فتح المغيث بشرح ألفية الحديث للعراقي

السخاوي - شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي

صفحة جزء
[ سبب الجرح والتعديل ] والرابع : في بيان سبب الجرح والتعديل ، وكان إردافه الثاني كما تقدم أنسب ( وصححوا ) أي : الجمهور من المحدثين وغيرهم كما هو المشهور .

( قبول تعديل بلا ذكر لأسباب له ) خشية ( أن تثقلا ) لأنها كثيرة ، ومتى كلف المعدل لسرد جميعها احتاج أن يقول : يفعل كذا وكذا عادا ما يجب عليه فعله ، وليس يفعل كذا وكذا ، عادا ما يجب عليه تركه ، وفيه طول . ( ولم يروا ) أي : الجمهور أيضا .

( قبول جرح أبهما ) ذكر سببه من المجرح ; لزوال الخشية المشار إليها ; فإن الجرح يحصل بأمر واحد ، و ( للخلف ) بين الناس ( في أسبابه ) وموجبه .

( ربما استفسر الجرح ) ببيان سببه من الجارح ( ف ) يذكر ما ( لم يقدح ) مع إطلاقه الجرح به ; لتمسكه بما يعتقد أنه يقتضيه ، أو لشدة تعنته ، وليس كذلك عند غيره .

( كما فسره شعبة ) بن الحجاج مرة ( بالركض ) ، وهو استحثاث الدابة بالرجل لتعدو ، حيث قيل له : لم تركت حديث فلان ؟ قال : رأيته يركض على برذون ، بكسر الموحدة وذال معجمة ، الجافي الخلقة ، الجلد على السير في الشعاب ، والوعر من الخيل غير العربية ، وأكثر ما يجلب من الروم ، وحينئذ ( فما ) ذا يلزم من ركضه ، اللهم إلا أن يكون في موضع ، أو على وجه لا يليق ، ولا ضرورة تدعو لذلك ، لا سيما وقد ورد عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم مرفوعا : سرعة المشي [ ص: 24 ] تذهب بهاء المؤمن .

ونحوه ما روي عن شعبة أيضا أنه جاء إلى المنهال بن عمرو ، فسمع من داره صوتا فتركه ، قال ابن أبي حاتم : إنه سمع قراءة بالتطريب . ونحوه قول أبيه أبي حاتم كما قاله الشارح : إنه سمع قراءة ألحان ، فكره السماع منه .

وقول وهب بن جرير عن شعبة : أتيت منزل المنهال ، فسمعت منه صوت الطنبور ، فرجعت ولم أسأله . قال وهب : فقلت له : فهلا سألته ، عسى كان لا يعلم ؟ قال شيخنا : وهذا اعتراض صحيح ; فإن هذا لا يوجب قدحا في المنهال ، بل ولا يجرح الثقة بمثل قول المغيرة في المنهال : إنه كان حسن الصوت له لحن يقال له : وزن سبعة .

ولذا قال ابن القطان عقب كلام ابن أبي حاتم ما نصه : هذا ليس بجرحه إلى أن يتجاوز إلى حد يحرم ، ولم يصح ذاك عنه - انتهى .

وجرحه بهذا تعسف ظاهر ، وقد وثقه ابن معين والعجلي وغيرهما ; كالنسائي [ ص: 25 ] وابن حبان ، وقال الدارقطني : إنه صدوق .

واحتج به البخاري في صحيحه ، بل وعلقه من رواية شعبة نفسه عنه ، فقال في باب ما يكره من المثلة من الذبائح : تابعه سليمان عن شعبة عن المنهال ، يعني ابن عمرو ، عن سعيد ، هو ابن جبير ، عن ابن عمر قال : لعن النبي صلى الله عليه وسلم من مثل بالحيوان . ووصله البيهقي .

وفيه دليل على أن شعبة لم يترك الرواية عنه ، وذلك إما بما لعله سمعه منه قبل ذلك ، أو لزوال المانع منه عنده .

وقد حكى ابن أبي حاتم عن أبيه أن السماع يكره ممن يقرأ بالألحان ، ونص الإمام مالك في المدونة على أن القراءة بالألحان الموضوعة والترجيع ترد به الشهادة .

والحق في هذه المسألة أنه إن خرج بالتلحين لفظ القرآن عن صيغته بإدخال حركات فيه أو إخراج حركات منه ، أو قصر ممدود أو مد مقصور ، أو تمطيط يخفى به اللفظ ويلبس به المعنى ، فالقارئ فاسق ، والمستمع آثم ، وإن لم يخرجه اللحن عن لفظه وقراءته على ترتيله ، فلا كراهة ; لأنه زاد بألحانه في [ ص: 26 ] تحسينه .

وكذا استفسر غير شعبة ، فذكر ما الجرح به غير متفق عليه ، فقال شعبة : قلت للحكم بن عتيبة : لم لم تحمل عن زاذان ؟ قال : كان كثير الكلام .

ولعله استند إلى ما يروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : من كثر كلامه كثر سقطه ، ومن كثر سقطه كثرت ذنوبه ، ومن كثرت ذنوبه فالنار أولى به ، وكذا لما ورد في ذم من تكلم فيما لا يعنيه .

وممن تكلم في زاذان الحاكم أبو أحمد ، فقال : إنه ليس بالمتين عندهم . وقال ابن حبان : كان يخطئ كثيرا ، لكن قد وثقه غير واحد ، وأخرج له مسلم .

[ ص: 27 ] وقال جرير بن عبد الحميد : أتيت سماك بن حرب ، فرأيته يبول قائما ، فلم أسأله عن حرف . قلت : قد خرف ، ولعله كان بحيث يرى الناس عورته .

وقد عقد الخطيب في الكفاية لهذا بابا ، ومما ذكر فيه مما تبعه ابن الصلاح في إيراده : أن مسلم بن إبراهيم سئل عن حديث لصالح المري ، فقال : ما تصنع بصالح ؟ ذكروه يوما عند حماد بن سلمة ، فامتخط حماد .

وإدخال مثل هذا في هذا الباب غير جيد ، فصالح ضعيف عندهم ، ولذا حذفه المصنف ، بل قد بان في جميع ما ذكر عدم تحتم الجرح به . ( هذا ) أي : القول بالتفصيل ، هو ( الذي عليه ) الأئمة ( حفاظ الأثر ) أي : الحديث ونقاده .

كالبخاري ومسلم ( شيخي الصحيح ) اللذين كانا أول من صنف فيه ، وغيرهما من الحفاظ ( مع أهل النظر ) كالشافعي ، فقد نص عليه ، وقال ابن الصلاح : إنه ظاهر مقرر في الفقه وأصوله ، وقال الخطيب : إنه الصواب عندنا .

والقول الثاني عكسه ، فيشترط تفسير التعديل دون الجرح ; لأن أسباب العدالة يكثر التصنع فيها ، فيتسارع الناس إلى الثناء على الظاهر ، [ ف ] هذا الإمام مالك مع شدة نقله وتحريه قيل له في الرواية عن عبد الكريم بن أبي المخارق ، فقال : [ ص: 28 ] غرني بكثرة جلوسه في المسجد ، يعني لما ورد من كونه بيت كل تقي .

ونحوه قول أحمد بن يونس لمن قال له : عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب العمري ضعيف : إنما يضعفه رافضي مبغض لآبائه ، لو رأيت لحيته وخضابه وهيئته لعرفت أنه ثقة . فاستدل لثقته بما ليس بحجة ; لأن حسن الهيئة يشترك فيه العدل وغيره ، وهو ظاهر ، وإن أمكن أن يقال : لعله أراد أن توسمه يقضي بعدالته فضلا عن دينه ومروءته وضبطه ، لكن يندفع هذا في العمري بخصوصه بأن الجمهور على ضعفه ، وكثيرا ما يوجد مدح المرء بأنك إذا رأيت سمته علمت أنه يخشى الله .

[ والثالث : أنه لابد من سببهما معا للمعنيين السابقين ، فكما يجرح الجارح بما لا يقدح ، كذلك يوثق المعدل بما لا يقتضي العدالة كما بينا ] .

والرابع عكسه ، إذا صدر الجرح أو التعديل من عالم بصير به كما سيأتي قريبا مع الخدش في كونه قولا مستقلا ( فإن يقل ) على القول الأول : قد ( قل ) فيما يحكى عن الأئمة في الكتب المعول عليها في الرجال ( بيان ) سبب جرح ( من جرح ) ، بل اقتصروا فيها غالبا على مجرد الحكم بأن فلانا ضعيف ، أو ليس بشيء ، أو نحو ذلك .

[ ص: 29 ] ( وكذا ) قل بيانهم لسبب ضعف الحديث ( إذا قالوا ) في كتب المتون ونحوها ( لمتن ) : إنه لم يصح ، بل اقتصروا أيضا غالبا على مجرد الحكم بضعف هذا الحديث ، أو عدم ثبوته ، أو نحو ذلك ( وأبهموا ) بيان السبب في الموضعين ، واشتراط البيان يفضي إلى تعطيل ذلك ، وسد باب الجرح في الأغلب الأكثر .

( فالشيخ ) ابن الصلاح ( قد أجابا ) عن هذا السؤال ب ( أن يجب الوقف ) من الواقف عليه ، كذلك عن الاحتجاج بالراوي أو بالحديث ( إذ استرابا ) أي : لأجل حصول الريبة القوية بذلك ، ويستمر واقفا ( حتى يبين ) بضم أوله ، من أبان ; أي : يظهر ( بحثه ) وفحصه عن حال ذاك الراوي أو الحديث ( قبوله ) مطلقا ، أو في بعض حديثه . والثقة بعدالته وعدم تأثير ما وقف عليه فيه من الجرح المجرد ( كمن ) أي : كالذي من الرواة ( أولو ) أي : أصحاب ( الصحيح ) : البخاري ومسلم وغيرهما ( خرجوا ) فيه ( له ) مع كونه ممن مس من غيرهم بجرح مبهم ، وقال : فافهم ذلك ; فإنه مخلص حسن .

( ففي البخاري احتجاجا عكرمه ) أي : فعكرمة التابعي مولى ابن عباس مخرج له في صحيح البخاري على وجه الاحتجاج به ، فضلا عن المتابعات ونحوها ، مع ما فيه من الكلام ; لكونه له عنه أتم مخلص ، حتى إن جماعة صنفوا في الذب عن عكرمة ; كأبي جعفر بن جرير الطبري ، ومحمد بن نصر المروزي ، وأبي عبد الله بن منده ، وابن حبان ، وابن عبد البر .

وحقق ذلك شيخنا في مقدمته بما لا نطيل به ( مع ابن مرزوق ) عمرو الباهلي البصري ، لكن متابعة لا احتجاجا ( وغير ترجمه ) أي : راو على وجه الاحتجاج ، وغيره ممن سبق من غيره التضعيف لهم يعرف تعيينهم ، والمخرج لهم منهم في [ ص: 30 ] الأصول ممن في المتابعات ، مع الحجة في التخريج لهم ، من المقدمة أيضا .

وكذا ( احتج مسلم بمن قد ضعفا ) من غيره ( نحو سويد ) هو ابن سعيد ، وجماعة غيره ( إذ بجرح ) مطلق ( ما اكتفى ) كل من البخاري ومسلم لتحقيقهما نفيه ، بل أكثر من فسر الجرح في سويد ذكر أنه لما عمي ربما تلقن الشيء ، وهذا وإن كان قادحا فإنما يقدح فيما حدث به بعد العمى ، لا فيما قبله . والظاهر أن مسلما عرف أن ما خرجه عنه من صحيح حديثه ، أو مما لم ينفرد به طلبا للعلو .

قال إبراهيم بن أبي طالب : قلت لمسلم : كيف استجزت الرواية عن سويد في الصحيح ؟ فقال : ومن أين كنت آتي بنسخة حفص بن ميسرة ، وذلك أن مسلما لم يرو في صحيحه عن أحد ممن سمع حفصا سواه ، وروى فيه عن واحد عن ابن وهب عن حفص . ( قلت وقد قال ) في أصل المسألة إمام الحرمين ( أبو المعالي ) الجويني في كتابه ( البرهان ) ( واختاره تلميذه ) حجة الإسلام أبو حامد ( الغزالي و ) كذا الإمام فخر الدين ( ابن الخطيب ) الرازي ( الحق أن يحكم ) مسكن الميم ; أي : يقضى ( بما أطلقه العالم ) مسكن الميم أيضا ، البصير ( بأسبابهما ) أي : الجرح والتعديل ، من غير بيان لسبب واحد منهما ، واختاره القاضي أبو بكر الباقلاني ونقله عن الجمهور ، فقال : قال الجمهور من أهل العلم : " إذا جرح من لا يعرف الجرح يجب الكشف عن ذلك ، ولم يوجبوا ذلك على أهل العلم بهذا الشأن " .

قال : " والذي يقوي عندنا ترك الكشف عن ذلك إذا كان الجارح عالما ، كما لا [ ص: 31 ] يجب استفسار المعدل عما به صار عنده المزكى عدلا " .

وممن حكاه عن القاضي أبي بكر الغزالي في المستصفى ، لكنه حكى عنه أيضا في المنخول خلافه ، وما ذكره عنه في المستصفى هو الذي حكاه صاحب ( المحصول ) ، والآمدي ، وهو المعروف عن القاضي ، كما رواه الخطيب عنه في الكفاية بإسناده الصحيح ، واختاره الخطيب أيضا ، وذلك أنه بعد تقرير القول الأول الذي صوبه قال : " على أنا نقول أيضا : إن كان الذي يرجع إليه في الجرح عدلا مرضيا في اعتقاده وأفعاله ، عارفا بصفة العدالة والجرح وأسبابهما ، عالما باختلاف الفقهاء في أحكام ذلك ، قبل قوله فيمن جرحه مجملا ، ولا يسأل عن سببه " ، انتهى .

[ وقريب منه اعتماد قول الفقيه الموافق بتنجيس الماء دون مقبول الرواية غير الفقيه ; فإنه لابد من ذكره السبب ] .

وبالجملة فهذا خلاف ما اختاره ابن الصلاح في كون الجرح المبهم لا يقبل ، وهو عين القول الرابع المشار إليه أولا ، ولكن قد قال ابن جماعة : " إنه ليس بقول مستقل ، بل هو تحقيق لمحل النزاع ، وتحرير له ; إذ من لا يكون عالما بالأسباب لا يقبل منه جرح ولا تعديل لا بإطلاق ولا بتقييد ، فالحكم بالشيء فرع عن العلم التصوري به " . وسبقه لنحوه التاج السبكي ، قال : إنه لا تعديل وجرح إلا من العالم .

[ ص: 32 ] وكذا قيد في ترجمة أحمد بن صالح القول باستفسار المجرح بما إذا كان الجرح في حق من ثبتت عدالته . وسبقه البيهقي فترجم : " باب : لا يقبل الجرح فيمن ثبتت عدالته إلا بأن نقف على ما يجرح به " .

وكذا قال ابن عبد البر : " من صحت عدالته ، وثبتت في العلم إمامته ، وبانت همته فيه وعنايته ، لم يلتفت فيه إلى قول أحد ، إلا أن يأتي الجارح في جرحه ببينة عادلة يصح بها جرحه على طريق الشهادات والعمل بما فيها من المشاهدة لذلك بما يوجب قبوله " ، انتهى .

وليس المراد إقامة بينة على جرحه ، بل المعنى أنه يستند في جرحه لما يستند إليه الشاهد في شهادته ، وهو المشاهدة ونحوها .

وأوضح منه في المراد ما سبقه به محمد بن نصر المروزي ; فإنه قال : " وكل رجل ثبتت عدالته لم يقبل فيه تجريح أحد حتى يبين ذلك بأمر لا يحتمل أن يكون غير جرحه " .

ولذا كله كان المختار عند شيخنا أنه إن خلا المجروح عن تعديل قبل الجرح فيه مجملا ، غير مبين السبب إذا صدر من عارف ، قال : " لأنه إذا لم يكن فيه تعديل فهو في حيز المجهول ، وإعمال قول المجرح أولى من إهماله " ، قال : " ومال ابن الصلاح في مثل هذا إلى التوقف " انتهى .

[ ص: 33 ] وقيد بعض المتأخرين قبول الجرح المفسر فيمن عدل أيضا ، بما إذا لم تكن هناك قرينة يشهد العقل بأن مثلها يحمل على الوقيعة من تعصب مذهبي ، أو منافسة دنيوية ، وهو كذلك كما سيأتي إن شاء الله مع مزيد في معرفة الثقات والضعفاء .

التالي السابق


الخدمات العلمية