صفحة جزء
[ ص: 210 ] قالوا حديث يفسد أوله آخره .

25 - قتل الخمس الفواسق .

قالوا : رويتم أنه قال : خمس فواسق يقتلن في الحل والحرام الغراب والحدأة والكلب والحية والفأرة قالوا : فلو قال اقتلوا هذه الخمسة وخمسة معها ، لجاز ذلك في التعبد فأما أن تقتل لأنها فواسق فهذا لا يجوز ، لأن الفسق والهدى لا يجوز على شيء من هذه الأشياء ، والهوام والسباع والطير غير الشياطين وغير الجن والإنس الذين يكون منهم الفسق والهداية .

قال أبو محمد : ونحن نقول إن المعتقد أن الهوام والسباع والطير لا يجوز عليها عصيان ولا طاعة مخالف لكتاب الله - جل وعز - وأنبيائه ورسله وكتب الله المتقدمة لأن الله تعالى قد أخبرنا عن نبيه سليمان - عليه السلام - أنه تفقد الطير : وتفقد الطير فقال ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين أي بعذر بين وحجة في غيبته وتخلفه .

[ ص: 211 ] ولا يجوز أن يعذبه إلا على ذنب ومعصية ، والذنوب والمعاصي تسمى فسوقا وما جاز أن يسمى عاصيا ، جاز أن يسمى فاسقا .

ثم حكى الله تعالى عن الهدهد بعد أن اعتذر إلى سليمان فقال : أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبإ بنبإ يقين إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون وهذا لو كان من أقاويل الحكماء بل لو كان من كلام الأنبياء لكان كلاما حسنا وعظة بليغة وحجة بينة ، فكيف لا يجوز على هذا مطيع وعاص وفاسق ومهتد ؟ وقد حكى الله تعالى أيضا عن النمل ما حكاه في هذه السورة فقال : وورث سليمان داود وقال ياأيها الناس علمنا منطق الطير فجعلها تنطق كما ينطق الناس ، وقال : حتى إذا أتوا على وادي النمل قالت نملة ياأيها النمل الآية . فجعلها تنطق كما ينطق الناس .

وقال : وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم وقال : ياجبال أوبي معه والطير أي : سبحي .

قال أبو محمد : وقرأت في التوراة أن نوحا - صلى الله عليه وسلم - لما كان بعد أربعين يوما فتح كوة الفلك التي صنع ، [ ص: 212 ] ثم أرسل الغراب فخرج ولم يرجع ، حتى يبس الماء على وجه الأرض ، وأرسل الحمامة مرة بعد مرة فرجعت حين أمست وفي منقارها ورقة زيتون ، فعلم أن الماء قد قل عن وجه الأرض فدعا الله تعالى لها بالطوق في عنقها والخضاب في رجليها .

قال أبو محمد : وقرأت أيضا في التوراة أن الله - جل وعز - قال لآدم حين خلقه : كل ما شئت من شجر الفردوس ، ولا تأكل من شجرة علم الخير والشر ، فإنك يوم تأكل منها تموت ، يريد : أنك تتحول إلى حال من يموت ، وكانت الحية أعزم دواب البر ، فقالت للمرأة : إنكما لا تموتان إن أكلتما منها ولكن أعينكما تنفتح وتكونان كالإله تعلمان الخير والشر ، فأخذت المرأة من ثمرتها فأكلت وأطعمت بعلها فانفتحت أبصارهما وعلما أنهما عريانان ، فوصلا من ورق التين واصطنعاه إزارا ، ثم سمعا صوت الله تعالى في الجنة حين تورك النهار ، فاختبأ آدم وامرأته في شجر الجنة ، فدعاهما .

فقال آدم سمعت صوتك في الفردوس ورأيتني عريانا فاختبأت منك ، فقال : ومن أراك أنك عريان ، لقد أكلت من الشجرة التي نهيتك عنها ، فقال إن المرأة أطعمتني ، وقالت المرأة إن الحية أطغتني . [ ص: 213 ] فقال الله - جل وعز - للحية : من أجل فعلك هذا فأنت ملعونة ، وعلى بطنك تمشين وتأكلين التراب ، وسأغري بينك وبين المرأة وولدها ، فيكون يطأ رأسك وتكونين أنت تلدغينه بعقبه ، وقال للمرأة : وأما أنت فأكثر أوجاعك وإحبالك ، وتلدين الأولاد بالألم وتردين إلى بعلك حتى يكون مسلطا عليك .

وقال لآدم - صلى الله عليه وسلم - : ملعونة الأرض من أجلك ، وتنبت الحاج والشوك ، وتأكل منها بالشقاء ورشح جبينك ، حتى تعود إلى التراب ، من أجل أنك تراب .

قال أبو محمد : أفما ترى أن الحية أطغت واختدعت ، فلعنها الله تعالى وغير خلقها وجعل التراب رزقها ؟ أفما يجوز أن تسمى هذه فاسقة وعاصية ، وكذلك الغراب بمعصيته نوحا - صلى الله عليه وسلم - .

ويرى أهل النظر أنه إنما سمي غراب البين ، لأنه بان عن نوح - عليه السلام - فذهب ، ولذلك تشاءموا به وزجروا في نعيقه بالفراق والاغتراب ، واستخرجوا من اسمه الغربة ، وقالوا : قذفته نوى غربة ، وهذا شاء مغرب وهذه عنقاء مغرب ، أي : جائية من بعد ، يعنون : العقاب . وكل هذا مشتق من اسم الغراب لمفارقته نوحا - صلى الله عليه وسلم - ومباينته .

قال أبو محمد : ومن الدليل أيضا ، حديث محمد بن سنان العوفي [ ص: 214 ] عن عبد الله بن الحارث بن أبزى المكي عن أمه رائطة بنت مسلم عن أبيها أنه قال : شهدت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حنينا فقال لي : ما اسمك ؟ قلت غراب ، فقال أنت مسلم كره أن يكون اسمه غرابا لفسق الغراب ومعصيته فسماه مسلما ، ذهب إلى ضد معنى الغراب ، لأن الغراب عاص والمسلم مطيع ، مأخوذ من الاستسلام وهو الانقياد والطاعة .

وكان - عليه السلام - يحب الاسم الحسن ويكره الاسم القبيح على ما قدمنا من القول في هذا الكتاب ولو أنا تركنا هذا المذهب الذي عليه المسلمون في تجويز الطاعة والمعصية على الحية والغراب والفأرة ، إلى ما يجوز في كلام العرب وفي اللغة ، لجاز لنا أن نسمي كل واحد من هذه فاسقا لأن الفسق الخروج على الناس والإيذاء عليهم .

يقال : فسقت الرطبة إذا خرجت عن قشرها ، وكل خارج عن شيء فهو فاسق ، قال الله تعالى إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أي خرج عن أمر ربه وطاعته ، فالحية تخرج على الناس من جحرها فتعبث بطعام الناس وتنهش وتكرع في شرابهم وتمج فيه ريقها ، والفأرة أيضا تخرج من جحرها فتفسد أطعمتهم وتقرض ثيابهم ، وتضرم بالذبالة على أهل البيت بيتهم ، ولا شيء من حشرات الأرض أعظم منها ضررا .

والغراب يقع على دآء البعير الدبر فينقره حتى يقتله ، ولذلك [ ص: 215 ] تسميه العرب ابن داية ، وينزع عن الخير ويختلس أطعمة الناس . والكلب يعقر ويجرح وكذلك السباع العادية ، وكل هذه قد يجوز أن تسمى فواسق لخروجها على الناس واعتراضها بالمضار عليهم . فأين كانوا عن هذا المخرج إذ قبح - عندهم - أن ينسبوا شيئا من هذه إلى طاعة أو معصية ؟ ! ! .

التالي السابق


الخدمات العلمية