فتح المغيث بشرح ألفية الحديث للعراقي

السخاوي - شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي

صفحة جزء
المعلل .


193 - وسم ما بعلة مشمول معللا ، ولا تقل : معلول      194 - وهي عبارة عن أسباب طرت
فيها غموض وخفاء أثرت      195 - تدرك بالخلاف والتفرد
مع قرائن تضم يهتدي      196 - جهبذها إلى اطلاعه على
تصويب إرسال لما قد وصلا      197 - أو وقف ما يرفع أو متن دخل
في غيره ، أو وهم واهم حصل      198 - ظن فأمضى ، أو وقف فأحجما
مع كونه ظاهره أن سلما      199 - وهي تجيء غالبا في السند
تقدح في المتن بقطع مسند      200 - أو وقف مرفوع وقد لا تقدح
كالبيعان بالخيار صرحوا      201 - بوهم يعلى بن عبيد أبدلا
عمرا بعبد الله حين نقلا      202 - وعلة المتن كنفي البسمله
إذ ظن راو نفيها فنقله      203 - وصح أن أنسا يقول لا
أحفظ شيئا فيه حين سئلا      204 - وكثر التعليل بالإرسال
للوصل إن يقو على اتصال      205 - وقد يعلون بكل قدح
فسق وغفلة ونوع جرح      206 - ومنهم من يطلق اسم العلة
لغير قادح كوصل ثقة      207 - يقول معلول صحيح كالذي
يقول : صح مع شذوذ احتذي      208 - والنسخ سمى الترمذي عله
فإن يرد في عمل فاجنح له .

وفيه تصانيف عدة كما سيأتي في أدب الطالب إن شاء الله تعالى ، ومناسبته للفرد الشامل للشاذ ظاهرة ; لاشتراط الجمهور نفيهما في الصحيح ، ولاشتراطهما [ ص: 274 ] كما تقدم هناك في كثير .

[ التعريف بالمعلل ، والبحث عن مادة المعلول ] ( وسم ) أيها الطالب ( ما ) هو من الحديث ( بعلة ) أي : خفية من علله الآتية في سنده أو متنه ( مشمول معللا ) كما قاله ابن الصلاح ( ولا تقل ) فيه : هو ( معلول ) ، وإن وقع في كلام البخاري والترمذي وخلق من أئمة الحديث قديما وحديثا .

وكذا الأصوليون في باب القياس ; حيث قالوا : العلة والمعلول ، والمتكلمون بل وأبو إسحاق الزجاج في المتقارب من العروض ; لأن المعلول من عله بالشراب أي : سقاه مرة بعد أخرى .

ومنه " من جزيل عطائك المعلول " إلا أن مما يساعد صنيع المحدثين ، ومن أشير إليهم استعمال الزجاج اللغوي له ، وقول ( الصحاح ) : عل الشيء فهو معلول يعني من العلة ، ونص جماعة كابن القوطية في الأفعال على أنه ثلاثي ، فإنه قال : عل الإنسان علة مرض ، والشيء أصابته العلة ، ومن ثم سمى شيخنا كتابه الزهر المطلول في معرفة المعلول .

ولكن الأعرف أن فعله من الثلاثي المزيد ، تقول : أعله الله فهو معل ، ولا يقال : معلل ، فإنهم إنما يستعملونه من علله بمعنى ألهاه بالشيء وشغله به ، ومنه تعليل الصبي بالطعام ، وما يقع من استعمال أهل الحديث له ; حيث يقولون : علله فلان ، فعلى طريق الاستعارة .

[ ص: 275 ] [ التعريف بالعلة الخفية وأمثلتها ] ( وهي ) أي : العلة الخفية ( عبارة عن أسباب ) بنقل الهمزة ، جمع سبب ، وهو لغة : ما يتوصل به إلى غيره ، واصطلاحا : ما يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم .

( طرت ) بحذف الهمزة تخفيفا أي : طلعت ، بمعنى ظهرت للناقد فاطلع عليها ( فيها ) أي في تلك الأسباب ( غموض ) أي : عدم وضوح ( وخفاء أثرت ) أي : قدحت تلك الأسباب في قبوله .

( تدرك ) أي : الأسباب بعد جمع طرق الحديث والفحص عنها ( بالخلاف ) من راوي الحديث لغيره ممن هو أحفظ وأضبط وأكثر عددا ، أو عليه ( و ) بـ ( التفرد ) بذلك وعدم المتابعة عليه ( مع قرائن ) قد يقصر التعبير عنها ( تضم ) لذلك ( يهتدي ) بمجموعه ( جهبذها ) بكسر الجيم والموحدة ثم ذال معجمة ، أي الحاذق في النقد من أهل هذه الصناعة لا كل محدث ( إلى اطلاعه على تصويب إرسال ) يعني خفي ونحوه ( لما قد وصلا ) .

( أو ) تصويب ( وقف ما ) كان ( يرفع أو ) تصويب فصل ( متن ) أو بعض متن ( دخل ) مدرجا ( في ) متن ( غيره ) وكذا بإدراج لفظة أو جملة ليست من الحديث فيه .

( أو ) اطلاعه على ( وهم واهم حصل ) بغير ما ذكر ; كإبدال راو ضعيف بثقة كما اتفق لابن مردويه في حديث موسى بن عقبة ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر رفعه : إن الله أذهب عنكم عبية الجاهلية فإنه قال : إن راويه غلط في تسميته موسى بن عقبة ، وإنما هو موسى بن عبيدة ، وذاك ثقة وابن [ ص: 276 ] عبيدة ضعيف .

وكذا وقع لأبي سلمة حماد بن أسامة الكوفي أحد الثقات ; حيث روى عن عبد الرحمن بن يزيد ، وسمى جده جابرا ، فإنه كما جزم به أبو حاتم وغيره ، إنما هو عبد الرحمن بن يزيد المسمى جده تميما ، والأول ثقة ، والثاني منكر الحديث .

( ظن ) الجهبذ قوة ما وقف عليه من ذلك ( فأمضى ) الحكم بما ظنه ; لكون مبنى هذا على غلبة الظن ( أو وقف ) بإدغام فائه في فاء ( فأحجما ) بمهملة ثم جيم ، أي : كف عن الحكم بقبول الحديث وعدمه احتياطا ; لتردده بين إعلاله بذلك أو لا ، ولو كان ظن إعلاله أنقص ، كل ذلك ( مع كونه ) أي : الحديث المعل أو المتوقف فيه ( ظاهره ) قبل الوقوف على العلة ( أن سلما ) أي السلامة منها لجمعه شروط القبول الظاهرة ، ولا يقال : القاعدة أن اليقين لا يترك بالشك ; إذ لا يقين هنا .

و " أن " المصدرية وما بعدها في موضع رفع على الخبرية لقوله : " ظاهره " ، والجملة في موضع نصب ، خبرا لكونه .

وحينئذ فالمعلل أو المعلول : خبر ظاهره السلامة اطلع فيه بعد التفتيش على قادح .

ومن أمثلته حديث ابن جريج عن موسى بن عقبة ، عن سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعا : من جلس مجلسا كثر فيه لغطه ; فإن موسى بن إسماعيل أبا سلمة المنقري رواه عن وهيب بن خالد الباهلي عن سهيل المذكور ، فقال : عن عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود التابعي ، وجعله من قوله .

وبذلك أعله البخاري ، وقضى لوهيب مع تصريحه بأنه لا يعرف في الدنيا بسند [ ص: 277 ] ابن جريج هذا إلا هذا الحديث .

وقال : ( لا نذكر لموسى سماعا من سهيل ) ، وكذا أعله أحمد ، وأبو حاتم ، وأبو زرعة ، والوهم فيه من سهيل ، فإنه كان قد أصابته علة نسي من أجلها بعض حديثه ، ووهيب أعرف بحديثه من ابن عقبة ، على أن هذه العلة قد خفيت على مسلم حتى بينها له إمامه ، وكذا اغتر غير واحد من الحفاظ بظاهر هذا الإسناد ، وصححوا حديث ابن جريج .

وحديث حماد بن سلمة وغيره عن عكرمة بن خالد ، عن ابن عمر رفعه : من باع عبدا وله مال ، ومن باع نخلا قد أبرت . . . . " الحديث ، فإن بعض الثقات رواه عن عكرمة ، فقال عن الزهري ، عن ابن عمر ، فرجع الحديث إلى الزهري ، والزهري إنما رواه عن سالم عن أبيه وهو الصواب ، ومع ذلك فهو معل أيضا ; لأن نافعا رواه عن ابن عمر ، فجعل الجملة الأولى عن عمر من قوله ، والثانية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والقول قوله ، كما صرح به ابن المديني والدارقطني والنسائي .

قال : وإن كان سالم أجل منه ، قال شيخنا : وهذه علة خفية ; فإن عكرمة [ ص: 278 ] هذا أكبر من الزهري ، وهو معروف بالرواية عن ابن عمر ، فلما وجد الحديث من رواية حماد وغيره عنه ، كان ظاهره الصحة .

واعتضد بذلك ما رواه الزهري عن سالم ، عن أبيه ، وترجح به ما رواه نافع ، ثم فتشنا فبان أن عكرمة سمعه ممن هو أصغر منه وهو الزهري ، والزهري لم يسمعه من ابن عمر ، إنما سمعه من سالم ، فوضح أن رواية حماد مدلسة أو مسواة .

ورجع هذا الإسناد الذي كان يمكن الاعتضاد به إلى الإسناد المحكوم عليه بالوهم .

وكان سبب حكمهم عليه بذلك كون سالم أو من دونه سلك الجادة ; فإن العادة في الغالب أن الإسناد إذا انتهى إلى الصحابي قيل بعده : عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فلما جاء هنا بعد الصحابي ذكر صحابي آخر ، والحديث من قوله - كان ظنا غالبا على أن من ضبطه هكذا أتقن ضبطا .

[ علة السند وأمثلتها ] : ( وهي ) أي العلة الخفية ( تجيء غالبا في السند ) أي : وقليلا في المتن ، فالتي في السند ( تقدح في ) قبول ( المتن بقطع مسند ) متصل ( أو ) بـ ( وقف مرفوع ) ، أو بغير ذلك من موانع القبول ، وذلك لازم إن كانت من جهة الاختلاف على راوي الحديث الذي لا يعرف من غير جهته ولم يمكن الجمع ، وراويها أرجح ولو في شيء خاص .

وكذا إن تبين أن راوي الطريق الفرد لم يسمع ممن فوقه مع معاصرته له ; كحديث أشعث بن سوار عن محمد بن سيرين عن تميم الداري ، فإن ابن سيرين لم يسمع من تميم ; لأن مولده لسنتين بقيتا من خلافة عثمان ، وكان قتل عثمان - رضي الله عنه - في ذي الحجة سنة خمس [ ص: 279 ] وثلاثين ، وتميم مات سنة أربعين ، ويقال قبلها .

وكان ابن سيرين مع أبويه بالمدينة ، ثم خرجوا إلى البصرة ، فكان إذ ذاك صغيرا ، وتميم مع ذلك كان بالمدينة ، ثم سكن الشام ، وكان انتقاله إليها عند قتل عثمان .

وحينئذ فهو منقطع بخفي الإرسال ، وقد خفي ذلك على الضياء مع جلالته ، وأخرج حديث هذه الترجمة في المختارة له ; اعتمادا على ظاهر السند في الاتصال من جهة المعاصرة ، وكون أشعث ، وابن سيرين أخرج لهما مسلم .

( وقد لا تقدح ) ; وذلك إذا كان الاختلاف فيما له أكثر من طريق ، أو في تعيين واحد من ثقتين ( كـ ) حديث ( البيعان بالخيار ) المروي من جهة عبد الله بن دينار المدني عن مولاه ابن عمر ، فقد ( صرحوا ) أي النقاد ( بوهم ) راويه ( يعلى بن عبيد ) الطنافسي إذ ( أبدلا عمرا ) هو ابن دينار المكي ( بعبد الله ) بن دينار الذي هو الصواب في السند ، فالباء داخلة على المتروك .

( حين نقلا ) أي : روى ذلك يعلى عن سفيان الثوري ، وشذ بذلك عن سائر أصحاب الثوري ، فكلهم قالوا : عبد الله ، بل توبع الثوري ، فرواه جماعة كثيرون عن عبد الله .

[ ص: 280 ] وقد أفرد الحافظ أبو نعيم طرقه من جهة عبد الله خاصة ، فبلغت عدة رواته عنه نحو الخمسين ، وكذا لم ينفرد به عبد الله ، فقد رواه مالك وغيره من حديث نافع عن ابن عمر .

وسبب الاشتباه على يعلى اتفاقهما في اسم الأب ، وفي غير واحد من الشيوخ ، وتقاربهما في الوفاة ، ولكن عمرو أشهرهما مع اشتراكهما في الثقة .

ونظير هذا تسمية مالك - كما تقدم في المنكر - عمرو بن عثمان ، عمر بضم العين على أن إيراده في المقلوب - كما قال شيخنا - أليق ، وكذا إن كان الخلاف على تابعي الحديث ; كعروة بن الزبير من ضابطين متساويين ; بأن يجعله أحدهما عنه عن عائشة ، والآخر عنه عن أبي هريرة على المعتمد كما سلف عند الصحيح .

[ علة المتن وأمثلتها ] ( وعلة المتن ) القادحة فيه ( كـ ) حديث ( نفي ) قراءة ( البسمله ) في الصلاة المروي عن أنس ( إذ ظن راو ) من رواته حين سمع قول أنس - رضي الله عنه - : صليت خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم - ، فكانوا يستفتحون بـ " الحمد لله رب العالمين " - ( نفيها ) أي : البسملة بذلك ( فنقله ) مصرحا بما ظنه ، وقال : لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أول قراءة ولا في آخرها .

وفي لفظ : ( فلم يكونوا يفتتحون القراءة ببسم الله ) ، وصار بمقتضى ذلك حديثا مرفوعا ، والراوي لذلك مخطئ في ظنه ، ولذا قال الشافعي - رحمه الله - في الأم ونقله عنه الترمذي في جامعه : المعنى أنهم يبدءون بقراءة أم القرآن قبل ما [ ص: 281 ] يقرأ بعدها ، لا أنهم يتركون البسملة أصلا ، ويتأيد بثبوت تسمية أم القرآن بجملة الحمد لله رب العالمين في صحيح البخاري .

وكذا بحديث قتادة قال : سئل أنس : كيف كانت قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ قال : كانت مدا ، ثم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم ، يمد بسم الله ، ويمد الرحمن ويمد الرحيم . أخرجه البخاري في صحيحه .

وكذا صححه الدارقطني والحازمي ، وقال : إنه لا علة له ; لأن الظاهر كما أشار إليه أبو شامة أن قتادة لما سأل أنسا عن الاستفتاح في الصلاة بأي سورة ؟ وأجابه بـ " الحمد لله " ، سأله عن كيفية قراءته فيها ، وكأنه لم ير إبهام السائل مانعا من تعيينه بقتادة خصوصا وهو السائل أولا .

( و ) قد ( صح ) حسب ما صرح به الدارقطني ، وأخرجه ابن خزيمة في صحيحه مما يتأيد به خطأ النافي ( أن أنسا ) - رضي الله عنه - ( يقول : لا أحفظ شيئا فيه حين سئلا ) من أبي مسلمة سعيد بن يزيد ; أكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستفتح بـ " الحمد لله أو ببسم الله ؟ " .

ولكن قد روى هذا الحديث عن أنس جماعة منهم حميد وقتادة ، والتحقيق أن المعل رواية حميد خاصة ; إذ رفعها وهم من الوليد بن مسلم عن مالك عنه ، بل ومن بعض أصحاب حميد أيضا عنه ، فإنها في سائر الموطآت عن مالك : ( صليت [ ص: 282 ] وراء أبي بكر وعمر وعثمان ، فكلهم كان لا يقرأ بسم الله ) ، لا ذكر للنبي - صلى الله عليه وسلم - فيه .

وكذا الذي عند سائر حفاظ أصحاب حميد عنه ، إنما هو الوقف خاصة ، وبه صرح ابن معين عن ابن أبي عدي ; حيث قال : إن حميدا كان إذا رواه عن أنس لم يرفعه ، وإذا قال فيه : عن قتادة عن أنس رفعه .

وأما رواية قتادة ، وهي من رواية الوليد بن مسلم وغيره عن الأوزاعي : أن قتادة كتب إليه يخبر أن أنسا حدثه قال : صليت . . . فذكره بلفظ : لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أول قراءة ، ولا في آخرها ، فلم يتفق أصحابه عنه على هذا اللفظ ، بل أكثرهم لا ذكر عندهم للنفي فيه ، وجماعة منهم بلفظ : فلم يكونوا يجهرون ببسم الله .

وممن اختلف عليه فيه من أصحابه شعبة ، فجماعة منهم غندر لا ذكر عندهم فيه للنفي ، وأبو داود الطيالسي فقط حسب ما وقع من طريق غير واحد عنه بلفظ : " فلم يكونوا يفتتحون القراءة ببسم الله " ، وهي موافقة للأوزاعي ، وأبو عمر الدوري ، وكذا الطيالسي وغندر أيضا بلفظ : " فلم أسمع أحدا منهم يقرأ ببسم الله " ، بل كذا اختلف فيه غير قتادة من أصحاب أنس فإسحاق بن أبي طلحة ، وثابت البناني باختلاف [ ص: 283 ] عليهما ، ومالك بن دينار ثلاثتهم عن أنس بدون نفي ، وإسحاق وثابت أيضا ، ومنصور بن زاذان ، وأبو قلابة ، وأبو نعامة كلهم عنه باللفظ النافي للجهر خاصة ، ولفظ إسحاق منهم : " يفتتحون القراءة بالحمد لله رب العالمين فيما يجهر فيه " .

وحينئذ فطريق الجمع بين هذه الروايات - كما قال شيخنا - ممكن يحمل نفي القراءة على نفي السماع ، ونفي السماع على نفي الجهر ، ويؤيده أن لفظ رواية منصور بن زاذان : " فلم يسمعنا قراءة بسم الله " ، وأصرح منها رواية الحسن عن أنس ، كما عند ابن خزيمة : " كانوا يسرون بسم الله " ، وبهذا الجمع زالت دعوى الاضطراب ، كما أنه ظهر أن الأوزاعي الذي رواه عن قتادة مكاتبة ، مع كون قتادة ولد أكمه ، وكاتبه مجهول لعدم تسميته - لم ينفرد به .

وحينئذ فيجاب عن قول أنس : لا أحفظ - : بأن المثبت مقدم على النافي ، خصوصا وقد تضمن النفي عدم استحضار أنس - رضي الله عنه - لأهم شيء يستحضره ، وبإمكان نسيانه حين سؤال أبي مسلمة له ، وتذكره له بعد ، فإنه ثبت أن قتادة أيضا سأله : أيقرأ الرجل في الصلاة ببسم الله ؟ فقال : صليت وراء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر ، فلم أسمع أحدا منهم يقرأ ببسم الله .

ونحتاج إذ استقر محصل [ ص: 284 ] حديث أنس على نفي الجهر إلى دليل له ، وإن لم يكن من مباحثنا ، وقد ذكر له الشارح دليلا .

وأرشد شيخنا لما يؤخذ منه ذلك ، بل قال : إن قول نعيم المجمر : " صليت وراء أبي هريرة ، فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم ، ثم قرأ بأم القرآن حتى بلغ ولا الضالين ، فقال : آمين ، وقال الناس آمين ، وكان كلما سجد وإذا قام من الجلوس في الاثنتين ، يقول : الله أكبر ، ويقول إذا سلم : والذي نفسي بيده ، إني لأشبهكم صلاة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصح حديث ورد فيه ، ولا علة له .

وممن صححه ابن خزيمة وابن حبان ، وقد بوب عليه النسائي ( الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم ) ، ولكن تعقب الاستدلال به باحتمال أن يكون أبو هريرة أراد بقوله : أشبهكم في معظم الصلاة ، لا في جميع أجزائها ، لا سيما وقد رواه عنه جماعة غير نعيم بدون ذكر البسملة ، وأجيب بأن نعيما ثقة فزيادته مقبولة .

والخبر ظاهر في جميع الأجزاء ، فيحمل على عمومه حتى يثبت دليل يخصصه ، ومع ذلك فيطرقه احتمال أن يكون سماع نعيم لها من أبي هريرة حال مخافتته لقربه منه .

وقد قال الإمام فخر الدين الرازي في تصنيف له في الفاتحة : ( روى الشافعي بإسناده أن معاوية قدم المدينة فصلى بهم ، ولم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم ، ولم يكبر عند الخفض إلى الركوع والسجود ، فلما سلم ناداه المهاجرون والأنصار : يا معاوية ، سرقت الصلاة ، أين بسم الله الرحمن الرحيم ؟ ! أين التكبير عند الركوع [ ص: 285 ] والسجود ؟ ! فأعاد الصلاة مع التسمية والتكبير ) .

ثم قال الشافعي : " وكان معاوية سلطانا عظيم القوة شديد الشوكة ، فلولا أن الجهر بالتسمية كان كالأمر المتقرر عند كل الصحابة من المهاجرين والأنصار - لما قدروا على إظهار الإنكار عليه بسبب تركه " . انتهى .

وهو حديث حسن ، أخرجه الحاكم في صحيحه والدارقطني ، وقال : إن رجاله ثقات ، ثم قال الإمام بعد : وقد بينا أن هذا - يعني الإنكار المتقدم - يدل على أن الجهر بهذه الكلمة كالأمر المتواتر فيما بينهم .

وكذا قال الترمذي عقب إيراده بعد أن ترجم بـ " الجهر بالبسملة " : حديث معتمر بن سليمان عن إسماعيل بن حماد بن أبي سليمان ، عن أبي خالد الوالبي الكوفي ، عن ابن عباس قال : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفتتح صلاته ببسم الله الرحمن الرحيم ، ووافقه على تخريجه الدارقطني ، وأبو داود وضعفه ، بل وقال الترمذي : ليس إسناده بذاك ، والبيهقي في المعرفة .

واستشهد له بحديث سالم الأفطس عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم يمد بها صوته . . . . . . " الحديث .

وهو عند الحاكم في مستدركه أيضا ما نصه : [ ص: 286 ] وقد قال بهذا عدة من أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - منهم أبو هريرة ، وابن عمر ، وابن الزبير ، ومن بعدهم من التابعين ، رأوا الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم ، وبه يقول الشافعي .

[ أمور يعل بها الحديث ] : ( وكثر ) من أهل الحديث حسب ما يقع في كتب العلل وغيرها ( التعليل ) كما عبر به ابن الصلاح ، أو الإعلال كما لغيره ( بالإرسال ) الظاهر ( للوصل ) وبالوقف للرفع ( إن يقو ) الإرسال ، وكذا الوقف بكون راويه أضبط أو أكثر عددا ( على اتصال ) ورفع ، وذلك مع كونه مؤيدا ; لأن القول بتقديم الوصل إنما هو فيما لم يظهر فيه ترجيح ، كما قدمناه في بابه - مناف لتعريف العلة .

ولكن الظاهر أن قصدهم جمع مطلق العلة خفية كانت أو ظاهرة ، لا سيما وهو يفيد الإرشاد لبيان الراجح من غيره بجمع الطرق ، فقد قال ابن المديني : الباب إذا لم تجمع طرقه لم يتبين خطؤه .

وكان بعض الحفاظ يقول : إن لم يكن للحديث عندي مائة طريق ، فأنا فيه يتيم . وسيأتي شيء من هذا في آداب طالب الحديث .

ويحتمل أن التعليل بالإرسال من الخفي لخفاء القرائن المرجحة له غالبا ( وقد يعلون ) أي : أهل الحديث - كما في كتبهم - أيضا الحديث ( بكل قدح ) ظاهر ( فسق ) في راويه بكذب أو غيره .

( وغفلة ) منه ( ونوع جرح ) فيه ; كسوء حفظ ، ونحو ذلك من الأمور الوجودية التي يأباها أيضا كون العلة خفية ، ولذا صرح الحاكم بامتناع الإعلال بالجرح ونحوه ; فإن حديث المجروح ساقط واه ، ولا يعل الحديث [ ص: 287 ] إلا بما ليس للجرح فيه مدخل . انتهى .

ولكن ذلك منهم بالنسبة للذي قبله قليل ، على أنه يحتمل أيضا أن التعليل بذلك من الخفي ; لخفاء وجود طريق آخر ينجبر بها ما في هذا من ضعف ، فكأن المعلل أشار إلى تفرده ، و " فسق " وما بعده بالجر على البدلية ( ومنهم ) بالضم ، وهو أبو يعلى الخليلي ( من يطلق اسم العلة ) توسعا ( لـ ) شيء ( غير قادح كوصل ثقة ) ضابط أرسله من هو دونه أو مثله .

ولا مرجح حيث ( يقول ) في إرشاده : إن الحديث على أقسام ( معلول صحيح ) ومتفق على صحته ، أي لا علة فيه ، ومختلف فيها ، أي : بالنظر للاختلاف في استجماع شروطها ، ومثل لأولها بحديث مالك في الموطأ أنه بلغه أن أبا هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : للمملوك طعامه وكسوته ، حيث وصله مالك خارج ( الموطأ ) بمحمد بن عجلان عن أبيه عن أبي هريرة ; كما تقدم في المعضل .

وقال : فقد صار الحديث بتبيين الإسناد - أي بعد الفحص عنه - صحيحا يعتمد عليه ، أي : اتفاقا بعد أن كان ظاهره خلاف ذلك .

وحينئذ فهو من الصحيح المبين بحجة ظهرت ، وما سلكه الخليلي في ذلك هو ( كـ ) الحديث ( الذي يقول ) فيه بعضهم كالحاكم : ( صح ) أي : يصححه ( مع شذوذ ) فيه مناف عند الجمهور للصحة ( احتذي ) أي : اقتدي في الأولى بهذه ، وبه يتأيد شيخنا في كون الشذوذ يقدح في الاحتجاج ، لا في التسمية ; كما أشير [ ص: 288 ] إليه في بابه ، وفي الصحيح أيضا .

( والنسخ ) مفعول مقدم ( سمى الترمذي عله ) زاد الناظم ( فإن يرد ) الترمذي أنه علة ( في عمل ) بمعنى أنه لا يعمل بالمنسوخ ، لا العلة الاصطلاحية ( فاجنح ) بالجيم ثم نون ومهملة أي : مل ( له ) ; لأن في الصحيحين فضلا عن غيرهما من كتب الصحيح الكثير من المنسوخ ، بل وصحح الترمذي نفسه من ذلك جملة ; فتعين لذلك إرادته .

خاتمة : هذا النوع من أغمض الأنواع وأدقها ، ولذا لم يتكلم فيه كما سلف إلا الجهابذة أهل الحفظ والخبرة والفهم الثاقب مثل ابن المديني ، وأحمد ، والبخاري ، ويعقوب بن شيبة ، وأبي حاتم ، وأبي زرعة ، والدارقطني .

ولخفائه كان بعض الحفاظ يقول : معرفتنا بهذا كهانة عند الجاهل ، وقال ابن مهدي : هي إلهام ، لو قلت للقيم بالعلل : من أين لك هذا ؟ لم تكن له حجة ، يعني يعبر بها غالبا ، و إلا ففي نفسه حجج للقول وللدفع .

وسئل أبو زرعة عن الحجة لقوله ، فقال : أن تسألني عن حديث ، ثم تسأل عنه ابن وارة وأبا حاتم ، وتسمع جواب كل منا ، ولا تخبر واحدا منا بجواب الآخر ، فإن اتفقنا فاعلم حقية ما قلنا ، وإن اختلفنا فاعلم أنا تكلمنا بما أردنا ، ففعل ، فاتفقوا ، فقال السائل : أشهد أن هذا العلم إلهام .

وسأل بعض الأجلاء من أهل الرأي أبا حاتم عن أحاديث ، فقال في بعضها : هذا خطأ ، دخل لصاحبه حديث في حديث ، وهذا باطل ، وهذا منكر ، وهذا [ ص: 289 ] صحيح ، فسأله من أين علمت هذا ؟ أأخبرك الراوي بأنه غلط أو كذب ؟ فقال له : لا ، ولكني علمت ذلك .

فقال له الرجل : أتدعي الغيب ؟ فقال : ما هذا ادعاء غيب ، قال : فما الدليل على قولك ؟ فقال : أن تسأل غيري من أصحابنا ، فإن اتفقنا علمت أنا لم نجازف .

فذهب الرجل إلى أبي زرعة وسأله عن تلك الأحاديث بعينها فاتفقا ، فتعجب السائل من اتفاقهما من غير مواطأة .

فقال له أبو حاتم : أفعلمت أنا لم نجازف ؟ ثم قال : والدليل على صحة قولنا أنك تحمل دينارا بهرجا إلى صيرفي ، فإن أخبرك أنه بهرج ، وقلت له : أكنت حاضرا حين بهرج ، أو هل أخبرك الذي بهرجه بذلك ؟ يقول : لا ، ولكن علم رزقنا معرفته .

وكذلك إذا حملت إلى جوهري فص ياقوت ، وفص زجاج يعرف ذا من ذا ، ونحن نعلم صحة الحديث بعدالة ناقليه ، وأن يكون كلاما يصلح أن يكون كلام النبوة ، ونعرف سقمه ونكارته بتفرد من لم تصح عدالته .

وهو - كما قال غيره - أمر يهجم على قلوبهم لا يمكنهم رده ، وهيئة نفسانية لا معدل لهم عنها ، ولهذا ترى الجامع بين الفقه والحديث كابن خزيمة ، والإسماعيلي ، والبيهقي ، وابن عبد البر لا ينكر عليهم ، بل يشاركهم ويحذو حذوهم ، وربما يطالبهم الفقيه أو الأصولي العاري عن الحديث بالأدلة .

هذا مع اتفاق الفقهاء على الرجوع إليهم في التعديل والتجريح ، كما اتفقوا على الرجوع في كل فن إلى أهله ، ومن تعاطى تحرير فن غير فنه فهو متعن ، فالله تعالى بلطيف عنايته أقام لعلم الحديث رجالا نقادا تفرغوا له ، وأفنوا أعمارهم في تحصيله ، والبحث عن غوامضه ، وعلله ، ورجاله ، ومعرفة مراتبهم في القوة واللين .

فتقليدهم ، والمشي وراءهم ، وإمعان النظر في تواليفهم ، وكثرة مجالسة حفاظ الوقت مع الفهم ، وجودة التصور ، ومداومة الاشتغال ، وملازمة التقوى والتواضع - يوجب لك إن شاء الله معرفة السنن النبوية ، ولا قوة إلا بالله .

التالي السابق


الخدمات العلمية