صفحة جزء
[ ص: 102 ] قال أبو محمد : ثم نصير إلى أصحاب الرأي فنجدهم أيضا يختلفون ويقيسون ثم يدعون القياس ويستحسنون ويقولون بالشيء ويحكمون به ثم يرجعون .

أبو حنيفة :

حدثني سهل بن محمد قال : حدثنا الأصمعي عن حماد بن زيد قال : سمعت يحيى بن مخنف قال : جاء رجل من أهل المشرق إلى أبي حنيفة بكتاب منه بمكة عاما أول فعرضه عليه مما كان يسأل عنه فرجع عن ذلك كله [ ص: 103 ] فوضع الرجل التراب على رأسه ثم قال : يا معشر الناس أتيت هذا الرجل عاما أولا فأفتاني بهذا الكتاب ، فأهرقت به الدماء ، وأنكحت به الفروج ، ثم رجع عنه العام .

قال ابن قتيبة : فحدثني سهل بن محمد عن المختار بن عمرو أن الرجل قال له كيف هذا ؟ قال كان رأيا رأيته ، فرأيت العام غيره ، قال فتأمنني أن لا ترى من قابل شيئا آخر ؟ قال لا أدري ، كيف يكون ذلك ؟ فقال له الرجل : لكني أدري أن عليك لعنة الله .

قال ابن قتيبة : وكان الأوزاعي يقول : إنا لا ننقم على أبي حنيفة أنه رأى ، كلنا يرى ، ولكننا ننقم عليه أنه يجيئه الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيخالفه إلى غيره .

حدثني سهل بن محمد قال : حدثنا الأصمعي عن حماد بن زيد قال : شهدت أبا حنيفة سئل عن محرم لم يجد إزارا فلبس سراويل ، فقال : عليه الفدية . فقلت : سبحان الله ، حدثنا عمرو بن دينار عن جابر بن زيد عن ابن عباس قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في المحرم : [ ص: 104 ] إذا لم يجد إزارا لبس سراويل ، وإذا لم يجد نعلين لبس خفين فقال : دعنا من هذا ، حدثنا حماد عن إبراهيم أنه قال : عليه الكفارة .

قال ابن قتيبة : وروى أبو عاصم عن أبي عوانة قال : كنت عند أبي حنيفة ، فسئل عن رجل سرق وديا ، فقال : عليه القطع ، فقلت له : حدثنا يحيى بن سعيد عن محمد بن يحيى بن حبان عن رافع بن خديج قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا قطع في ثمر ولا كثر فقال : ما بلغني هذا . قلت له : فالرجل الذي أفتيته رده ، قال : دعه فقد جرت به البغال الشهب .

قال أبو عاصم : أخاف أن تكون إنما جرت بلحمه ودمه .

وقال علي بن عاصم : حدثت أبا حنيفة بحديث عبد الله في الذي [ ص: 105 ] قال : من يذبح للقوم شاة أزوجه أول بنت تولد لي ، ففعل ذلك الرجل ، فقضى ابن مسعود أنها امرأته وأن لها مهر نسائها ، فقال أبو حنيفة : هذا قضاء الشيطان .

قال ابن قتيبة : ولم أر أحدا ألهج بذكر أصحاب الرأي وتنقصهم والبحث على قبيح أقاويلهم والتنبيه عليها من إسحاق بن إبراهيم الحنظلي المعروف بابن راهويه . وكان يقول : نبذوا كتاب الله تعالى ، وسنن رسوله - صلى الله عليه وسلم - ولزموا القياس .

استدراكات ابن راهويه على أصحاب الرأي :

وكان يعدد من ذلك أشياء ، منها قولهم : إن الرجل إذا نام جالسا ، واستثقل في نومه ، لم يجب عليه الوضوء . ثم أجمعوا على أن كل من أغمي عليه منتقض الطهارة ، قال : وليس بينهما فرق . على أنه ليس في المغمى عليه أصل فيحتج به في انتقاض وضوئه ، وفي النوم غير حديث منها قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : العين وكاء السه ، فإذا نامت العين انفتح الوكاء [ ص: 106 ] وفي حديث آخر : من نام فليتوضأ . قال : فأوجبوا في الضجعة الوضوء إذا غلبه النوم وأسقطوه عن النائم المستثقل راكعا أو ساجدا . قال : وهاتان الحالان في خشية الحدث أقرب من الضجعة ، فلا هم اتبعوا أثرا ولا لزموا قياسا . قال وقالوا : من تقهقه بعد التشهد أجزأته صلاته وعليه الوضوء لصلاة أخرى . قال : فأي غلط أبين من غلط من يحتاط لصلاة لم تحضر ولا يحتاط لصلاة هو فيها . قال : وقالوا في رجل توفي وترك جده أبا أمه وبنت بنته : المال للجد دون بنت البنت وكذلك هو عندهم مع جميع ذوي الأرحام . قال فأي خطأ أفحش من هذا ؛ لأن الجد يدلي بالأم فكيف يفضل على بنت البنت وهي تدلي بالبنت إلا أن يكون شبهوا أبا الأم بأبي الأب إذ اتفق أسماؤهما .

قال أبو محمد : وحدثنا إسحاق الحنظلي وهو ابن راهويه قال : حدثنا وكيع أن أبا حنيفة قال : ما باله يرفع يديه عند كل رفع وخفض ؟ أيريد أن يطير ؟ فقال له عبد الله بن المبارك : إن كان يريد أن يطير إذا افتتح ، فإنه يريد أن يطير إذا خفض ورفع . [ ص: 107 ] قال هذا مع تحكمه في الدين كقوله : أقطع في الساج والقنا ولا أقطع في الخشب والحطب ، وأقطع في النورة ولا أقطع في الفخار والزجاج .

فكأن الفخار والزجاج ليسا مالا وكأن الآبنوس ليس خشبا .

وقال إسحاق بن راهويه : وسئل - يعني أبا حنيفة - عن الشرب في الإناء المفضض فقال : لا بأس به ، إنما هو بمنزلة الخاتم في إصبعك فتدخل يدك الماء فتشربه بها ، وكان يعدد من هذا أشياء يطول الكتاب بها ، وأعظم منها مخالفة كتاب الله كأنهم لم يقرءوه .

وكان أبو حنيفة لا يدي لولي المقتول عمدا إلا أن يعفو أو يقتص وليس له أن يأخذ الدية ، والله تبارك وتعالى يقول : كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة يريد : فمن عفا عن الدم فليتبع بالدية اتباعا بالمعروف ، أي : يطالب مطالبة جميلة ، لا يرهق المطلوب وليؤد المطالب المطلوب أداء بإحسان ، لا مطل فيه ولا دفاع عن الوقت .

ثم قال - جل وعز - ذلك تخفيف من ربكم ورحمة يعني تخفيفا عن المسلمين مما كان بنو إسرائيل ألزموه فإنه لم يكن لولي إلا أن يقتص أو يعفو .

[ ص: 108 ] ثم قال جل وعز : فمن اعتدى بعد ذلك أي بعد أخذ الدية ، فقتل فله عذاب أليم قالوا يقتل ولا تؤخذ منه الدية وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا أعافي أحدا قتل بعد أخذ الدية وهذا وأشباهه من مخالفة القرآن لا عذر فيه ، ولا عذر في مخالفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد العلم بقوله .

فأما الرأي في الفروع فأخف أمرا وإن كان مخارج أصول الأحكام ومخارج الفرائض والسنن على خلاف القياس وتقدير العقول .

قال ابن قتيبة : حدثني الزيادي قال حدثني عيسى بن يونس عن الأعمش عن أبي إسحاق عن عبد خير قال : قال علي بن أبي طالب : ما كنت أرى أن أعلى القدم أحق بالمسح من باطنها حتى رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح على أعلى قدميه .

وحدثني أبو حاتم عن الأصمعي قال : سمعت زفر بن هذيل يقول : [ ص: 109 ] في رجل أوصى لرجل بما بين العشرة إلى العشرين .

قال يعطي تسعة ، ليس له ذلك العقد ، ولا هذا العقد . كما تقول : " له ما بين الأسطوانتين " فله ما بينهما ، ليست له الأسطوانتان .

فقلنا له : فرجل معه ابن له محظوظ ، قيل له : كم لابنك ؟ قال ما بين الستين إلى اثنين وستين ، فهذا - في قياسكم - ابن سنة . قال استحسن في هذا الموضع .

قال أبو محمد : وحدثنا عن مالك ، في الموطأ ، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن ، قال : سألت سعيد بن المسيب : كم في إصبع المرأة ؟ قال : عشر من الإبل ، قلت : فكم في إصبعين ؟ قال : عشرون من الإبل ، قلت : فكم في ثلاث أصابع ؟ قال : ثلاثون من الإبل ، قلت : فكم في أربع أصابع ؟ قال : عشرون من الإبل ، قلت : حين عظم جرحها واشتدت مصيبتها نقص عقلها ؟ قال : هي السنة يا ابن أخي .

أشد أهل العراق في الرأي والقياس :

قال أبو محمد : وكان أشد أهل العراق في الرأي والقياس الشعبي وأسهلهم فيه مجاهدا .

[ ص: 110 ] حدثني أبو الخطاب قال حدثني مالك بن سعيد قال : نا الأعمش عن مجاهد ، أنه قال : أفضل العبادة الرأي الحسن .

وحدثني محمد بن خالد عن محمد بن خداش قال : حدثني مسلم بن قتيبة قال : نا مالك بن مغول قال : قال لي الشعبي - ونظر إلى أصحاب الرأي - ما حدثك هؤلاء عن أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - فاقبله ، وما خبروك به عن رأيهم فارم به في الحش .

وكان يقول : إياكم والقياس ، فإنكم إن أخذتم به حرمتم الحلال وأحللتم الحرام .

قال أبو محمد : حدثني الرياشي قال : نا الأصمعي ، عن عمر بن أبي زائدة قال : قيل للشعبي : إن هذا لا يجيء في القياس ، فقال : أير في القياس .

وحدثني الرياشي عن أبي يعقوب الخطابي عن عمه عن الزهري أنه قال : الحديث ذكر يحبه ذكور الرجال ويكرهه مؤنثوهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية