صفحة جزء
2676 - حدثنا محمد بن أحمد بن البراء ، ثنا عبد المنعم بن [ ص: 59 ] إدريس بن سنان ، عن أبيه ، عن وهب بن منبه ، عن جابر بن عبد الله ، وعبد الله بن عباس في قول الله عز وجل : إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا ، قال : لما نزلت قال محمد صلى الله عليه وسلم : " يا جبريل نفسي قد نعيت " . قال جبريل عليه السلام : الآخرة خير لك من الأولى ، ولسوف يعطيك ربك فترضى . فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا أن ينادي بالصلاة جامعة ، فاجتمع المهاجرون والأنصار إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم صعد المنبر ، فحمد الله عز وجل وأثنى عليه ، ثم خطب خطبة وجلت منها القلوب وبكت العيون ، ثم قال : " أيها الناس أي نبي كنت لكم ؟ " فقالوا : جزاك الله من نبي خيرا ؛ فلقد كنت بنا كالأب الرحيم ، وكالأخ الناصح المشفق ، أديت رسالات الله عز وجل وأبلغتنا وحيه ، ودعوت إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة ، فجزاك الله عنا أفضل ما جازى نبيا عن أمته . فقال لهم : " معاشر المسلمين ، أنا أنشدكم بالله وبحقي عليكم ، من كانت له قبلي مظلمة فليقم فليقتص مني . فلم يقم إليه أحد ، فناشدهم الثانية ، فلم يقم إليه أحد ، فناشدهم الثالثة : معاشر المسلمين أنشدكم بالله وبحقي عليكم من كانت له قبلي مظلمة فليقم فليقتص مني قبل القصاص في القيامة " . فقام من بين المسلمين شيخ كبير يقال له عكاشة ، فتخطى المسلمين حتى وقف بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : فداك أبي وأمي ، لولا أنك ناشدتنا مرة بعد أخرى ما كنت بالذي يقدم على شيء من هذا ، كنت معك في غزاة ، فلما فتح الله عز وجل علينا ونصر نبيه صلى الله عليه وسلم وكنا في الانصراف حاذت ناقتي ناقتك فنزلت عن الناقة ، ودنوت منك لأقبل [ ص: 60 ] فخذك ، فرفعت القضيب فضربت خاصرتي ، ولا أدري أكان عمدا منك ، أم أردت ضرب الناقة . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أعيذك بجلال الله أن يتعمدك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالضرب ، يا بلال انطلق إلى منزل فاطمة وائتني بالقضيب الممشوق " . فخرج بلال من المسجد ويده على أم رأسه ، وهو ينادي : هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي القصاص من نفسه . فقرع الباب على فاطمة ، فقال : يا بنت رسول الله ناوليني القضيب الممشوق . فقالت فاطمة : يا بلال وما يصنع أبي بالقضيب وليس هذا يوم حج ولا يوم غزاة ؟ فقال : يا فاطمة ما أغفلك عما فيه أبوك ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يودع الدين ويفارق الدنيا ، ويعطي القصاص من نفسه . فقالت فاطمة رضي الله عنها : يا بلال ومن ذا الذي تطيب نفسه أن يقتص من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ يا بلال فقل للحسن والحسين يقومان إلى هذا الرجل فيقتص منهما ، ولا يدعانه يقتص من رسول الله صلى الله عليه وسلم . فدخل بلال المسجد ، ودفع القضيب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم القضيب إلى عكاشة ، فلما نظر أبو بكر وعمر رضي الله عنهما إلى ذلك ، قاما فقالا : يا عكاشة هذان نحن بين يديك فاقتص منا ، ولا تقتص من رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم : " امض يا أبا بكر وأنت يا عمر ، فامض فقد عرف الله مكانكما ومقامكما " . فقام علي بن أبي طالب ، فقال : يا عكاشة أنا في الحياة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا تطيب نفسي أن يضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهذا ظهري وبطني ، اقتص مني بيدك واجلدني مئة ، ولا تقتص من رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " يا علي اقعد فقد عرف الله عز وجل مقامك ونيتك " . وقام الحسن والحسين رضي الله عنهما فقالا : يا عكاشة أليس تعلم أنا سبطا رسول الله ؟ فالقصاص منا كالقصاص من رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال لهما صلى الله عليه وسلم : " اقعدا يا قرة عيني ، لا نسي الله لكما هذا المقام " . ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم : " يا عكاشة اضرب إن كنت ضاربا " . فقال : يا رسول الله ، ضربتني وأنا حاسر عن بطني . فكشف [ ص: 61 ] عن بطنه صلى الله عليه وسلم ، وصاح المسلمون بالبكاء ، وقالوا : أترى عكاشة ضارب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فلما نظر عكاشة إلى بياض بطن رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه القباطي ، لم يملك أن كب عليه وقبل بطنه ، وهو يقول : فداء لك أبي وأمي ، ومن تطيق نفسه أن يقتص منك ؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " إما أن تضرب ، وإما أن تعفو " . فقال : قد عفوت عنك رجاء أن يعفو الله عني في القيامة . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " من أراد أن ينظر إلى رفيقي في الجنة فلينظر إلى هذا الشيخ " . فقام المسلمون ، فجعلوا يقبلون ما بين عيني عكاشة ، ويقولون : طوباك طوباك ، نلت الدرجات العلى ومرافقة رسول الله صلى الله عليه وسلم . فمرض رسول الله صلى الله عليه وسلم من يومه ، فكان مريضا ثمانية عشر يوما يعوده الناس ، وكان صلى الله عليه وسلم ولد يوم الاثنين ، وبعث يوم الاثنين ، وقبض يوم الاثنين ، فلما كان في يوم الأحد ثقل في مرضه ، فأذن بلال بالأذان ، ثم وقف بالباب فنادى : السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله ، الصلاة رحمك الله . فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوت بلال ، فقالت فاطمة رضي الله عنها : يا بلال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم اليوم مشغول بنفسه . فدخل بلال المسجد ، فلما أسفر الصبح ، قال : والله لا أقيمها أو أستأذن سيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم . فرجع فقام بالباب ونادى : السلام عليك يا رسول ورحمة الله وبركاته ، الصلاة يرحمك الله . فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوت بلال ، فقال : " ادخل يا بلال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مشغول بنفسه ، مر أبا بكر يصل بالناس " . فخرج ويده على أم رأسه ، وهو يقول : واغوثا بالله ، وانقطاع رجائه ، وانقطاع رجائه ، وانقصام ظهري ، ليتني لم تلدني أمي ، وإذ ولدتني لم أشهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا اليوم . ثم قال : يا أبا بكر ، ألا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرك أن تصلي بالناس . فتقدم أبو بكر رضي الله عنه للناس ، وكان رجلا رقيقا ، فلما نظر إلى خلوة المكان من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يتمالك أن خر مغشيا عليه ، وصاح المسلمون بالبكاء ، فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ضجيج الناس ، فقال : " ما هذه الضجة ؟ " ، قالوا : ضجة المسلمين لفقدك يا رسول الله . فدعا النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب [ ص: 62 ] وابن عباس رضي الله عنهما ، فاتكأ عليهما ، فخرج إلى المسجد ، فصلى بالناس ركعتين خفيفتين ، ثم أقبل بوجهه المليح عليهم ، فقال : " يا معشر المسلمين ، أستودعكم الله ، أنتم في رجاء الله وأمانه ، والله خلفتي عليكم ، معاشر المسلمين ، عليكم باتقاء الله وحفظ طاعته من بعدي ، فإني مفارق الدنيا ، هذا أول يوم من الآخرة ، وآخر يوم من أيام الدنيا " . فلما كان يوم الاثنين اشتد به الأمر ، وأوحى الله عز وجل إلى ملك الموت صلى الله عليه وسلم أن اهبط إلى حبيبي وصفيي محمد صلى الله عليه وسلم في أحسن صورة ، وارفق به في قبض روحه ، فهبط ملك الموت صلى الله عليه وسلم ، فوقف بالباب شبه أعرابي ، ثم قال : السلام عليكم يا أهل بيت النبوة ، ومعدن الرسالة ، ومختلف الملائكة ، أدخل ؟ فقالت عائشة رضي الله عنها لفاطمة : أجيبي الرجل . فقالت فاطمة : آجرك الله في ممشاك يا عبد الله ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مشغول بنفسه . فدعا الثانية ، فقالت عائشة : يا فاطمة أجيبي الرجل . فقالت فاطمة : آجرك الله في ممشاك يا عبد الله ، إن رسول الله مشغول بنفسه . ثم دعا الثالثة : السلام عليكم يا أهل بيت النبوة ، ومعدن الرسالة ، ومختلف الملائكة ، أأدخل ؟ فلابد من الدخول . فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوت ملك الموت صلى الله عليه وسلم ، فقال : " يا فاطمة من بالباب ؟ " فقالت : يا رسول الله ، إن رجلا بالباب يستأذن في الدخول ، فأجبناه مرة بعد أخرى ، فنادى في الثالثة صوتا اقشعر منه جلدي ، وارتعدت فرائصي . فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم : " يا فاطمة ، أتدرين من بالباب ؟ هذا هادم اللذات ، ومفرق الجماعات ، هذا مرمل الأزواج ، وموتم الأولاد ، هذا مخرب الدور ، وعامر القبور ، هذا ملك الموت صلى الله عليه وسلم ، ادخل رحمك الله يا ملك الموت " . فدخل ملك الموت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا ملك الموت ، جئتني زائرا أم قابضا ؟ " قال : جئتك زائرا وقابضا ، وأمرني الله عز وجل أن لا أدخل عليك إلا بإذنك ، ولا أقبض روحك إلا بإذنك ، فإن أذنت وإلا رجعت إلى ربي عز وجل . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا ملك الموت ، أين خلفت حبيبي جبريل ؟ " قال : خلفته في السماء الدنيا والملائكة [ ص: 63 ] يعزونه فيك ، فما كان بأسرع أن أتاه جبريل عليه السلام ، فقعد عند رأسه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا جبريل ، هذا الرحيل من الدنيا ، فبشرني ما لي عند الله " ؟ قال : أبشرك يا حبيب الله أني قد تركت أبواب السماء قد فتحت ، والملائكة قد قاموا صفوفا صفوفا بالتحية والريحان يحيون روحك يا محمد . فقال : " لوجه ربي الحمد ، وبشرني يا جبريل " . قال : أبشرك أن أبواب الجنان قد فتحت ، وأنهارها قد اطردت ، وأشجارها قد تدلت ، وحورها قد تزينت لقدوم روحك يا محمد . قال : " لوجه ربي الحمد ، فبشرني يا جبريل " . قال : أنت أول شافع وأول مشفع في القيامة . قال : " لوجه ربي الحمد " . قال جبريل : يا حبيبي ، عم تسألني ؟ قال : " أسألك عن غمي وهمي ، من لقراء القرآن من بعدي ؟ من لصوم شهر رمضان من بعدي ؟ من لحاج بيت الله الحرام من بعدي ؟ من لأمتي المصفاة من بعدي ؟ " قال : أبشر يا حبيب الله ، فإن الله عز وجل يقول : قد حرمت الجنة على جميع الأنبياء والأمم حتى تداخلها أنت وأمتك يا محمد . قال : " الآن طابت نفسي ، إذن يا ملك الموت فانته إلى ما أمرت " . فقال علي رضي الله عنه : يا رسول الله ، إذا أنت قبضت فمن يغسلك ؟ وفيم نكفنك ؟ ومن يصلى عليك ؟ ومن يدخل القبر ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " يا علي أما الغسل فاغسلني أنت ، والفضل بن عباس يصب عليك الماء ، وجبريل عليه السلام ثالثكما ، فإذا أنتم فرغتم من غسلي فكفنوني في ثلاثة أثواب جدد ، وجبريل عليه السلام يأتيني بحنوط من الجنة ، فإذا أنتم وضعتموني على السرير فضعوني في المسجد واخرجوا عني ، فإن أول من يصلي علي الرب عز وجل من فوق عرشه ، ثم جبريل عليه السلام ، ثم ميكائيل ، ثم إسرافيل عليهما السلام ، ثم الملائكة زمرا زمرا ، ثم ادخلوا ، فقوموا صفوفا لا يتقدم علي أحد " . فقالت فاطمة رضي الله تعالى عنها : اليوم الفراق ، فمتى ألقاك ؟ فقال لها : " يا بنية ، تلقينني يوم القيامة عند الحوض وأنا أسقي من يرد على الحوض من أمتي " . قالت : فإن لم ألقك يا رسول الله ؟ [ ص: 64 ] قال : " تلقيني عند الميزان وأنا أشفع لأمتي " . قالت : فإن لم ألقك يا رسول الله ؟ قال : " تلقيني عند الصراط وأنا أنادي ربي سلم أمتي من النار " . فدنا ملك الموت صلى الله عليه وسلم يعالج قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما بلغ الروح الركبتين ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أوه " . فلما بلغ الروح السرة نادى النبي صلى الله عليه وسلم : " واكرباه " . فقالت فاطمة عليها السلام : كربي يا أبتاه . فلما بلغ الروح إلى الثندؤة نادى النبي صلى الله عليه وسلم : " يا جبريل ، ما أشد مرارة الموت " . فولى جبريل عليه السلام وجهه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا جبريل ، كرهت النظر إلي ؟ " فقال جبريل صلى الله عليه وسلم : يا حبيبي ، ومن تطيق نفسه أن ينظر إليك وأنت تعالج سكرات الموت ؟ فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فغسله علي بن أبي طالب ، وابن عباس يصب عليه الماء ، وجبريل عليه السلام معهما ، وكفن بثلاثة أثواب جدد ، وحمل على سرير ، ثم أدخلوه المسجد ، ووضعوه في المسجد ، وخرج الناس عنه ، فأول من صلى عليه الرب تعالى من فوق عرشه ، ثم جبريل ، ثم ميكائيل ، ثم إسرافيل ، ثم الملائكة زمرا زمرا . قال علي رضي الله تعالى عنه : لقد سمعنا في المسجد همهمة ، ولم نر لهم شخصا ، فسمعنا هاتفا يهتف ويقول : ادخلوا رحمكم الله فصلوا على نبيكم صلى الله عليه وسلم . فدخلنا ، وقمنا صفوفا صفوفا كما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكبرنا بتكبير جبريل عليه السلام ، وصلينا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بصلاة جبريل عليه السلام ، ما تقدم منا أحد على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ودخل القبر أبو بكر الصديق ، وعلي بن أبي طالب ، وابن عباس رضي الله تعالى عنهم ، ودفن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما انصرف الناس قالت فاطمة لعلي رضي الله تعالى عنه : يا أبا الحسن ، دفنتم رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم . قالت فاطمة رضي الله تعالى عنها : كيف طابت أنفسكم أن تحثوا التراب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ أما كان في صدوركم لرسول الله صلى الله عليه وسلم الرحمة ، أما كان معلم الخير ؟ قال : بلى يا فاطمة ، ولكن أمر الله الذي لا مرد له . فجعلت تبكي وتندب ، وهي تقول : يا أبتاه ، الآن انقطع جبريل عليه السلام ، وكان جبريل يأتينا بالوحي من السماء .

التالي السابق


الخدمات العلمية