فتح المغيث بشرح ألفية الحديث للعراقي

السخاوي - شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي

صفحة جزء
زيادات الثقات


178 - واقبل زيادات الثقات منهم ومن سواهم فعليه المعظم      179 - وقيل لا ، وقيل لا منهم وقد
قسمه الشيخ فقال : ما انفرد      180 - دون الثقات ثقة خالفهم
فيه صريحا فهو رد عندهم      181 - أو لم يخالف فاقبلنه وادعى
فيه الخطيب الاتفاق مجمعا      182 - أو خالف الإطلاق نحو : " جعلت
تربة الأرض " فهي فرد نقلت      183 - فالشافعي وأحمد احتجا بذا
والوصل والإرسال من ذا أخذا      184 - لكن في الإرسال جرحا فاقتضى
تقديمه ورد أن مقتضى      185 - هذا قبول الوصل إذ فيه وفي
الجرح علم زائد للمقتفي



وهو فن لطيف تستحسن العناية به ، يعرف بجمع الطرق والأبواب ، ومناسبته لما قبله ظاهرة ، ولكن كان الأنسب - كما قدمنا - ذكره مع تعارض الوصل والإرسال .

وقد كان إمام الأئمة ابن خزيمة لجمعه بين الفقه والحديث مشارا إليه [ ص: 261 ] به ; بحيث قال تلميذه ابن حبان : ما رأيت على أديم الأرض من يحفظ الصحاح بألفاظها ، ويقوم بزيادة كل لفظة زاد في الخبر ثقة ، حتى كأن السنن كلها نصب عينيه - غيره .

وكذا كان الفقيه أبو بكر عبد الله بن محمد بن زياد ، وأبو الوليد حسان بن محمد القرشي النيسابوريان وغيرهما من الأئمة ; كأبي نعيم بن عدي الجرجاني ممن اشتهر بمعرفة زيادات الألفاظ التي تستنبط منها الأحكام الفقهية في المتون .

[ أقوال الأئمة في قبول الزيادة ] ( واقبل ) أيها الطالب ( زيادات الثقات ) من التابعين ، فمن بعدهم مطلقا ( منهم ) أي : من الثقات الراوين للحديث بدونها ، بأن رواه أحدهم مرة ناقصا ومرة بالزيادة .

( ومن سواهم ) أي : من سوى الراوين بدونها من الثقات أيضا ، سواء كانت في اللفظ أم المعنى ، تعلق بها حكم شرعي أم لا ، غيرت الحكم الثابت أم لا ، أوجبت نقصا من أحكام ثبتت بخبر آخر أم لا ، علم اتحاد المجلس أم لا ، كثر الساكتون عنها أم لا .

( فـ ) ـهذا - كما حكاه الخطيب - هو الذي مشى ( عليه المعظم ) من الفقهاء وأصحاب الحديث ; كابن حبان والحاكم ، وجماعة من الأصوليين ، والغزالي في المستصفى ، وجرى عليه النووي في مصنفاته ، وهو ظاهر تصرف مسلم في صحيحه .

وقيده ابن خزيمة باستواء الطرفين في الحفظ والإتقان ، فلو كان الساكت عددا أو واحدا أحفظ منه ، أو لم يكن هو حافظا ، ولو كان صدوقا فلا .

[ ص: 262 ] وممن صرح بذلك ابن عبد البر فقال في التمهيد : ( ( إنما تقبل إذا كان راويها أحفظ ، وأتقن ممن قصر أو مثله في الحفظ ، فإن كانت من غير حافظ ولا متقن ، فلا التفات إليها ) ) ، ونحوه قول الخطيب : ( ( الذي نختاره القبول إذا كان راويها عدلا حافظا ومتقنا ضابطا ) ) .

وكذا قال الترمذي : إنما تقبل ممن يعتمد على حفظه ، ونحوه عن أبي بكر الصيرفي ، وقال ابن طاهر : إنما تقبل عند أهل الصنعة من الثقة المجمع عليه .

وكذا قيد ابن الصباغ في العدة القبول إذا كان راوي الناقصة أكثر بتعدد مجلس التحمل ; لأنهما حينئذ كالخبرين يعمل بهما .

وإمام الحرمين ، بما إذا سكت الباقون عن نفيه ، أما مع النفي على وجه يقبل فلا ، وبعض المتكلمين كما حكاه ابن الصباغ : بما إذا لم تكن مغيرة للإعراب ، وإلا كانا متعارضين أي في اللفظ ، وإن جعله بعضهم في المعنى .

وفريق بما إذا أفادت حكما شرعيا ، وآخرون بما إذا كانت في اللفظ خاصة ; كزيادة ( ( أحاقيف جرذان ) ) في حديث المحرم الذي وقصته ناقته ، فإن ذكر الموضع لا يتعلق به حكم شرعي ، حكاهما الخطيب .

[ وقال : إن [ ص: 263 ] أولهما لا وجه له ; إذ الأحكام محل التشدد ، فقبولها في غيرها أولى ، وكأنه لحظ الحاجة في القبول فلم يتجاوزها ولا لما قصره الآخر عليه مع كونه حاجة في الجملة ; بحيث صارا كطرفي نقيض في التساهل وغيره ] .

وابن السمعاني ومن وافق بما إذا لم يكن الساكتون ممن لا يغفل مثلهم عن مثلها عادة ، أو لم تكن مما تتوفر الدواعي على نقله .

وخرج شيخنا من تفرقة ابن حبان في مقدمة ( الضعفاء ) له بين المحدث والفقيه في الرواية بالمعنى التفرقة أيضا هنا بينهما في الإسناد والمتن ، فتقبل من المحدث في السند لا المتن ، ومن الفقيه عكسه ; لزيادة اعتناء كل منهما بما قبل منه ، قال : بل سياق كلام ابن حبان يرشد إليه إلى غير ذلك .

( وقيل : لا ) تقبل الزيادة مطلقا لا ممن رواه ناقصا ، ولا من غيره ، حكاه الخطيب ، وابن الصباغ عن قوم من المحدثين .

وحكي عن أبي بكر الأبهري قالوا : لأن ترك الحفاظ لنقلها وذهابهم عن معرفتها يوهنها ويضعف أمرها ، ويكون معارضا لها ، وليست كالحديث المستقل ; إذ غير ممتنع في العادة سماع واحد فقط للحديث من الراوي وانفراده به ، ويمتنع فيها سماع الجماعة لحديث واحد ، وذهاب زيادة فيه عليهم ونسيانها إلا الواحد .

( وقيل : لا ) تقبل الزيادة ( منهم ) فقط ; أي : ممن رواه بدونها ثم رواه بها ; لأن روايته له ناقصا أورثت شكا في الزيادة ، وتقبل من غيره من الثقات ، حكاه الخطيب عن فرقة من الشافعية .

[ ص: 264 ] وكذا قال به منهم أبو نصر القشيري . قال بعضهم : سواء كانت روايته للزائدة سابقة ، أو لاحقة .

ونحوه قول ابن الصباغ بوجوب التوقف ; حيث لم يذكر أنه نسيها ، فإنه قال : ولو تكررت روايته ناقصا ، ثم رواه بالزيادة ، فإن ذكر أنه كان نسيها قبلت ، وإلا وجب التوقف .

ورد ابن الخطيب الثاني بأنه لا يمتنع تعدد المجلس وسهو الراوي في اقتصاره على الناقصة في أحدهما ، أو اكتفاؤه بكونه كان أتمه قبل ، وضبطه الثقة عنه ، فنقل كل من الفريقين ما سمعه ، وإنه على تقدير اتحاد المجلس لا يمتنع أن يكون بعضهم حضر في أثناء الكلام ، أو فارق قبل انتهائه ، أو عرض له شاغل من نوم أو فكر أو نحوهما .

والثالث بأنه لا يمتنع أن يكون سمعه من راو تاما ، ومن آخر ناقصا ، ثم حدث به كل مرة عن واحد ، أو يرويه بدونها لشك أو نسيان ثم يتيقنها أو يتذكرها .

واختار الأول كما تقدم ، ولكنه ليس على إطلاقه ، وإن كان في استدلاله على قبولها منه نفسه ، بقبوله إذا روى حديثا مثبتا لحكم ، وحديثا ناسخا له ما يشعر بالقبول مع التنافي ، فتصريح إمام الحرمين بردها عنه نفى الباقين ، وابن الصباغ بأنهما كالخبرين يعمل بهما كما تقدم - قد يؤخذ منه التقييد ، وهو الذي مشى عليه شيخنا تبعا لغيره ، فاشترط لقبولها كونها غير منافية لرواية من هو أوثق من راويها .

[ ص: 265 ] وكلام الشافعي الماضي في المرسل ، مع الإشارة إليه في تعارض الوصل والإرسال ، يشير إلى عدم الإطلا ق .

[ تقسيم ما ينفرد به الثقة ] ( وقد قسمه ) أي : ما ينفرد به الثقة من الزيادة ( الشيخ ) ابن الصلاح ( فقال ) : حسبما حرره من تصرفهم : قد رأيت تقسيم ما ينفرد به الثقة إلى ثلاثة أقسام : ( ما انفرد ) بروايته ( دون الثقات ) أو ثقة أحفظ ( ثقة خالفهم ) أو خالف الواحد الأحفظ ( فيه ) أي : فيما انفرد به ( صريحا ) في المخالفة ; بحيث لا يمكن الجمع بينهما ، ويلزم من قبولها رد الأخرى ( فهو رد ) أي : مردود ( عندهم ) أي : المحققين ، ومنهم الشافعي .

( أو لم يخالف ) فيما انفرد به ما رووه أو الأحفظ أصلا ( فاقبلنه ) بنون التوكيد الخفيفة ; لأنه جازم بما رواه وهو ثقة ، ولا معارض لروايته ; إذ الساكت عنها لم ينفها لفظا ولا معنى ، ولا في سكوته دلالة على وهمها ، بل هي كالحديث المستقل الذي تفرد بجملته ثقة ، ولا مخالفة فيه أصلا كما سبق كل من هذين القسمين في الشاذ .

( وادعى فيه ) أي : في قبول هذا القسم ( الخطيب الاتفاق ) بين العلماء حال كونه ( مجمعا ) ولكن عزو حكاية الاتفاق في مسألتنا ليس صريحا في كلام الخطيب ، فعبارته : ( ( والدليل على صحة ذلك - أي : القول بقبول الزيادة - أمور :

أحدها : اتفاق جميع أهل العلم على أنه لو انفرد الثقة بنقل حديث لم ينقله غيره وجب قبوله ، ولم يكن ترك الرواة لنقله إن كانوا عرفوه وذهابهم عن العمل به معارضا له ولا قادحا في عدالة راويه ، ولا مبطلا له ، فكذلك سبيل الانفراد بالزيادة ) ) .

( أو خالف الإطلاق ) فزاد لفظة معنوية في حديث لم يذكرها سائر من رواه ( نحو : ( ( جعلت تربة الأرض ) ) ) بالنقل لنا ، طهورا في حديث : فضلت على الناس بثلاث : جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة ، وجعلت لنا الأرض مسجدا . . . .

( فهي ) أي : زيادة التربة ( فرد نقلت ) تفرد بروايتها أبو مالك سعد بن طارق الأشجعي ، عن ربعي ، عن [ ص: 266 ] حذيفة ، أخرجها مسلم في صحيحه ، وكذا أخرجها ابن خزيمة وغيره بلفظ ( التراب ) ، وسائر الروايات الصحيحة من غير حديث حذيفة لفظها : وجعلت لنا الأرض مسجدا وطهورا .

قال : " فهذا وما أشبهه يشبه القسم الأول ، من حيث إن ما رواه الجماعة عام ، يعني لشموله جميع أجزاء الأرض ، وما رواه المنفرد بالزيادة مخصوص ، يعني بالتراب .

وفي ذلك مغايرة في الصفة ، ونوع مخالفة يختلف بها الحكم ، ويشبه أيضا القسم الثاني من حيث إنه لا منافاة بينهما ( فالشافعي ) بالإسكان ، و ( أحمد احتجا بذا ) أي : باللفظ المزيد هنا ; حيث خصا التيمم بالتراب .

وكذا بزيادة " من المسلمين " في حديث زكاة الفطر ، الذي شوحح ابن الصلاح في التمثيل به ، كما صرح باحتجاجها مع غيرهما من الأئمة بها فيه خاصة ، واستغنى به عن التصريح في هذا القسم بحكم ، حتى قال النووي : كذا قال - يعني ابن الصلاح - والصحيح قبوله .

وأما شيخنا فإنه حقق تبعا للعلائي أن الذي يجري على قواعد المحدثين ، أنهم لا يحكمون عليه بحكم مطرد من القبول والرد ، بل يرجحون بالقرائن كما في تعارض الوصل والإرسال ، فهما على حد سواء ، كما جزم به ابن الحاجب .

والمرجح عنده وعند ابن الصلاح فيهما سواء ، بل قال [ ص: 267 ] ما معناه : ( والوصل والإرسال ) في تعارضهما ( من ذا ) أي : من باب زيادة الثقات ( أخذا ) ، فالوصل زيادة ثقة ، وبينه وبين الإرسال نحو ما ذكر هنا في ثالث الأقسام ، وبيانه في الشق الأول واضح .

وأما في الثاني : فإما أن يكون بحمل أحدهما على الآخر ، أو لكون كل منهما يوافق الآخر في كونه من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - ( لكن ) بالنون المشددة ( في الإرسال ) فقط ( جرحا ) في الحديث ( فاقتضى تقديمه ) أي : للأكثر من قبيل تقديم الجرح على التعديل ، يعنى : فافترقا ، ونحوه قول غيره : الإرسال علة في السند ، فكان وجودها قادحا في الوصل ، وليست الزيادة في المتن كذلك .

ولكن قال شيخنا : إن الفرق بينهما لا يخلو من تكلف وتعسف . انتهى .

وبالجملة فقد بان تباين مأخذ الأكثرين في الموضعين ، لئلا يكون تناقضا ; حيث يحكي الخطيب هناك عن أكثر أهل الحديث ترجيح الإرسال ، وهنا عن الجمهور من الفقهاء ، وأصحاب الحديث قبول الزيادة ، مع أن الوصل زيادة ثقة .

وإلى الاستشكال أشار ابن الصلاح هنا بعد الحكاية عن الخطيب بقوله : وقد قدمنا - أي : عن الخطيب - حكاية عن أكثر أهل الحديث ترجيح الإرسال ، ثم ختم الباب بإلزامهم مقابله ; لكونه رجحه هناك .

فقال ما معناه : ( ورد ) أي : تقديم الإرسال بـ ( أن مقتضى هذا ) أي : الذي علل به تقديمه ( قبول الوصل ) أيضا ( إذ فيه ) أي : في الوصل (

وفي الجرح علم زائد للمقتفي

) أي : للمتبع .

وأيضا فقد تقدم عن بعض القائلين بترجيح الإرسال تعليله بأن من أرسل معه زيادة علم .

والحق أن الزيادة مع الواصل ، وأن الإرسال نقص في الحفظ لما جبل [ ص: 268 ] عليه الإنسان من النسيان ، وحينئذ فالجواب عن الخطيب : أن يقال : إن المحكي هناك عن أهل الحديث خاصة ، وهو كذلك .

وأما هنا فعن الجمهور من الفقهاء والمحدثين ، فالأكثرية بالنظر للمجموع من الفريقين ، ولا يلزم من ذلك اختصاص أهل الحديث بالأكثرية .

تتمة : الزيادة الحاصلة من بعض الصحابة على صحابي آخر ، إذا صح السند مقبولة بالاتفاق .

التالي السابق


الخدمات العلمية