فتح المغيث بشرح ألفية الحديث للعراقي

السخاوي - شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي

صفحة جزء

279 - وقدموا الجرح وقيل إن ظهر من عدل الأكثر فهو المعتبر



[ تعارض الجرح والتعديل ] الخامس : في تعارض الجرح والتعديل في راو واحد ( وقدموا ) أي : جمهور العلماء أيضا ( الجرح ) على التعديل مطلقا ، استوى الطرفان في العدد أم لا .

قال ابن الصلاح : إنه الصحيح ، وكذا صححه الأصوليون كالفخر والآمدي ، بل حكى الخطيب اتفاق أهل العلم عليه إذا استوى العددان ، وصنيع ابن الصلاح مشعر بذلك .

وعليه يحمل قول ابن عساكر : " أجمع أهل العلم على تقديم قول من جرح راويا على قول من عدله ، واقتضت حكاية الاتفاق في التساوي كون ذلك أولى فيما إذا زاد عدد الجارحين " .

قال الخطيب : " والعلة في ذلك أن الجارح يخبر عن أمر باطني قد علمه ، ويصدق المعدل ويقول له : قد علمت من حاله الظاهر ما علمته ، وتفردت بعلم لم تعلمه من اختبار أمره " ، يعني : فمعه زيادة علم .

قال : " وإخبار المعدل عن [ ص: 34 ] العدالة الظاهرة لا ينفي صدق قول الجارح فيما أخبر به ، فوجب لذلك أنه يكون الجرح أولى من التعديل " ، وغاية قول المعدل كما قال العضد : " إنه لم يعلم فسقا ولم يظنه فظن عدالته ; إذ العلم بالعدم لا يتصور ، والجارح يقول : أنا علمت فسقه ، فلو حكمنا بعدم فسقه كان الجارح كاذبا ، ولو حكمنا بفسقه كانا صادقين فيما أخبرا به ، والجمع أولى ما أمكن ; لأن تكذيب العدل خلاف الظاهر " انتهى .

وإلى ذلك أشار الخطيب بما حاصله : أن العمل بقول الجارح غير متضمن لتهمة المزكي بخلاف مقابله .

قال : ولأجل هذا وجب إذا شهد شاهدان على رجل بحق ، وشهد له آخران أنه قد خرج منه ، أن يكون العمل بشهادة من شهد بالقضاء أولى ; لأن شاهدي القضاء يصدقان الآخرين ، ويقولان : علمنا خروجه من الحق الذي كان عليه ، وأنتما لم تعلما ذلك ، ولو قال شاهدا ثبوت الحق : نشهد أنه لم يخرج من الحق ، لكانت شهادة باطلة .

لكن ينبغي تقييد الحكم بتقديم الجرح بما إذا فسر ، وما تقدم قريبا يساعده ، وعليه يحمل قول من قدم التعديل ; كالقاضي أبي الطيب الطبري [ ص: 35 ] وغيره ، أما إذا تعارضا من غير تفسير فالتعديل كما قاله المزي وغيره .

وقال ابن دقيق العيد : " إن الأقوى حينئذ أن يطلب الترجيح ; لأن كلا منهما ينفي قول الآخر " ، وتعليله يخدش فيه بما تقدم . وكذا قيده الفقهاء بما إذا أطلق التعديل ، أما إذا قال المعدل : عرفت السبب الذي ذكره الجارح ، لكنه تاب منه وحسنت توبته ; فإنه يقدم المعدل ما لم يكن في الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم ، كما سيأتي في محله .

وكذا لو نفاه بطريق معتبر ، كأن يقول المعدل عند التجريح بقتله لفلان في يوم كذا : إن فلانا المشار إليه قد رأيته بعد هذا اليوم وهو حي ; فإنه حينئذ يقع التعارض ; لعدم إمكان الجمع ، ويصار إلى الترجيح ، ولذا قال ابن الحاجب : ( أما عند إثبات معين ونفيه باليقين فالترجيح ) .

( وقيل : إن ظهر من عدل الأكثر ) بالنصب حالا باعتقاد تنكيره ، يعني : إن كان المعدلون أكثر عددا ( فهو ) أي : التعديل ( المعتبر ) .

حكاه الخطيب عن طائفة ، وصاحب ( المحصول ) لأن الكثرة تقوي الظن ، والعمل بأقوى الظنين واجب كما في تعارض الحديثين .

قال الخطيب : " وهذا خطأ وبعد ممن توهمه ; لأن المعدلين وإن كثروا ليسوا يخبرون عن عدم ما أخبر به الجارحون ، ولو أخبروا بذلك وقالوا : نشهد أن هذا لم يقع منه ، لخرجوا بذلك عن أن يكونوا أهل تعديل أو جرح ; لأنها شهادة باطلة على نفي ما يصح ويجوز وقوعه ، وإن لم يعلموه فثبت ما ذكرناه " ، وإن تقديم [ ص: 36 ] الجرح إنما هو لتضمنه زيادة خفيت على المعدل ، وذلك موجود مع زيادة عدد المعدل ونقصه ومساواته ، فلو جرحه واحد وعدله مائة ، قدم الواحد لذلك .

وقيل : إنهما حينئذ يتعارضان فلا يرجح أحدهما إلا بمرجح ، حكاه ابن الحاجب ، ووجهه أن مع المعدل زيادة قوة بالكثرة ، ومع الجارح زيادة قوة بالاطلاع على الباطن ، وبالجمع الممكن ، [ وقيل : يقدم الأحفظ ] .

ثم إن كل ما تقدم فيما إذا صدرا من قائلين ، أما إذا كانا من قائل واحد كما يتفق لابن معين وغيره من أئمة النقد ، فهذا قد لا يكون تناقضا ، بل نسبيا في أحدهما ، أو ناشئا عن تغير اجتهاد ، وحينئذ فلا ينضبط بأمر كلي ، وإن قال بعض المتأخرين : إن الظاهر أن المعمول به المتأخر منهما إن علم ، وإلا وجب التوقف .

التالي السابق


الخدمات العلمية