صفحة جزء
[ ص: 247 ] قالوا حديثان متناقضان .

35 - التعوذ بالله من الفقر .

قالوا : رويتم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه تعوذ بالله من الفقر ، وقال : أسألك غناي وغنى مولاي ثم رويتم أنه قال : اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين وقال : الفقر بالمؤمن أحسن من العذار الحسن على خد الفرس وقالوا : وهذا تناقض واختلاف .

قال أبو محمد : ونحن نقول : إنه ليس هاهنا اختلاف - بحمد الله تعالى - وقد غلطوا في التأويل ، وظلموا في المعارضة ، لأنهم عارضوا الفقر بالمسكنة وهما مختلفان ، ولو كان قال : اللهم أحيني فقيرا وأمتني فقيرا واحشرني في زمرة الفقراء ، كان ذلك تناقضا كما ذكروا .

ومعنى المسكنة في قوله : احشرني مسكينا التواضع والإخبات ، [ ص: 248 ] كأنه سأل الله تعالى أن لا يجعله من الجبارين والمتكبرين ، ولا يحشره في زمرتهم ، والمسكنة حرف مأخود من السكون ، يقال : تمسكن الرجل إذا لان وتواضع وخشع وخضع ، ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : للمصلي تباءس وتمسكن وتقنع رأسك يريد : تخشع ، وتواضع لله - عز وجل - والعرب تقول : بي المسكين نزل الأمر ، لا يريدون معنى الفقر إنما يريدون معنى الذلة والضعف .

وكذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : لقيلة " يا مسكينة " ، لم يرد يا فقيرة ، وإنما أراد معنى الضعف .

ومن الدليل على ما أقول أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لو كان سأل الله - عز وجل - المسكنة التي هي الفقر لكان الله تعالى قد منعه ما سأله ، لأنه قبضه غنيا موسرا بما أفاء الله - عز وجل - عليه ، وإن كان لم يضع درهما على درهم ، ولا يقال لمن ترك مثل بساتينه بالمدينة وأمواله ومثل فدك إنه [ ص: 249 ] مات فقيرا ، والله - عز وجل - يقول ألم يجدك يتيما فآوى ووجدك ضالا فهدى ووجدك عائلا فأغنى والعائل : الفقير ، كان له عيال أو لم يكن ، والمعيل ذو العيال ، كان له مال أو لم يكن .

فحال النبي - صلى الله عليه وسلم - عند مبعثه وحاله عند مماته يدلان على ما قال الله - عز وجل - لأنه بعث فقيرا وقبض غنيا ، ويدل على أن المسكنة التي كان يسألها ربه - عز وجل - ليست بالفقر .

وأما قوله : إن الفقر بالمؤمن أحسن من العذار الحسن على خد الفرس فإن الفقر مصيبة من مصائب الدنيا عظيمة ، وآفة من آفاتها أليمة ، فمن صبر على المصيبة لله تعالى ورضي بقسمه ، زانه الله تعالى بذلك في الدنيا وأعظم له الثواب في الآخرة .

وإنما مثل الفقر والغنى مثل السقم والعافية ، فمن ابتلاه الله تعالى بالسقم فصبر كان كمن ابتلي بالفقر فصبر ، وليس ما جعل الله تعالى في ذلك من الثواب بمانعنا من أن نسأل الله العافية ونرغب إليه في السلامة .

وقد ذهب قوم يفضلون الفقر على الغنى إلى أنه كان يتعوذ بالله تعالى من فقر النفس ، واحتجوا بقول الناس : " فلان فقير النفس " . وإن كان حسن الحال وغني النفس ، وإن كان سيء الحال وهذا غلط .

ولا نعلم أن أحدا من الأنبياء ولا من صحابتهم ولا العباد ولا [ ص: 250 ] المجتهدين كان يقول : اللهم أفقرني ولا أزمني . ولا بذلك استعبدهم الله - عز وجل - ، بل استعبدهم بأن يقولوا : اللهم ارزقني اللهم عافني ، وكانوا يقولون : " اللهم لا تبلنا إلا بالتي هي أحسن " . يريدون : لا تختبرنا إلا بالخير ، ولا تختبرنا بالشر ، لأن الله تعالى يختبر عباده بهما ، ليعلم كيف شكرهم وصبرهم . وقال ونبلوكم بالشر والخير فتنة أي اختبارا ، وكان مطرف يقول : لأن أعافى فأشكر ، أحب إلي من أن أبتلى فأصبر .

قال أبو محمد : وقد ذكرت هذا في كتاب غريب الحديث بأكثر من هذا الشرح ، ولم أجد بدا من إيداعه في هذا الكتاب أيضا ليكون جامعا للفن الذي قصدنا له .

التالي السابق


الخدمات العلمية