صفحة جزء
[ ص: 403 ] 45 - قالوا : حديث يكذبه النظر

قصص وأخبار قديمة

قالوا : رويتم أن عوجا اقتلع جبلا ، قدره فرسخ في فرسخ ، على قدر عسكر موسى ، فحمله على رأسه ليطبقه عليهم ، فصار طوقا في عنقه حتى مات ، وأنه كان يخوض البحر فلا يجاوز ركبتيه ، وكان يصيد الحيتان من لججه ويشويها في عين الشمس ، وأنه لما مات وقع على نيل مصر فجسر للناس سنة ، أي : صار جسرا لهم يعبرون عليه من جانب إلى جانب .

وأن طول موسى - عليه السلام - كان عشرة أذرع ، وطول عصاه عشرة أذرع ، ووثب من الأرض عشرا ليضربه فلم يبلغ عرقوبه .

قالوا : وهذا كذب بين لا يخفى على عاقل ولا على جاهل ، وكيف صار في زمن موسى - عليه السلام - من خالف أهل الزمان هذه المخالفة ؟ وكيف يجوز أن يكون من ولد آدم من يكون بينه وبين آدم هذا التفاوت ؟ وكيف يطيق آدمي حمل جبل على رأسه قدره فرسخ في فرسخ ؟

قال أبو محمد : ونحن نقول : إن هذا حديث لم يأت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا عن صحابته ، وإنما هو خبر من الأخبار القديمة التي يرويها أهل الكتب سمعه قوم منهم على قديم الأيام فتحدثوا به .

[ ص: 404 ] والحديث يدخله الشوب والفساد من وجوه ثلاثة .

. أمثلة من فساد الحديث :

منها : الزنادقة واجتيالهم للإسلام ، وتهجينه بدس الأحاديث المستشنعة والمستحيلة ، كالأحاديث التي قدمنا ذكرها من عرق الخيل ، وعيادة الملائكة ، وقفص الذهب على جمل أورق ، وزغب الصدر ، ونور الذراعين ، مع أشياء كثيرة ليست تخفى على أهل الحديث .

منهم ابن أبي العوجاء الزنديق ، وصالح بن عبد القدوس الدهري .

والوجه الثاني : القصاص على قديم الأيام ، فإنهم يميلون وجوه العوام إليهم ، ويستدرون ما عندهم بالمناكير والغريب والأكاذيب من الأحاديث .

ومن شأن العوام القعود عند القاص ما كان حديثه عجيبا خارجا عن فطر العقول ، أو كان رقيقا يحزن القلوب ويستغزر العيون .

فإذا ذكر الجنة قال : فيها الحوراء من مسك ، أو زعفران وعجيزتها ميل في ميل ، ويبوئ الله تعالى وليه قصرا من لؤلؤة بيضاء فيه سبعون ألف مقصورة ، في كل مقصورة سبعون ألف قبة ، في كل قبة سبعون ألف فراش ، على كل فراش سبعون ألف كذا ، فلا يزال في سبعين ألف كذا وسبعين ألفا ، كأنه يرى أنه لا يجوز أن يكون العدد فوق السبعين ولا دونها .

[ ص: 405 ] ويقول : لأصغر من في الجنة منزلة عند الله من يعطيه الله تعالى مثل الدنيا كذا وكذا ضعفا ، وكلما كان من هذا أكثر ، كان العجب أكثر ، والقعود عنده أطول والأيدي بالعطاء إليه أسرع .

كلام الله تعالى في كتابه عن الجنة :

والله - تبارك وتعالى - يخبرنا في كتابه بما في جنته بما فيه مقنع عن أخبار القصاص وسائر الخلق حين وصف الجنة بأن عرضها السماوات والأرض ، يريد سعتها ، والعرب تكني عن السعة بالعرض ؛ لأن الشيء إذا اتسع عرض ، وإذا دق واستطال ضاق ، وتقول : ضاقت علي الأرض العريضة ، أي : الواسعة . وفي الأرض العريضة مذهب ، أي : الواسعة .

وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للمنهزمين يوم أحد : لقد ذهبتم فيها عريضة ، أي : واسعة .

وقال الله تعالى : فذو دعاء عريض ، أي : كثير . فكيف يكون عرضها السماوات والأرض ويعطي الله تعالى أخس من فيها منزلة فيها مثل الدنيا أضعافا ، ويقول تعالى حين شوقنا إليها : وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين ، وقال حين ذكر المقربين يطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب وأباريق وكأس من معين لا يصدعون عنها ولا ينزفون وفاكهة مما يتخيرون ولحم طير مما يشتهون وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون جزاء بما كانوا يعملون لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما .

[ ص: 406 ] وقال تعالى في أصحاب اليمين : في سدر مخضود وطلح منضود وظل ممدود وماء مسكوب وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة ، وقال تعالى : يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير .

ومثل هذا كثير في القرآن العظيم ، ليس منه شيء إلا وهو شبيه بما يناله الناس في الدنيا ويتنعم به المترفون ، خلا ما فضل الله تعالى به ما في الجنة وخلا الخلود .

عودة إلى الأخبار الكاذبة :

ثم يذكر آدم - عليه السلام - ويصفه فيقول : كان رأسه يبلغ السحاب أو السماء ويحاكها فاعتراه لذلك الصلع ، ولما هبط إلى الأرض بكى على الجنة حتى بلغت دموعه البحر وجرت فيها السفن .

ويذكر داود - عليه السلام - فيقول : سجد لله تعالى أربعين ليلة وبكى حتى نبت العشب بدموع عينيه ، ثم زفر زفرة هاج له ذلك النبات .

ويذكر عصا موسى - عليه السلام - فيقول : كان نابها كنخلة سحوق ، وعينها كالبرق الخاطف ، وعرفها كذا ، والله تعالى يقول : كأنها جان والجان خفيف الحيات .

وذكرها في موضع آخر فقال : ثعبان مبين ، فإذا هي ثعبان .

ويذكر عبادا أتاهم يونس - عليه السلام - في جبل لبنان فيخبرهم عن [ ص: 407 ] الرجل منهم أنه كان يركع ركعة في سنة ، ويسجد نحو ذلك ، ولا يأكل إلا في كذا وكذا من الزمان ، وقد ذكر الله - تبارك وتعالى - الذين قبلنا فقال : كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا ، وقال تعالى : وزاده بسطة في العلم والجسم ، وقال تعالى : أتبنون بكل ريع آية تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون وإذا بطشتم بطشتم جبارين ، وليس في شيء مما وصف الله تعالى به من قبلنا ما يقارب هذا الإفراط ، وقد نعلم أنهم كانوا أعظم منا أجساما وأشد قوة ، غير أن المقدار فيما بيننا وبينهم مقدار ما جعله الله بين أعمارنا وأعمارهم .

فهذا آدم أبو البشر - صلى الله عليه وسلم - ، إنما عمر ألف سنة ، بذلك تتابعت الأخبار ووجدته في التوراة .

وهذا نوح - صلى الله عليه وسلم - لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما ، ثم انتقصت الأعمار بعد نوح - عليه السلام - ، إلا ما جاءت به الأخبار في عمر لقمان صاحب النسور ، فإنهم ذكروا أنه عاش أعمار سبعة أنسر ، وكان مقدار ذلك ألفي سنة وأربعمائة سنة ونيفا وخمسين سنة ، وهذا شيء متقادم لم يأت فيه كتاب ولا ثقة وليس له إسناد ، وإنما هو شيء يحكيه عبيد بن شرية الجرهمي وأشباهه من النساب .

[ ص: 408 ] وكذلك أعمار ملوك اليمن المتقدمين ، ثم ملوك العجم .

وقد عمر قوم قربوا من زماننا أعمارا ليس بينها وبين ما صح من عمر آدم ونوح - صلى الله عليهما وسلم - تفاوت شديد كتفاوت هذا الخلق .

حدثنا أبو حاتم قال : حدثنا الأصمعي قال : حدثنا أبو عمرو بن العلاء قال : مر المستوغر بن ربيعة في سوق عكاظ ومعه ابن ابنه خرفا ومستوغر يقوده ، فقال له قائل : يا هذا أحسن إليه فطالما أحسن إليك .

قال : ومن هو ؟

قال : أبوك أو جدك .

فقال : المستوغر هو والله ابن ابني .

فقال الرجل : تالله ما رأيت كاليوم ولا مستوغر بن ربيعة .

قال : فأنا مستوغر

قال أبو عمرو : عاش مستوغر ثلاثمائة سنة وعشرين سنة .

قال أبو محمد : وقد جعل الله تعالى لنا معتبرا بآثارهم على الأرض ، وما بنوه من مدنهم وحصونهم ونقبوه في الجبال الصم من أبوابهم ونحتوه من درجهم .

، وليس في ذلك من التفاوت بيننا وبينهم ، إلا كما بين أعمارنا وأعمارهم ، وكذلك الخلق .

[ ص: 409 ] ولا أعلمني سمعت في التفاوت بأشد من شيء حدثنيه الرياشي عن مسلم بن إبراهيم قال : حدثنا نوح بن قيس قال : حدثنا عبد الواحد بن نافع قال : ولاني خالد بن عبد الله " حفر المبارك " ، فجاءني العمال بضرس فوزنته ، فإذا فيه تسعة أرطال ، ولسنا ندري أهو ضرس إنسان أو ضرس جمل أو فيل .

وحدثني الرياشي قال : حدثنا عبد الله بن مسلمة ، عن أنس بن عياض ، عن زيد بن أسلم قال : وجد في حجاج رجل من العماليق ضبع وجراؤها .

قال : وهذا قد يمكن أن يكون حجاج جمل ، أو غيره فظنه الرائي له أنه حجاج رجل ، وعلى أنه لو كان حجاج رجل ما وقع فيه التفاوت ؛ لأن الحجاج من الإنسان إذا خلا واسع ، ثم هو يفضي إلى القحف ولا ينكر في قدر أجسام المتقدمين أن يكون في الحجاج والقحف ما ذكر .

وأما الوجه الثالث الذي يقع فيه فساد الحديث فأخبار متقادمة كان الناس في الجاهلية يروونها تشبه أحاديث الخرافة ، كقولهم : إن الضب كان يهوديا عاقا فمسخه الله تعالى ضبا ؛ ولذلك قال الناس : أعق من ضب .

ولم تقل العرب : أعق من ضب لهذه العلة ، وإنما قالوا ذلك لأنه يأكل حسوله إذا جاع . قال الشاعر :

[ ص: 410 ]

أكلت بنيك أكل الضب حتى تركت بنيك ليس لهم عديد



وكقولهم في الهدهد : إن أمه ماتت فدفنها في رأسه ، فلذلك أنتنت ريحه ، وقد ذكر هذه أمية بن أبي الصلت فقال :

غيم وظلماء وفضل سحابة     أيام كفن واستزاد الهدهد
يبغي القرار لأمه ليجنها     فبنى عليها في قفاه يمهد
فيزال يدلج ما مشى بجنازة     منها وما اختلف الحديث المسند



وكقولهم في الديك والغراب : إنهما كانا متنادمين ، فلما نفد شرابهما رهن الغراب الديك عند الخمار ومضى فلم يرجع إليه ، وبقي الديك عند الخمار حارسا ، قال : أمية بن أبي الصلت :


بآية قام ينطق كل شيء     وخان أمانه الديك الغراب



وكقولهم في السنور : إنها عطسة الأسد ، وفي الخنزير إنه عطسة الفيل ، وفي الإربيانة إنها خياطة كانت تسرق الخيوط فمسخت ، وإن الجري كان يهوديا فمسخ ، وحديث عوج عندنا من هذه الأحاديث .

والعجب أن عوجا هذا كان في زمن موسى - صلى الله عليه وسلم - عندهم وله هذا الطول العجيب .

وفرعون في زمنه وهو ضده في القصر على ما ذكر الحسن .

حدثنا أبو حاتم أو رجل عنده قال : حدثنا أبو زيد الأنصاري النحوي قال : حدثنا عمرو بن عبيد ، عن الحسن قال : ما كان طول فرعون إلا ذراعا ، وكانت لحيته ذراعا .

التالي السابق


الخدمات العلمية