فتح المغيث بشرح ألفية الحديث للعراقي

السخاوي - شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي

صفحة جزء
[ امتحان الإمام البخاري ] : ( نحو امتحانهم ) أي : المحدثين ببغداد ( إمام الفن ) وشيخ الصنعة البخاري ، صاحب الصحيح ، ( في مائة ) من الحديث ( لما أتى ) إليهم ( بغدادا ) بالمهملة آخره على إحدى اللغات ; حيث اجتمعوا على تقليب متونها وأسانيدها ، وصيروا متن هذا السند لسند آخر ، وسند هذا المتن لمتن آخر ، وانتخبوا عشرة من الرجال ، فدفعوا لكل منهم منها عشرة ، وتواعدوا كلهم على الحضور لمجلس البخاري ، ثم يلقي عليه كل واحد من العشرة أحاديثه بحضرتهم .

فلما حضروا واطمأن المجلس بأهله البغداديين ، ومن انضم إليهم من الغرباء من أهل خراسان وغيرهم ، تقدم إليه واحد من العشرة ، وسأله عن أحاديثه واحدا واحدا ، والبخاري يقول له في كل منها : لا أعرفه .

وفعل الثاني كذلك إلى أن استوفى العشرة المائة ، وهو لا يزيد في كل منها على قوله : لا أعرفه ، فكان الفهماء ممن حضر يلتفت بعضهم إلى بعض ، ويقولون : فهم الرجل ، ومن كان منهم غير ذلك يقضي عليه بالعجز والتقصير وقلة الفهم ; لكونه عنده لمقتضى عدم تمييزه لم يعرف واحدا من مائة .

ولما فهم البخاري من قرينة الحال [ ص: 338 ] انتهاءهم من مسألتهم ، التفت للسائل الأول ، وقال له : سألت عن حديث كذا وصوابه كذا ، إلى آخر أحاديثه ، وهكذا الباقي ( فردها ) أي : المائة إلى حكمها المعتبر قبل القلب ( وجود الإسنادا ) ولم يرج عليه موضع واحد مما قلبوه وركبوه ، فأقر له الناس بالحفظ ، وعظم عندهم جدا ، وعرفوا منزلته في هذا الشأن وأذعنوا له .

رويناها في مشايخ البخاري لأبي أحمد بن عدي ، قال : سمعت عدة مشايخ يحكون ، وذكرها .

ومن طريق ابن عدي رواها الخطيب في تأريخه وغيره ، ولا يضر جهالة شيوخ ابن عدي فيها ; فإنهم عدد ينجبر به جهالتهم ، ثم إنه لا يتعجب من حفظ البخاري لها ، وتيقظه لتميز صوابها من خطئها ; لأنه في الحفظ بمكان ، وإنما يتعجب من حفظه لتواليها ; كما ألقيت عليه من مرة واحدة .

وقد قال العجلي : ما خلق الله أحدا كان أعرف بالحديث من ابن معين ، لقد كان يؤتى بالأحاديث قد خلطت وقلبت ، فيقول : هذا كذا ، وهذا كذا ، فيكون كما قال .

في ترجمة العقيلي من ( الصلة ) لمسلمة بن قاسم أنه كان لا يخرج أصله لمن يجيئه من أصحاب الحديث ، بل يقول له : اقرأ في كتابك فأنكرنا - أهل الحديث - ذلك فيما بيننا عليه ، وقلنا : إما أن يكون من أحفظ الناس أو من أكذبهم .

ثم عمدنا إلى كتابة أحاديث من روايته بعد أن بدلنا منها ألفاظا ، وزدنا فيها ألفاظا ، وتركنا منها أحاديث صحيحة ، وأتيناه بها والتمسنا منه سماعها ، فقال لي : اقرأ فقرأتها عليه ، فلما انتهيت إلى الزيادة والنقصان ، فطن وأخذ في الكتاب فألحق [ ص: 339 ] فيه بخطه النقص ، وضرب على الزيادة وصححها كما كانت ، ثم قرأها علينا فانصرفنا وقد طابت أنفسنا ، وعلمنا أنه من أحفظ الناس .

وقال حماد بن سلمة : كنت أسمع أن القصاص لا يحفظون الحديث ، فكنت أقلب على ثابت الحديث ، أجعل أنسا لابن أبي ليلى ، وابن أبي ليلى لأنس أشوشها عليه ، فيجيء بها على الاستواء .

وحكى العماد بن كثير ، قال : أتى صاحبنا ابن عبد الهادي على المزي ، فقال له : انتخبت من روايتك أربعين حديثا أريد قراءتها عليك ، فقرأ الحديث الأول ، وكان الشيخ متكئا فجلس ، فلما أتى على الثاني تبسم ، وقال : ما هو أنا ، ذاك البخاري .

قال ابن كثير : فكان قوله هذا عندنا أحسن من رده كل متن إلى سنده .

وقال هبة الله بن المبارك الدواني : اجتمعت بالأمير أبي نصر بن ماكولا ، فقال لي : خذ جزأين من الحديث واجعل متن الحديث الذي في هذا الجزء على إسناد الذي في هذا الجزء من أوله إلى آخره ، حتى أرده إلى حالته الأولى من أوله إلى آخره .

وربما يقصد بقلب السند كله الإغراب أيضا ; إذ لا انحصار له في الراوي الواحد ، كما أنه قد يقصد الامتحان بقلب راو واحد .

التالي السابق


الخدمات العلمية