فتح المغيث بشرح ألفية الحديث للعراقي

السخاوي - شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي

صفحة جزء
[ أصح الأسانيد ] واعلم أنه لا يلزم من الحكم بالصحة في سند خاص الحكم بالأصحية لفرد مطلقا ، بل ( المعتمد إمساكنا ) أي : كفنا ( عن حكمنا على سند ) معين ( بأنه أصح ) الأسانيد ( مطلقا ) كما صرح به غير واحد من أئمة الحديث .

وقال النووي : إنه المختار ; لأن تفاوت مراتب الصحيح مترتب على تمكن الإسناد من شروط الصحة ، ويعز وجود أعلى درجات القبول من الضبط والعدالة ونحوهما في كل فرد فرد من رواة الإسناد ، من ترجمة واحدة بالنسبة لجميع الرواة الموجودين في عصره ; إذ لا يعلم أو يظن أن هذا الراوي حاز أعلى [ ص: 34 ] الصفات حتى يوازى بينه وبين كل فرد من جميع من عاصره .

( وقد خاض ) إذ اقتحم الغمرات ( به ) أي : بالحكم بالأصحية المطلقة ( قوم ) فتكلموا في ذلك ، واضطربت أقوالهم فيه لاختلاف اجتهادهم ( فقيل ) كما ذهب إليه إمام الصنعة البخاري : أصح الأسانيد ما رواه ( مالك ) نجم السنن القائل فيه ابن مهدي : لا أقدم عليه في صحة الحديث أحدا .

والشافعي : إذا جاء الحديث عنه فاشدد يدك به ، كان حجة الله على خلقه بعد التابعين ( عن ) شيخه ( نافع ) القائل في حقه أحمد عن سفيان : أي حديث أوثق من حديثه ؟ !

( بما ) أي : بالذي ( رواه ) له ( الناسك ) أي : العابد ( مولاه ) أي : مولى نافع ، وهو سيده عبد الله بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - والمولى يطلق على كل من المعتق والمعتق ، وكان جديرا بالوصف بالنسك ; لأنه كان من التمسك بالآثار النبوية بالسبيل المتين .

وقال فيه - صلى الله عليه وسلم - : نعم الرجل عبد الله ، لو كان يصلي من الليل ، فكان بعد لا ينام من الليل إلا قليلا ، وقال جابر - رضي الله عنه - : ( ما منا أحد أدرك الدنيا إلا مالت به ومال بها ، إلا هو ) .

( واختر ) إذا جنحت لهذا أو زدت راويا بعد مالك ( حيث عنه يسند ) إمامنا ( الشافعي ) [ بالسكون أي : اختر هذا فـ ( حيث ) وما بعده في موضع المفعول ] ، فقد روينا عن أحمد بن حنبل قال : ( كنت سمعت ( الموطأ ) من بضعة عشر رجلا من [ ص: 35 ] حفاظ أصحاب مالك ، فأعدته على الشافعي ; لأني وجدته أقومهم به ) . انتهى

بل هو أجل من جميع من أخذه عن مالك ، رحمهما الله .

قال الأستاذ أبو منصور عبد القاهر بن طاهر التميمي : ( إنه - أي : هذا الإسناد - أجل الأسانيد لإجماع أصحاب الحديث ) ، أنه لم يكن في الرواة عن مالك أجل من الشافعي ( قلت و ) اختر كما قاله الصلاح العلائي شيخ المصنف ، إن زدت بعد الشافعي أحدا حيث ( عنه ) يسند ( أحمد ) وهو حقيق بالإلحاق .

فقد قال الشافعي : إنه خرج من بغداد وما خلف بها أفقه ولا أزهد ولا أورع ولا أعلم منه . ولاجتماع الأئمة الثلاثة في هذه الترجمة قيل لها : " سلسلة الذهب " .

فإن قيل : فلم أكثر أحمد في مسنده من الرواية عن ابن مهدي ، ويحيى بن سعيد حيث أورد حديث مالك ؟ ولم لم يخرج البخاري ومسلم وغيرهما من أصحاب الأصول ما أوردوه من حديث مالك من جهة الشافعي عنه ؟

أمكن أن يقال عن أحمد بخصوصه : لعل جمعه المسند كان قبل سماعه من الشافعي ، وأما من عداه فلطلب العلو ، وقد أوردت في هذا الموضع من النكت أشياء مهمة .

منها إيراد الحديث الذي أورده الشارح بهذه الترجمة بإسناد كنت فيه كأني أخذته عنه ، فأحببت إيراده هنا تبركا .

[ ص: 36 ] أخبرني به أبو زيد عبد الرحمن بن عمر المقدسي الحنبلي في كتابه ، والعز أبو محمد عبد الرحيم بن محمد المصري الحنفي سماعا .

قال الأول : أخبرنا أبو عبد الله محمد بن أبي الفداء بن الخيار إذنا ، أنا أبو الغنائم المسلم بن محمد بن المسلم بن مكي القيسي الدمشقي .

وقال الثاني : أخبرنا أبو العباس أحمد بن محمد بن الجوخي في كتابه ، أخبرتنا أم أحمد زينب بنت مكي بن علي بن كامل الحرانية قالا : أخبرنا أبو علي حنبل بن عبد الله الرصافي ، أخبرنا أبو القاسم هبة الله بن الحصين الشيباني ، أخبرنا أبو علي الحسن بن علي التميمي الواعظ ، أخبرنا أبو بكر أحمد بن جعفر القطيعي ، أنا أبو عبد الرحمن عبد الله ابن الإمام أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني ، حدثني أبي ، حدثنا محمد بن إدريس الشافعي ، أخبرنا مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : لا يبع بعضكم على بيع بعض ، ونهى عن النجش ، ونهى عن حبل الحبلة ، ونهى عن المزابنة ، والمزابنة بيع التمر بالتمر كيلا ، وبيع الكرم بالزبيب كيلا .

وهو مما اتفقا عليه من حديث مالك إلا الجملة الثالثة ، فهي من أفراد البخاري ، فوقع لنا بدلا لهما مساويا .

( وجزم ) الإمام أحمد ( بن [ ص: 37 ] حنبل ) نسبة لجده ، فاسم أبيه محمد ، حين تذاكر في ذلك مع جماعة بأجودية رواية الإمام أبي بكر محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب القرشي ( الزهري ) المدني القائل فيه الليث بن سعد رحمهما الله : ما رأيت عالما أجمع منه ، ولا أكثر علما .

لو سمعته يحدث في الترغيب لقلت : لا يحسن إلا هذا ، أو الأنساب فكذلك ، أو عن القرآن والسنة فحديثه جامع .

( عن سالم ) هو ابن عبد الله بن عمر الذي قال فيه ابن المسيب : إنه كان أشبه ولد أبيه به ، ومالك : إنه لم يكن في زمنه أشبه بمن مضى من الصالحين في الزهد والفضل والعيش منه ( أي ) مما رواه سالم ( عن أبيه ) عبد الله بن عمر ( البر ) بفتح الموحدة ; لأنه كان دأبه العمل الصالح .

ووافق أحمد على مذهبه في ذلك إسحاق بن إبراهيم الحنظلي المعروف بابن راهويه ، لكن معبرا بالأصحية ، ولا فرق بين اللفظين اصطلاحا ، ولذا قرن شيخنا تبعا للشارح بين الرجلين في حكاية الأصحية ، نعم الوصف بجيد عند الجهبذ أنزل رتبة من الوصف بصحيح .

( وقيل ) كما ذهب إليه عبد الرزاق بن همام ، وأبو بكر بن أبي شيبة ، إن صح عنه ، والنسائي لكنه أدرجه مع غيره : أصح الأسانيد ما رواه ( زين العابدين ) واسمه : علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الذي قال فيه مالك : بلغني أنه كان يصلي في كل يوم وليلة ألف ركعة حتى [ ص: 38 ] مات . ( عن أبه ) بحذف المثناة التحتانية على لغة النقص ; كقوله : بأبه اقتدى عدي في الكرم .

وهو السيد الحسين الشهيد سبط الرسول - صلى الله عليه وسلم - وريحانته من الدنيا ( عن ) علي بن أبي طالب ( جده ) أي : جد زين العابدين ( و ) ذلك مما رواه ( ابن شهاب ) الزهري ( عنه ) أي : عن زين العابدين ( به ) أي : بالسند المذكور ، فهذه أقوال ثلاثة .

ولأجل تنويع الخلاف في ذلك يقال : أصح الأسانيد إما ما تقدم ، ( أو فـ ) ما رواه ( ابن سيرين ) أبو بكر محمد الأنصاري البصري التابعي الشهير بكثرة الحفظ والعلم والإتقان وتعبير الرؤيا ، والذي قال فيه مؤرق : ما رأيت أفقه في ورعه ، ولا أورع في فقهه منه .

( عن ) أبي عمرو عبيدة - بفتح العين - ( السلماني ) - بسكون اللام على الصحيح ، حي من مراد - الكوفي التابعي الذي كاد أن يكون صحابيا ، فإنه أسلم قبل الوفاة النبوية ، وكان فقيها يوازي شريحا في الفضائل ، بل كان شريح يراسله فيما يشكل عليه .

قال ابن معين : ( إنه ثقة لا يسأل عن مثله ) .

( عنه ) يعني عن علي صاحب الترجمة التي قبلها . وهو قول عمرو بن علي الفلاس ، وكذا علي بن المديني وسليمان بن حرب بزيادة أيوب السختياني ; حيث قالا : أصح الأسانيد : أيوب عن ابن سيرين إلى آخره .

وجاء مرة أخرى عن أولهما بإبدال عبد الله بن عون من السختياني ، وبأجود من [ ص: 39 ] أصح ، وهما كما تقدم سواء ، وممن ذهب إلى أصحية أيوب مع باقي الترجمة النسائي ، لكن مع إدراج غيره .

( أو ) ما رواه أبو محمد سليمان بن مهران الكوفي ( الأعمش ) الإمام الحافظ الثقة الذي كان شعبة يسميه لصدقه ( المصحف ) ( عن ) الفقيه المتوفى الصالح .

( ذي الشأن ) أبي عمران إبراهيم بن يزيد بن قيس ( النخعي ) بفتح النون والمعجمة ، نسبة للنخع ، قبيلة من مذحج ، الكوفي

( عن ) راهب أهل الكوفة عبادة وعلما وفضلا وفقها . ( ابن قيس علقمة ) أي : عن علقمة بن قيس ( عن ابن مسعود ) أبي عبد الرحمن عبد الله - رضي الله عنه - وهو قول ابن معين ، وكذا قاله غيره ، لكن بإبدال منصور بن المعتمر من الأعمش .

فقال عبد الرزاق : ( حدث سفيان عن منصور بهذه الترجمة ، فقال : هذا المشرف على الكراسي ) ، بل سئل ابن معين أيهما أحب إليك في إبراهيم : الأعمش أو منصور ؟ ، فقال : ( منصور ) .

ووافقه غيره على ذلك ، فقال أبو حاتم - وقد سئل عنهما - : الأعمش حافظ يخلط ويدلس ، ومنصور أتقن لا يخلط ولا يدلس ، لكن قال وكيع : ( إن الأعمش أحفظ لإسناد إبراهيم من منصور ) .

وفي المسألة أقوال أخر أوردت منها في النكت مما لم يذكر هنا ما يزاحم عشرين قولا ، والاعتناء بتتبعها يفيد أحد أمرين : إما ترجيح ما عورض منها بذلك على غيره ، أو تمكن الناظر المتقن فيها من ترجيح بعضها على بعض بالنظر لترجيح القائلين إن تهيأ .

[ ص: 40 ] [ كتاب عن أصح الأسانيد ] وقد أفرد الناظم في الأحكام كتابا لطيفا جمعه من تراجم ستة عشر قيل فيها : إنها أصح الأسانيد ، إما مطلقا أو مقيدا ، وهي ما عدا الثالثة مما ذكر هنا ، ومالك عن أبي الزناد عن الأعرج ، ومعمر عن همام ، والزهري عن سعيد بن المسيب ، ويحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة ، كل من الأربعة عن أبي هريرة ، وعبد الرحمن بن القاسم ، وعبيد الله بن عمر مما رواه يحيى بن سعيد عنه ، كل منهما عن القاسم ، والزهري عن عروة ، كل منهما عن عائشة ، ومالك عن الزهري عن أنس .

والحسين بن واقد عن عبد الله بن بريدة عن أبيه ، وابن عيينة عن عمرو بن دينار عن جابر ، والليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن عقبة بن عامر ، والزهري عن سالم عن أبيه عن جده عمر ، وحينئذ فهو من أصح الصحيح .

( و ) على كل حال ( لم ) كما زاده المصنف ، بضم اللام أي : اعذل واعتب ( من عممه ) أي : الذي عمم الحكم بالأصحية لسند معين ; لأنه حصر في باب واسع جدا شديد الانتشار ، والحاكم فيه على خطر من الخطأ والانتقاض .

كما قيل بمثله في قولهم : ليس في الرواة من اسمه كذا سوى فلان ، بل إن كان ولا بد فتقيد كل ترجمة بصحابيها ، أو بالبلد التي منها أصحاب تلك الترجمة ، فهو أقل انتشارا أو أقرب إلى حصر ، كما قيل في أفضل التابعين ، وأصح الكتب ، وأحاديث الباب ، فيقولون : أصح أحاديث باب كذا أو مسألة كذا حديث كذا .

واعلم أنهم كما تكلموا في أصح أسانيد فلان ، مشوا في أوهى أسانيد فلان أيضا ، وفائدته ترجيح بعض الأسانيد على بعض ، وتمييز ما يصلح للاعتبار [ ص: 41 ] مما لا يصلح ، ولكن هذا المختصر يضيق عن بسط ذلك وتتماته ، فليراجع أصله بعد تحريره ، إن شاء الله تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية