فتح المغيث بشرح ألفية الحديث للعراقي

السخاوي - شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي

صفحة جزء
تنبيهات .


249 - وإن تجد متنا ضعيف السند فقل : ضعيف أي بهذا فاقصد      250 - ولا تضعف مطلقا بناء
على الطريق إذ لعل جاء      251 - بسند مجود بل يقف
ذاك على حكم إمام يصف      252 - بيان ضعفه فإن أطلقه
فالشيخ فيما بعده حققه      253 - وإن ترد نقلا لواه أو لما
يشك فيه لا بإسنادهما      254 - فأت بتمريض كيروى
واجزم بنقل ما صح كقال فاعلم      255 - وسهلوا في غير موضوع رووا
من غير تبيين لضعف ورأوا      256 - بيانه في الحكم والعقائد
عن ابن مهدي وغير واحد

.

تنبيهات : ثلاثة ، إرداف أنواع الضعيف بها مناسب ، كما أردف الصحيح والحسن بما يناسبهما ، لكن كان جمع أوليهما بمكان واحد ; لكونهما كالمسألة الواحدة أنسب .

أحدها : ( وإن تجد متنا ) أي : حديثا ( ضعيف السند فقل ) فيه : هو ( ضعيف أي : بهذا ) السند بخصوصه ( فاقصد ) أي : انو ذاك ، فإن صرحت به فأولى ( ولا تضعف ) ذلك المتن ( مطلقا بناء ) بالمد ( على ) ضعف ذاك ( الطريق إذ لعلـ ) ـه ( جاء ) بالمد أيضا ( بسند ) آخر ( مجود ) يثبت المتن بمثله أو بمجموعهما .

( بل [ ص: 348 ] يقف ) جواز ( ذاك ) أي : الإطلاق ( على حكم إمام ) من أئمة الحديث ، صحيح الاطلاع ، معتبر الاستقراء والتتبع ( يصف بيان ) وجه ( ضعفه ) أي : الحديث بأنه ليس له إسناد يثبت هذا المتن بمثله ، أو بأنه ضعيف بشذوذ أو نكارة أو نحوهما .

( فإن أطلقه ) أي : أطلق ذاك الإمام الضعيف ( فالشيخ ) ابن الصلاح ( فيما بعده ) بيسير ، ذيل مسألة كون الجرح لا يقبل إلا مفسرا قد ( حققه ) .

ثم إن ما ذهب إليه من المنع إما أن يكون بالنسبة لمن لم يفحص عن الطرق ويبحث عنها ، أو مطلقا كما اختاره شيخنا ، حيث قال : والظاهر أنه مشى على أصله في تعذر استقلال المتأخرين بالحكم على الحديث بما يليق به ، والحق خلافه كما تقرر في موضعه ، فإذا بلغ الحافظ المتأهل الجهد ، وبذل الوسع في التفتيش على ذلك المتن من مظانه ، فلم يجده إلا من تلك الطريق الضعيفة - ساغ له الحكم بالضعف بناء على غلبة ظنه ، وكذا إذا وجد جزم إمام من أئمة الحديث بأن راويه الفلاني تفرد به ، وعرف المتأخر أن ذاك المتفرد قد ضعف بقادح أيضا .

ووراء هذا أنه على كل حال يكفي في المناظرة تضعيف الطريق التي أبداها المناظر وينقطع ; إذ الأصل عدم ما سواها حتى يثبت بطريق أخرى ، قاله ابن كثير .

ثانيها : ( وإن ترد نقلا لـ ) حديث ( واه ) يعني ضعيفا ، قل الضعف أو كثر ، ما لم يبلغ الوضع ( أو لما يشك ) من أهل الحديث ( فيه ) أصحيح أو ضعيف ، إما بالنظر إلى اختلافهم في راويه أو غير ذلك ، ( لا بـ ) إبراز ( إسنادهما ) أي : المشكوك فيه والمجزوم به ، بل بمجرد إضافتهما إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أو إلى الصحابي ، أو من دونه ; [ ص: 349 ] بحيث يشمل المعلق .

( فأت بتمريض كيروى ) ويذكر وبلغنا وروى بعضهم ، ونحوها من صيغ التمريض التي اكتفي بها عن التصريح بالضعف ، ولا تجزم بنقله خوفا من الوعيد ، واحتياطا ، فإن سقت إسنادهما فيؤخذ حكمه مما بعده ( واجزم ) فيما تورده لا بسند ( بنقل ما صح ) بالصيغ المعروفة بالجزم .

( كقال ) ونحوها ( فاعلم ) ذلك ولا تنقله بصيغة التمريض ، وإن فعله بعض الفقهاء ، واستحضر ما أسلفته لك من كلام النووي وغيره مما يتعلق بهذه المسألة عند التعليق .

ثالثها : ( وسهلوا في غير موضوع رووا ) حيث اقتصروا على سياق إسناده ( من غير تبيين لضعف ) ، لكن فيما يكون في الترغيب والترهيب من المواعظ ، والقصص ، وفضائل الأعمال ، ونحو ذلك خاصة ( ورأوا بيانه ) وعدم التساهل في ذلك ، ولو ساقوا إسناده ( في ) أحاديث ( الحكم ) الشرعي من الحلال والحرام وغيرهما .

( و ) كذا في العقائد كصفات الله تعالى ، وما يجوز له ، ويستحيل عليه ، ونحو ذلك ، ولذا كان ابن خزيمة وغيره من أهل الديانة إذا روى حديثا ضعيفا قال : حدثنا فلان مع البراءة من عهدته ، وربما قال هو والبيهقي : إن صح الخبر .

وهذا التساهل والتشديد منقول ( عن ابن مهدي ) عبد الرحمن ( وغير واحد ) من الأئمة ; كأحمد بن حنبل ، وابن معين ، وابن المبارك ، والسفيانين ; بحيث عقد أبو أحمد بن عدي في مقدمة ( كامله ) ، والخطيب في كفايته لذلك بابا .

وقال ابن عبد البر : " أحاديث الفضائل لا يحتاج فيها إلى من يحتج به " .

وقال الحاكم : سمعت أبا زكريا العنبري يقول : " الخبر إذا ورد لم يحرم حلالا ، ولم يحل حراما ، ولم يوجب حكما ، وكان في ترغيب أو ترهيب أغمض عنه ، وتسهل [ ص: 350 ] في رواته .

ولفظ ابن مهدي فيما أخرجه البيهقي في المدخل : ( إذا روينا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحلال والحرام والأحكام ، شددنا في الأسانيد وانتقدنا في الرجال ، وإذا روينا في الفضائل والثواب والعقاب ، سهلنا في الأسانيد وتسامحنا في الرجال ) .

ولفظ أحمد في رواية الميموني عنه : ( الأحاديث الرقائق يحتمل أن يتساهل فيها حتى يجيء شيء فيه حكم ) .

وقال في رواية عباس الدوري عنه : ( ابن إسحاق رجل تكتب عنه هذه الأحاديث - يعني : المغازي - ونحوها ، وإذا جاء الحلال والحرام أردنا قوما هكذا ، وقبض أصابع يديه الأربع ) .

لكنه احتج رحمه الله بالضعيف حيث لم يكن في الباب غيره ، وتبعه أبو داود وقدماه على الرأي والقياس ، ويقال عن أبي حنيفة أيضا ذلك ، وأن الشافعي يحتج بالمرسل إذا لم يجد غيره كما سلف كل ذلك في أواخر الحسن .

وكذا إذا تلقت الأمة الضعيف بالقبول يعمل به على الصحيح ، حتى إنه ينزل منزلة المتواتر في أنه ينسخ المقطوع به ; ولهذا قال الشافعي - رحمه الله - في حديث : لا وصية لوارث : إنه لا يثبته أهل الحديث ، ولكن العامة تلقته بالقبول ، وعملوا به حتى جعلوه ناسخا لآية الوصية له .

[ ص: 351 ] أو كان في موضع احتياط كما إذا ورد حديث ضعيف بكراهة بعض البيوع أو الأنكحة ، فإن المستحب - كما قال النووي - أن يتنزه عنه ، ولكن لا يجب ، ومنع ابن العربي المالكي العمل بالضعيف مطلقا .

ولكن قد حكى النووي في عدة من تصانيفه إجماع أهل الحديث وغيرهم على العمل به في الفضائل ونحوها خاصة .

فهذه ثلاثة مذاهب أفاد شيخنا أن محل الأخير منها حيث لم يكن الضعف شديدا ، وكان مندرجا تحت أصل عام ; حيث لم يقم على المنع منه دليل أخص من ذلك العموم ، ولم يعتقد عند العمل به ثبوته ، كما بسطتها في موضع آخر .

التالي السابق


الخدمات العلمية