صفحة جزء
[ ص: 262 ] أما الأول فمكروه جدا ، ذمه أكثر العلماء ، ثم قال فريق منهم : من عرف به صار مجروحا مردود الرواية وإن بين السماع ، والصحيح التفصيل ، فما رواه بلفظ محتمل لم يبين فيه السماع فمرسل ، وما بينه فيه كسمعت ، وحدثنا ، وأخبرنا وشبهها فمقبول محتج به ، وفي الصحيحين وغيرهما من هذا الضرب كثير ، كقتادة ، والسفيانين وغيرهم ، وهذا الحكم جار فيمن دلس مرة ، وما كـان في الصحيحين وشبههما ، عن المدلسين بعن محمول على ثبوت السماع من جهة أخرى ، وأما الثاني فكراهته أخف ، وسببها توعير طريق معرفته ، وتختلف الحال في كراهته بحسب غرضه ، لكون المغير اسمه ضعيفا ، أو صغيرا ، أو متأخر الوفاة ، أو سمع منه كثيرا ، فامتنع من تكراره على صورة ، وتسمـح الخطيب وغيره بهذا .


( أما ) القسم ( الأول فمكروه جدا ، ذمه أكثر العلماء ) ، وبالغ شعبة في ذمه ، فقال : لأن أزني أحب إلي من أن أدلس .

وقال : التدليس أخو الكذب .

قال ابن الصلاح : وهذا منه إفراط ، محمول على المبالغة في الزجر عنه والتنفير .

( ثم قال فريق منهم ) من أهل الحديث والفقهاء ( من عرف به صار مجروحا مردود الرواية ) مطلقا ، ( وإن بين السماع ) .

وقال جمهور من يقبل المرسل : يقبل مطلقا ، حكاه الخطيب .

ونقل المصنف في شرح المهذب الاتفاق على رد ما عنعنه تبعا للبيهقي وابن عبد البر محمول على اتفاق من لا يحتج بالمرسل .

[ ص: 263 ] لكن حكى ابن عبد البر ، عن أئمة الحديث أنهم قالوا : يقبل تدليس ابن عيينة ; لأنه إذا وقف أحال على ابن جريج ومعمر ونظرائهما .

ورجحه ابن حبان قال : وهذا شيء ليس في الدنيا إلا لسفيان بن عيينة ، فإنه كان يدلس ولا يدلس إلا عن ثقة متقن ، ولا يكاد يوجد له خبر دلس فيه إلا وقد بين سماعه ، عن ثقة مثل ثقته ، ثم مثل ذلك بمراسيل كبار التابعين ، فإنهم لا يرسلون إلا عن صحابي .

وسبقه إلى ذلك أبو بكر البزار ، وأبو الفتح الأزدي ، وعبارة البزار : من كان يدلس عن الثقات كان تدليسه عند أهل العلم مقبولا .

وفي الدلائل لأبي بكر الصيرفي : من ظهر تدليسه ( ق 79 \ أ ) عن غير الثقات ، لم يقبل خبره حتى يقول : حدثني ، أو سمعت .

فعلى هذا هو قول ثالث مفصل غير التفصيل الآتي .

قال المصنف كابن الصلاح : وعزى للأكثرين منهم الشافعي وابن المديني ، وابن معين وآخرون ( والصحيح التفصيل فما رواه بلفظ محتمل ، لم يبين فيه السماع ، فمرسل ) لا يقبل ، ( وما بين فيه كسمعت ، وحدثنا ، وأخبرنا ، وشبهها ، فمقبول يحتج به ، وفي الصحيحين ، وغيرهما من هذا الضرب كثير كقتادة والسفيانين [ ص: 264 ] وغيرهم ) كعبد الرزاق ، والوليد بن مسلم ; لأن التدليس ليس كذبا ، وإنما هو ضرب من الإيهام .

( وهذا الحكم جار ) كما نص عليه الشافعي ( فيمن دلس مرة ) واحدة .

( وما كان في الصحيحين وشبههما ) من الكتب الصحيحة ، ( ، عن المدلسين بعن ، فمحمول على ثبوت السماع ) له ( من جهة أخرى ) وإنما اختار صاحب الصحيح طريق العنعنة على طريق التصريح بالسماع ، لكونها على شرطه دون تلك .

وفصل بعضهم تفصيلا آخر ، فقال : إن كان الحامل له على التدليس تغطية الضعيف فجرح ; لأن ذلك حرام وغش وإلا فلا .

( وأما ) القسم ( الثاني ، فكراهته أخف ) من الأول ، ( وسببها توعير طريق معرفته ) على السامع ، كقول أبي بكر بن مجاهد أحد أئمة القراء ، حدثنا عبد الله بن أبي عبد الله ، يريد أبا بكر بن أبي داود السجستاني ، وفيه تضييع للمروي عنه والمروي أيضا ; لأنه قد لا يفطن له ، فيحكم عليه بالجهالة .

( وتختلف الحال في كراهته بحسب غرضه ) ، فإن كان ( لكون المغير اسمه ضعيفا ) ، فيدلسه حتى لا يظهر روايته ، عن الضعفاء ، فهو شر هذا القسم ، والأصح أنه ليس بجرح .

[ ص: 265 ] وجزم ابن الصباغ في العدة بأن من فعل ذلك لكون شيخه غير ثقة عند الناس ، فغيره ليقبل خبره ، يجب أن لا يقبل خبره ، ( ق 79 \ ب ) وإن كان هو يعتقد فيه الثقة فقد غلط في ذلك ، لجواز أن يعرف غيره من جرحه ما لا يعرفه هو .

وقال الآمدي إن فعله لضعفه فجرح ، أو لضعف نسبه ، أو لاختلافهم في قبول روايته فلا .

وقال ابن السمعاني : إن كان بحيث لو سئل عنه لم يبينه ، فجرح ، وإلا فلا .

ومنع بعضهم إطلاق اسم التدليس على هذا ، روى البيهقي في " المدخل " ، عن محمد بن رافع ، قال : قلت لأبي عامر : كان الثوري يدلس ؟ قال : لا ، قلت : أليس إذا دخل كورة يعلم أن أهلها لا يكتبون حديث رجل ، قال : حدثني رجل ، وإذا عرف الرجل بالاسم كناه ، وإذا عرف بالكنية سماه ، قال : هذا تزيين ليس بتدليس .

( أو ) لكونه ( صغيرا ) في السن ، ( أو متأخر الوفاة ) حتى شاركه فيه من هو دونه ، فالأمر فيه سهل .

( أو سمع منه كثيرا ، فامتنع من تكراره على صورة ) واحدة ، إيهاما لكثرة الشيوخ ، أو تفننا في العبارة ، فسهل أيضا ، ( و ) قد ( تسمح الخطيب وغيره ) من الرواة المصنفين ( بهذا ) .

[ ص: 266 ] تنبيه

من أقسام التدليس ما هو عكس هذا ، وهو إعطاء شخص اسم آخر مشهور تشبيها ، ذكره ابن السبكي في جمع الجوامع ، قال : كقولنا أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، يعني الذهبي تشبيها بالبيهقي ، حيث يقول ذلك يعني به الحاكم .

وكذا إيهام اللقى والرحلة ، كحدثنا من وراء النهر ، يوهم أنه جيحون ، ويريد نهر عيسى ببغداد ، أو الجيزة بمصر ، وليس ذلك بجرح قطعا ; لأن ذلك من المعاريض لا من الكذب .

قاله الآمدي في الأحكام ، وابن دقيق العيد في " الاقتراح " .

فائدة

قال الحاكم : أهل الحجاز ، والحرمين ، ومصر ، والعوالي ، وخراسان ، والجبال ، وأصبهان ، وبلاد فارس ، وخوزستان ، وما وراء النهر : لا يعلم أحد من أئمتهم دلسوا .

قال : وأكثر المحدثين تدليسا أهل الكوفة ، ونفر يسير من أهل البصرة .

قال : وأما أهل بغداد فلم يذكر ( ق 80 \ أ ) ، عن أحد من أهلها التدليس ، إلا أبا بكر محمد بن محمد بن سليمان الباغندي الواسطي ، فهو أول من أحدث التدليس بها ، ومن دلس من أهلها إنما تبعه في ذلك .

[ ص: 267 ] وقد أفرد الخطيب كتابا في أسماء المدلسين ثم ابن عساكر .

فائدة

استدل على أن التدليس غير حرام ، بما أخرجه ابن عدي ، عن البراء قال : لم يكن فينا فارس يوم بدر إلا المقداد ، قال ابن عساكر : قوله فينا ; يعني المسلمين ; لأن البراء لم يشهد بدرا .

التالي السابق


الخدمات العلمية