صفحة جزء
( 13 ) حدثنا إسحاق بن إبراهيم الدبري ، عن عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري ، أخبرني عروة بن الزبير ، عن المسور بن مخرمة ، ومروان بن الحكم ، يصدق كل واحد منهما صاحبه قالا : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية في بضع عشرة مائة من أصحابه حتى إذا كانوا بذي الحليفة قلد رسول الله صلى الله عليه وسلم الهدي وأشعره ، ثم أحرم [ ص: 10 ] بالعمرة ، وبعث بين يديه عينا من خزاعة يخبره عن قريش ، وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بغدير الأشطاط قريبا من عسفان أتاه عينه الخزاعي فقال : إني تركت كعب بن لؤي ، وعامر بن لؤي وقد جمعوا لك الأحابيش ، وجمعوا لك جموعا ، وهم مقاتلوك وصادوك ، عن البيت الحرام ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أشيروا علي ، أترون لي أن أميل إلى ذراري هؤلاء الذين أعانوهم فنصيبهم ، فإن قعدوا قعدوا موتورين محروبين ، وإن جاؤوا تكن عنقا قطعها الله ، أم ترون أن نؤم البيت فمن صدنا عنه قاتلناه ؟ " فقال أبو بكر : الله ورسوله أعلم يا نبي الله ، إنما جئنا معتمرين ولم نجئ لقتال أحد ، ولكن من حال بيننا وبين البيت قاتلناه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " فروحوا إذا " ، فراحوا حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن خالد بن الوليد بالغميم في خيل لقريش طليعة ، فخذوا ذات اليمين " فوالله ما شعر بهم خالد حتى إذا هو بقترة الجيش ، فانطلق يركض نذيرا لقريش ، وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها بركت به راحلته فقال الناس : حل حل ، فقالوا : خلأت القصواء خلأت فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " ما خلأت القصواء ، وما ذاك لها بخلق ، ولكنها حبسها حابس الفيل " ثم قال : " والذي نفسي بيده ، لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها " ثم زجرها فوثبت به فعدل عنهم ، حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء ، إنما يتبرضه الناس تبرضا ، فلم يلبثه الناس أن نزحوه ، فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العطش فانتزع سهما من كنانته ، ثم أمرهم أن يجعلوه فيه ، قال : فوالله ما زال يجيش لهم بالري حتى صدروا عنه ، فبينا هم كذلك إذ جاءهم بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه من خزاعة - وكانوا عيبة نصح [ ص: 11 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل تهامة - فقال : إني تركت كعب بن لؤي ، وعامر بن لؤي نزلوا أعداد مياه الحديبية ومعهم العوذ المطافيل ، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنا لم نجئ لقتال أحد ، ولكن جئنا معتمرين ، وإن قريشا قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم ، فإن شاءوا ماددتهم مدة ويخلوا بيني وبين الناس ، فإن أظهر فإن شاؤوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا ، وإلا فقد جموا ، وإن أبوا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي أو لينفذن الله أمره " فقال بديل : سأبلغهم ما تقول ، فانطلق حتى أتى قريشا فقال : إنا قد جئناكم من عند هذا الرجل ، وسمعناه يقول قولا ، فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا ، فقال سفهاؤهم : لا حاجة لنا أن تحدثنا عنه بشيء ، وقال ذو الرأي منهم : هات ما سمعته يقول ، قال : سمعته يقول كذا وكذا ، فحدثهم بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فقام عروة بن مسعود الثقفي فقال : أي قوم ألستم بالولد ؟ قالوا : بلى ، قال : أو لست بالوالد ؟ قالوا : بلى ، قال : فهل تتهموني ؟ قالوا : لا ، فقال : ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ ، فلما بلحوا علي جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني ؟ قالوا : بلى ، قال : فإن هذا قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها ودعوني آته ، فقالوا : ائته ، فأتاه فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نحوا من قوله لبديل ، فقال عروة عند ذلك : أي محمد أرأيت إن استأصلت قومك ، هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك ؟ وإن تكن الأخرى فوالله إني لأرى وجوها وأرى أوباشا من الناس خليقا أن يفروا ويدعوك ، فقال أبو بكر : امصص بظر اللات ، نحن نفر وندعه ؟ فقال : من ذا ؟ قال : أبو بكر ، قال : أما والذي نفسي بيده ، لولا يد لك عندي لم أجزك بها لأجبتك ، قال : وجعل يكلم النبي صلى [ ص: 12 ] الله عليه وسلم ، فكلما كلمه أخذ بلحيته ، والمغيرة بن شعبة قائم على رأس النبي صلى الله عليه وسلم بالمغفر ومعه السيف ، فكلما أهوى عروة يده إلى لحية النبي صلى الله عليه وسلم ضرب يده بنعل السيف ، وقال : أخر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فرفع عروة رأسه فقال : من هذا ؟ قال : هذا المغيرة بن شعبة فقال : أي غدر أو لست أسعى في غدرتك ؟ وكان المغيرة صحب قوما في الجاهلية فقتلهم ، وأخذ أموالهم وجاء فأسلم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أما الإسلام فأقبل ، وأما المال فلست منه في شيء " ثم إن عروة جعل يرمق صحابة النبي صلى الله عليه وسلم بعينيه فقال : والله ما تنخم رسول الله صلى الله عليه وسلم نخامة إلا وقعت في يد رجل منهم ، فدلك بها وجهه وجلده ، وإذا أمر ابتدروا أمره ، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه ، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده ، وما يحدون النظر إليه تعظيما له ، فرجع عروة إلى أصحابه فقال : أي قوم ، والله لقد وفدت على الملوك ، ووفدت على قيصر ، وكسرى ، والنجاشي ، والله إن رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدا ، والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده ، وإذا أمرهم ابتدروا أمره ، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه ، وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده ، وما يحدون النظر إليه تعظيما له ، وإنه عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها ، فقال رجل من بني كنانة : دعوني آته ، فقالوا : ائته ، فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " هذا فلان ، وهو من قوم يعظمون البدن فابعثوها له " ، فبعثت له ، واستقبله القوم يلبون ، فلما رأى ذلك قال : سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت ، قال : فلما رجع إلى أصحابه قال : رأيت البدن قد قلدت وأشعرت ، فما أرى أن يصدوا عن البيت [ ص: 13 ] فقال رجل منهم يقال له مكرز بن حفص : دعوني آته ، قالوا : ائته ، فلما أشرف عليهم ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " هذا مكرز بن حفص ، وهو رجل فاجر " ، فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم ، فبينا هو يكلمه إذ جاء سهيل بن عمرو ، فقال : هات اكتب بيننا وبينكم كتابا ، فدعا الكاتب ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اكتب بسم الله الرحمن الرحيم " ، فقال سهيل : أما الرحمن فوالله ما أدري ما هو ، ولكن اكتب : باسمك اللهم كما كنت تكتب ، فقال المسلمون : والله ما يكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " اكتب باسمك اللهم " ، ثم قال : " هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم . . " ، فقال سهيل : والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك ، ولكن اكتب : محمد بن عبد الله ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " والله إني لرسول الله وإن كذبتموني ، اكتب : محمد بن عبد الله " قال النبي صلى الله عليه وسلم : " على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به " ، فقال سهيل : والله لا تتحدث العرب أننا أخذنا ضغطة ، ولكن لك من العام المقبل ، فكتب فقال سهيل : وعلى أن لا يأتيك منا رجل ، وإن كان على دينك ، إلا رددته إلينا ، فقال المسلمون : سبحان الله كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلما ؟ فبينا هم كذلك إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في قيوده ، قد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين ، فقال سهيل : هذا يا محمد أول من أقاضيك عليه أن ترده إلي ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إنا لم نقض الكتاب بعد " قال : فوالله إذا لم أصالحك على شيء أبدا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " فأجزه لي " ، فقال : ما أنا بمجيزه لك ، قال : " بلى فافعل " ، قال : ما أنا بفاعل ، قال مكرز : بلى ، قد أجزناه لك ، فقال أبو جندل : أي معشر المسلمين ، أرد إلى المشركين وقد جئت مسلما ؟ [ ص: 14 ] ألا ترون إلى ما قد لقيت ؟ - وكان قد عذب عذابا شديدا في الله - فقال عمر بن الخطاب : والله ما شككت منذ أسلمت إلا يومئذ ، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : ألست نبي الله حقا ؟ قال : " بلى " ، قلت : ألسنا على الحق وعدونا على الباطل ؟ قال : " بلى " ، قلت : فلم نعطي الدنية في ديننا إذا ؟ قال : " إني لرسول الله ، ولست أعصيه ، وهو ناصري " ، قلت : أو ليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به ؟ قال : " بلى ، فأخبرتك أنك تأتيه العام ؟ " قلت : لا ، قال : " فإنك آتيه ، ومطوف به " ، قال : فأتيت أبا بكر فقلت : يا أبا بكر أليس هذا نبي الله حقا ؟ قال : بلى ، قلت : أليس نحن على الحق وعدونا على الباطل ؟ قال : بلى ، قلت : فلم نعطي الدنية في ديننا إذا ؟ قال : أيها الرجل إنه رسول الله ، وليس يعصي ربه ، وهو ناصره ، فاستمسك بغرزه حتى تموت ، فوالله إنه لعلى الحق ، قلت : أو ليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به ؟ قال : بلى ، أفأخبرك أنك تأتيه العام ؟ قلت : لا ، قال : فإنك آتيه وتطوف به ، فلما فرغ من قضية الكتاب ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه : " قوموا فانحروا ثم احلقوا " ، قال : فوالله ما قام منهم رجل حتى قاله ثلاث مرات ، فلما لم يقم منهم أحد قام ، فدخل على أم سلمة ، فذكر لها ما لقي من الناس ، قالت أم سلمة : يا نبي الله أتحب ذلك ؟ اخرج ثم لا تكلم أحدا منهم بكلمة حتى تنحر بدنك ، وتدعو حالقك فيحلقك . فقام فخرج فلم يكلم أحدا منهم حتى فعل ذلك ، نحر بدنه ، ودعا حالقه فحلقه ، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا ، وجعل بعضهم يحلق بعضا حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما ، ثم جاءت نسوة مؤمنات ، فأنزل الله عز وجل : ياأيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات حتى بلغ بعصم الكوافر ، فطلق عمر يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك ، فتزوج إحداهما معاوية بن أبي سفيان ، والأخرى صفوان بن أمية ، ثم رجع النبي [ ص: 15 ] صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فجاء أبو بصير - رجل من قريش - وهو مسلم ، فأرسلوا في طلبه رجلين وقالوا : العهد الذي جعلت لنا ، فدفعه إلى الرجلين ، فخرجا حتى إذا بلغا به ذا الحليفة ، فنزلوا يأكلون من تمر لهم ، فقال أبو بصير لأحد الرجلين : والله إني لأرى سيفك هذا يا فلان جيدا فاستله الآخر فقال : أجل والله إنه لجيد ، لقد جربت به ثم جربت ، فقال أبو بصير : أرني أنظر إليه ، فأمكنه منه فضربه به حتى برد ، وفر الآخر حتى أتى المدينة ، فدخل المسجد يعدو ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآه : " لقد رأى هذا ذعرا " ، فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال : قتل والله صاحبي ، وإني لمقتول ، فجاء أبو بصير فقال : يا نبي الله ، قد والله أوفى الله ذمتك ، قد رددتني إليهم ثم أنجاني الله منهم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " ويل أمه مسعر حرب لو كان له أحد " فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم ، فخرج حتى أتى سيف البحر ، قال : وينفلت منهم أبو جندل بن سهيل ، فلحق بأبي بصير ، فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير ، حتى اجتمع منهم عصابة ، قال : فوالله ما سمعوا بعير خرجت لقريش إلى الشام إلا اعترضوا لها فقتلوهم وأخذوا أموالهم ، فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم تناشده بالله والرحم إلا أرسل إليهم : فمن أتاه فهو آمن ، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله عز وجل : وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة ، حتى بلغ حمية الجاهلية ، وكانت قريش حميتهم أنهم لم يقروا أنه نبي الله ، ولم يقروا ببسم الله الرحمن الرحيم ، وحالوا بينه وبين البيت

التالي السابق


الخدمات العلمية