد والغريب الآتيين ، كان أنسب .

[ التعريف بالاعتبار ] : و ( الاعتبار سبرك ) بفتح المهملة ثم موحدة ساكنة ، أي [ ص: 256 ] : اختبارك ونظرك ( الحديث ) من الدواوين المبوبة والمسندة وغيرهما ، كالمعاجم ، والمشيخات والفوائد ، لتنظر ( هل شارك ) راويه الذي يظن تفرده به ( راو غيره ) أو فقل : هل شارك راو من رواته غيره .

( فيما حمل عن شيخه ) سواء اتفقا في رواية ذاك الحديث بلفظه عن شيخ واحد أم لا ؟ فبان أن الاعتبار ليس قسيما لما معه كما قد توهمه الترجمة ، بل هو الهيئة الحاصلة في الكشف عنهما ، وكأنه أريد شرح الألفاظ الثلاثة ; لوقوعها في كلام أئمتهم .

[ حقيقة الشاهد والمتابع ] ( فإن يكن ) ذاك الراوي ( شورك من ) راو ( معتبر به ) بأن لم يتهم بكذب وضعف ، إما بسوء حفظه أو غلطه ، أو نحو ذلك ، حسب ما يجيء إيضاحه في مراتب الجرح والتعديل ، أو ممن فوقه في الوصف من باب أولى ( فـ ) هو ( تابع ) حقيقة ، وهي المتابعة التامة إن اتفقا في رجال السند كلهم .

( وإن شورك شيخه ) في روايته له عن شيخه ( ففوق ) بضم القاف مبنيا ; أي : أو شورك من فوق شيخه إلى آخر السند واحدا واحدا حتى الصحابي ، ( فكذا ) أي : فهو تابع أيضا ، ولكنه في ذلك قاصر عن مشاركته هو ، وكلما بعد فيه المتابع كان أنقص .

( وقد يسمى ) أي : كل واحد من المتابع لشيخه فمن فوقه ( شاهدا ) ، ولكن تسميته تابعا أكثر .

( ثم ) بعد فقد المتابعات على الوجه المشروح ( إذا متن ) آخر في الباب إما عن ذاك الصحابي أو غيره ( بمعناه أتى فهو الشاهد ) ، وأفهم اختصاص التابع باللفظ ; سواء كان من رواية ذلك الصحابي أم غيره .

وقد حكاه شيخنا مع اختصاص الشاهد بالمعنى كذلك عن قوم - يعني كالبيهقي ومن وافقه - ولكنه رجح أنه لا اقتصار في التابع على اللفظ ، ولا في [ ص: 257 ] الشاهد على المعنى ، وأن افتراقهما بالصحابي فقط ، فكل ما جاء عن ذاك الصحابي فتابع أو عن غيره فشاهد .

قال : وقد تطلق المتابعة على الشاهد وبالعكس ، والأمر فيه سهل ، ويستفاد من ذلك كله التقوية .

( وما خلا عن كل ذا ) أي : المذكور من تابع وشاهد فهو ( مفارد ) أي : أفراد ، وينقسم بعد ذلك لقسمي المنكر والشاذ كما تقرر ، وممن صرح بما تقدم في كيفية الاعتبار ابن حبان ; حيث قال : مثاله أن يروي حماد بن سلمة حديثا لم يتابع عليه عن أيوب ، عن ابن سيرين ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم .

فينظر هل روى ذلك ثقة غير أيوب عن ابن سيرين ؟ فإن وجد علم أن للخبر أصلا يرجع إليه ، وإن لم يوجد ذلك فثقة غير ابن سيرين رواه عن أبي هريرة ، وإلا فصحابي غير أبي هريرة رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فأي ذلك وجد يعلم به أن للحديث أصلا يرجع إليه ، وإلا فلا . انتهى .

وكما أنه لا انحصار للمتابعات في الثقة ، كذلك الشواهد ، ولذا قال ابن الصلاح : واعلم أنه قد يدخل في باب المتابعة والاستشهاد رواية من لا يحتج بحديثه وحده ، بل يكون معدودا في الضعفاء ، وفي كتابي البخاري ومسلم جماعة من الضعفاء ذكراهم في المتابعات والشواهد ، وليس كل ضعيف يصلح لذلك .

ولهذا يقول الدارقطني وغيره : فلان يعتبر به ، وفلان لا يعتبر به .

قال النووي في شرح مسلم : " وإنما يفعلون هذا - أي إدخال الضعفاء في المتابعات والشواهد - لكون المتابع لا اعتماد عليه ، وإنما الاعتماد على من قبله " . انتهى .

ولا انحصار له في هذا ، بل قد يكون كل من المتابع والمتابع لا اعتماد عليه ; فباجتماعهما تحصل القوة .

[ ص: 258 ] [ أمثلة التابع والشاهد ] ( مثاله ) أي : المذكور من التابع والشاهد ( لو أخذوا إهابها ، فدبغوه فانتفعوا به ) المروي عند مسلم والنسائي من طريق سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن ابن عباس ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر بشاة مطروحة أعطيتها مولاة ميمونة من الصدقة ، فقال وذكره .

( فلفظة الدباغ ) فيه ( ما أتى بها عن عمرو ) من أصحابه ( إلا ابن عيينة ) بالصرف للضرورة ، فإنه انفرد بها ولم يتابع عليها .

( وقد توبع ) شيخه ( عمرو ) عن عطاء ( في الدباغ ) ، فأخرجه الدارقطني والبيهقي من طريق ابن وهب ، عن أسامة بن زيد الليثي ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأهل شاة ماتت : " الأ نزعتم إهابها ، فدبغتموه فانتفعتم به .

قال البيهقي : وهكذا رواه الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن عطاء ، وكذلك رواه يحيى بن سعيد عن ابن جريج عن عطاء ، فهذه متابعات لابن عيينة في شيخ شيخه ( فاعتضد ) بها .

( ثم وجدنا ) من رواية عبد الرحمن بن وعلة عن ابن عباس مرفوعا : ( أيما إهاب - بكسر الهمزة ، أي : جلد دبغ - فقد طهر ) . أخرجه مسلم ، وأصحاب السنن ، ولفظ مسلم : ( إذا دبغ الإهاب . . . . ) .

( فكان فيه ) لكونه بمعنى حديث ابن عيينة ، ( شاهدا في الباب ) أي : عند من لا يعتبر فيه أن يكون عن صحابي آخر ، بل يكتفى بالمعنى .

[ ص: 259 ] وأما من يقصر الشاهد على الآتي من حديث صحابي آخر ، وهم الجمهور ، فعندهم أن رواية ابن وعلة هذه متابعة لعطاء ، ولهذا عدل شيخنا عن التمثيل به ، ومثل بحديث فيه المتابعة التامة ، والقاصرة ، والشاهد باللفظ ، والشاهد بالمعنى جميعا ، وهو ما رواه الشافعي في الأم عن مالك ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : الشهر تسع وعشرون ، فلا تصوموا حتى تروا الهلال ، ولا تفطروا حتى تروه ، فإن غم عليكم ، فأكملوا العدة ثلاثين ; فإنه في جميع الموطآت عن مالك بهذا السند بلفظ : فإن غم عليكم ، فاقدروا له .

وأشار البيهقي إلى أن الشافعي تفرد بهذا اللفظ عن مالك ، فنظرنا فإذا البخاري قد روى الحديث في صحيحه فقال : ثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي ، ثنا مالك به بلفظ الشافعي سواء ، فهذه متابعة تامة في غاية الصحة لرواية الشافعي ، والعجب من البيهقي كيف خفيت عليه ، ودل هذا على أن مالكا رواه عن عبد الله بن دينار باللفظين معا .

وقد توبع فيه عبد الله بن دينار من وجهين عن ابن عمر : أحدهما أخرجه مسلم ، من طريق أبي أسامة عن عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر ، فذكر الحديث ، وفي آخره : فإن غمي عليكم ، فاقدروا ثلاثين .

والثاني : أخرجه ابن خزيمة في صحيحه من طريق عاصم بن محمد بن زيد ، [ ص: 260 ] عن أبيه ، عن جده ابن عمر بلفظ : فإن غم عليكم ، فكملوا ثلاثين . فهذه متابعة أيضا لكنها ناقصة ، وله شاهدان : أحدهما : من حديث أبي هريرة رواه البخاري عن آدم ، عن شعبة ، عن محمد بن زياد ، عن أبي هريرة ، ولفظه : فإن غمي عليكم ، فأكملوا عدة شعبان ثلاثين .

وثانيهما : من حديث ابن عباس أخرجه النسائي من رواية عمرو بن دينار ، عن محمد بن حنين ، عن ابن عباس بلفظ حديث ابن دينار عن ابن عمر سواء . انتهى .

وقد ذكرت من أمثلته في الحاشية غير ذلك .

التالي السابق


الخدمات العلمية