فتح المغيث بشرح ألفية الحديث للعراقي

السخاوي - شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي

صفحة جزء
[ اختلاف ضرر الوضع ] واقتصر الشارح على حكاية بعض هذه المقالة ، والضرر بهؤلاء شديد ، ولذلك قال العلائي : أشد الأصناف ضررا أهل الزهد ; كما قاله ابن الصلاح ، وكذا المتفقهة الذين استجازوا نسبة ما دل عليه القياس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - .

وأما باقي الأصناف - كالزنادقة - فالأمر فيهم أسهل ; لأن كون تلك الأحاديث كذبا لا تخفى إلا على الأغبياء ، وكذا أهل الأهواء من الرافضة والمجسمة والقدرية في شد بدعهم ، وأمر أصحاب الأمراء والقصاص أظهر ; لأنهم في الغالب ليسوا [ ص: 326 ] من أهل الحديث .

قال شيخنا : وأخفى الأصناف من لم يتعمد الوضع ، مع الوصف بالصدق ; كمن يغلط فيضيف إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - كلام بعض الصحابة أو غيرهم ، وكمن ابتلي بمن يدس في حديثه ما ليس منه ، كما وقع لحماد بن زيد مع ربيبه ، ولسفيان بن وكيع مع وراقه ، ولعبد الله بن صالح كاتب الليث مع جاره ، ولجماعة من الشيوخ المصريين في ذلك العصر مع خالد بن نجيح المدائني المصري .

وكمن تدخل عليه آفة في حفظه ، أو في كتابه ، أو في بصره ، فيروي ما ليس من حديثه غالطا ، فإن الضرر بهم شديد لدقة استخراج ذلك إلا من الأئمة النقاد . انتهى .

والأمثلة لمن يضع كلامه أو كلام غيره كثيرة ; كحديث : ( المعدة بيت الداء ، والحمية رأس الدواء ) ; فإن هذا لا يصح رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، بل هو من كلام الحارث بن كلدة طبيب العرب أو غيره ، وحديث : ( من عمل بما يعلم أورثه الله علم ما لم يعلم ) ، كما سيأتي قريبا .

وحديث : ( حب الدنيا رأس كل خطيئة ) ، فقد رواه البيهقي في الزهد ، [ ص: 327 ] وأبو نعيم في ترجمة الثوري من ( الحلية ) من قول عيسى ابن مريم - عليه السلام - ، وجزم ابن تيمية بأنه من قول جندب البجلي - رضي الله عنه - ، وأورده ابن أبي الدنيا في مكائد الشيطان له من قول مالك بن دينار ، وابن يونس في ترجمة سعد بن مسعود التجيبي من ( تأريخ مصر ) له من قول سعد هذا .

ولكن أخرجه البيهقي أيضا في الحادي والسبعين من ( الشعب ) بسند حسن إلى الحسن البصري رفعه مرسلا ، [ قال القاضي زكريا : قال العراقي : مراسيل الحسن عندهم شبه الريح . وأورده الديلمي في الفردوس ، وتبعه ولده بلا إسناد عن علي بن أبي طالب رفعه أيضا .

ولا دليل للحكم عليه بالوضع مع وجود هذا ، ولذا لا يصح التمثيل به ، اللهم إلا أن يكون سنده مما ركب ، فقد ركبت أسانيد مقبولة لمتون ضعيفة أو متوهمة ; كما سيأتي هنا وفي النوع بعده ، فيكون من أمثلة الوضع السندي .

( ومنه ) أي الموضوع ( نوع وضعه لم يقصد نحو حديث ثابت ) هو ابن موسى الزاهد ، الذي رواه إسماعيل بن محمد الطلحي عنه عن شريك بن عبد الله القاضي ، عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر رفعه : ( من كثرت صلاته ) بالليل . . . . . . ( الحديث ) ، وتمامه : " حسن وجهه بالنهار " فإن هذا لا أصل له عن النبي صلى الله عليه وسلم .

[ ص: 328 ] وإن أغرب القضاعي حيث قال في مسند الشهاب له لما ساقه من طرق : ما طعن أحد منهم - أي من الحفاظ الذين أشار إليهم - في إسناده ولا متنه .

واغتر الركن بن القوبع المالكي ; حيث قال من أبيات :

ومن كثرت صلاة الليل منه فيحسن وجهه قول النبي .

ولكن لم يقصد راويه الأول وهو ثابت وضعه ، إنما دخل على شريك وهو في مجلس إملائه عند قوله : ثنا الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولم يذكر المتن الحقيقي لهذا السند ، أو ذكره - حسب ما اقتضاه كلام ابن حبان - وهو : يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم .

فقال شريك متصلا بالسند أو بالمتن حين نظر إلى ثابت : " من كثرت . . . . . " إلى آخره ، قاصدا بذلك مماجنة ثابت لزهده وورعه وعبادته ، فظن ثابت أن هذا متن ذاك السند ، أو بقية المتن لمناسبته له ، فكان يحدث به كذلك مدرجا له في المتن الحقيقي أو منفصلا عنه ، وهو الذي رأيته .

وذلك ( وهلة ) أي : غلطة من ثابت لغفلته التي أدى إليها صلاحه ( سرت ) تلك الغلطة بحيث انتشرت ، فرواه عنه غير واحد ، وقرن بعضهم بشريك سفيان الثوري ، ولم يقنع جماعة من الضعفاء بروايته عن ثابت ، مع تصريح ابن [ ص: 329 ] عدي بأنه لا يعرف إلا به ، بل سرقوه منه ، ثم رووه عن شريك نفسه .

ولذا قال عبد الغني بن سعيد الحافظ : إن كل من حدث به عن شريك ، فهو غير ثقة .

ونحوه قول العقيلي : إنه حديث باطل ليس له أصل ولا يتابعه عليه ثقة ، ولا يخدش في قولهما رواية زكريا بن يحيى زحمويه مع كونه ثقة له عن شريك ، فالراوي له عن زحمويه ضعيف .

وكذا سرقه بعضهم ورواه عن الأعمش ، وبعضهم صير له إسنادا إلى الثوري ، وابن جريج كلاهما عن أبي الزبير عن جابر ، وجعله بعضهم من مسند أنس .

وفي قيام الليل ) لابن نصر ، ومسند الشهاب للقضاعي ، والموضوعات لابن الجوزي من طرقه الكثير ، إلى غير ذلك مما لم يذكروه ، ولكنه من جميعها على اختلافها باطل ، كشف النقاد سترها ، وبينوا أمرها بما لا نطيل بشرحه .

ولا اعتداد بما يخالف هذا كما تقدم ، وإنما يعرف معناه عن الحسن البصري فيما رواه مسبح بن حاتم ، ثنا عبد الله بن محمد ، عن إسماعيل المكي عنه أنه سئل : ما بال المتهجدين بالليل ، أحسن الناس وجوها ؟ ! قال : لأنهم خلوا بالرحمن ، [ ص: 330 ] فألبسهم من نوره .

وظهر بما تقرر أن قول ابن الصلاح - تبعا للخليلي في الإرشاد - : إنه شبه الوضع حسن ; إذ لم يضعه ثابت ، وإن كان ابن معين قال فيه : إنه كذاب ، نعم الطرق المركبة له موضوعة ، ولذا جزم أبو حاتم بأنه موضوع ، والظاهر أنهم توهموه حديثا وحملهم الشره ومحبة الظهور على ادعاء سماعه ، وهم صنف من الوضاعين .

كما وضع بعضهم حين سمع الإمام أحمد يذكر عن بعض التابعين مما نسبه لعيسى - عليه السلام - : " من عمل بما يعلم أورثه الله علم ما لم يعلم " فتوهمه - كما ذكره أبو نعيم في ترجمة أحمد بن أبي الحواري من ( الحلية ) - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فوضع له عن الإمام أحمد سندا ، وهو عن يزيد بن هارون عن حميد عن أنس لسهولته وقربه ، وجلالة الإمام تنبو عن هذا .

وأما ابن حبان فسماه مدرجا ; حيث قال : إن ثابتا قاله عقب حديث : " يعقد الشيطان " ، فأدرجه في الخبر ، فعلى هذا فهو من أقسام المدرج ، كما أشرت إليه هناك ; إذ لم يشترطوا في إطلاق الإدراج كونه عمدا ، بل يطلقونه على ما هو أعم من ذلك .

التالي السابق


الخدمات العلمية