صفحة جزء
[ ص: 308 ] النوع التاسع عشر :

المضطرب هو الذي يروى على أوجه مختلفة متقاربة ، فإن رجحت إحدى الروايتين بحفظ راويها أو كثرة صحبته المروي عنه ، أو غير ذلك : فالحكم للراجحة ، ولا يكون مضطربا . والاضطراب يوجب ضعف الحديث لإشعاره بعدم الضبط ، ويقع في الإسناد تارة ، وفي المتن أخرى ، وفيهما من راو أو جماعة .


[ ص: 308 ] ( النوع التاسع عشر : المضطرب : هو الذي يروى على أوجه مختلفة ) من راو واحد مرتين ، أو أكثر ، أو من راو ثان ، أو رواة ( متقاربة ) .

وعبارة ابن الصلاح ( متساوية ) .

وعبارة ابن جماعة ( متقاومة ) - بالواو والميم - أي ولا مرجح .

( فإن رجحت إحدى الروايتين ) ، أو الروايات ( بحفظ راويها ) مثلا ، ( أو كثرة صحبته المروي عنه ، أو غير ذلك ) من وجوه الترجيحات ، ( فالحكم للراجحة ، ولا يكون ) الحديث ( مضطربا ) ، لا الرواية الراجحة كما هو ظاهر ، ولا المرجوحة ، بل هي شاذة ، أو منكرة كما تقدم .

( والاضطراب يوجب ضعف الحديث ; لإشعاره بعدم الضبط ) من رواته ، الذي هو شرط في الصحة والحسن .

( ويقع ) الاضطراب ( في الإسناد تارة ، وفي المتن أخرى ، و ) يقع ( فيهما ) ، أي الإسناد والمتن معا ، وهذه مزيدة على ابن الصلاح ( من راو ) ، واحد أو راويين ( أو جماعة ) .

[ ص: 309 ] مثاله في الإسناد : ما رواه أبو داود ، وابن ماجه من طريق إسماعيل بن أمية ، عن أبي عمرو بن محمد بن حريث ، عن جده حريث ، عن أبي هريرة ، مرفوعا : " إذا صلى أحدكم ، فليجعل شيئا تلقاء وجهه " الحديث ، وفيه : " فإن لم يجد عصا ينصبها بين يديه ، فليخط خطا " .

اختلف فيه على إسماعيل اختلافا كثيرا : فرواه بشر بن المفضل ، وروح بن القاسم عنه هكذا .

ورواه سفيان الثوري عنه ، عن أبي عمرو بن حريث ، عن أبيه ، عن أبي هريرة .

ورواه حميد بن الأسود عنه ، عن أبي عمرو بن محمد بن عمرو ، عن جده حريث بن سليم ، عن أبي هريرة .

ورواه وهيب بن خالد ، وعبد الوارث ، عنه ، عن أبي عمرو بن حريث ، عن جده حريث .

ورواه ابن جريج عنه ، عن حريث بن عمار ، عن أبي هريرة .

ورواه ذواد بن علبة الحارثي عنه ، عن أبي عمرو بن محمد ، عن جده حريث بن سليمان .

قال أبو زرعة الدمشقي : لا أعلم أحدا بينه وبين نسبه غير ذواد .

ورواه سفيان بن عيينة عنه واختلف فيه على ابن عيينة : [ ص: 310 ] فقال ابن المديني : عن ابن عيينة ، عن إسماعيل ، عن أبي محمد بن عمرو بن حريث ، عن جده حريث رجل من بني عذرة .

ورواه محمد بن سلام البيكندي ، عن ابن عيينة ، مثل رواية بشر بن المفضل ، وروح .

ورواه مسدد ، عن ابن عيينة ، عن إسماعيل ، عن أبي عمرو بن حريث ، عن أبيه ، عن أبي هريرة .

ورواه عمار بن خالد الواسطي ، عن ابن عيينة ، عن إسماعيل ، عن أبي عمرو بن محمد بن عمرو بن حريث ، عن جده حريث بن سليم هكذا .

مثل ابن الصلاح بهذا الحديث لمضطرب الإسناد .

وقال العراقي في النكت : اعترض عليه بأنه ذكر أن الترجيح إذا وجد انتفى الاضطراب ، وقد رواه سفيان الثوري ، وهو أحفظ ممن ذكرهم ، فينبغي أن ترجح روايته على غيرها ، وأيضا فإن الحاكم وغيره صححوا هذا الحديث .

قال : والجواب أن وجوه الترجيح فيه متعارضة ، فسفيان وإن كان أحفظ إلا أنه انفرد بقوله : ( أبي عمرو بن حريث ، عن أبيه ) ، وأكثر الرواة يقولون : عن جده ، وهم بشر ، وروح ، ووهيب ، وعبد الوارث ، وهم من ثقات البصريين ، وأئمتهم ، ووافقهم على ذلك من حفاظ الكوفة ابن عيينة ، وقولهم أرجح للكثرة ، ولأن إسماعيل بن أمية مكي ، وابن عيينة كان مقيما بها ، والأمران مما يرجح به ، وخالف الكل ابن جريج ، وهو مكي ، فتعارضت حينئذ وجوه الترجيح ، وانضم إلى ذلك جهالة راوي الحديث ، وهو شيخ إسماعيل ، فإنه لم يرو عنه غيره مع الاختلاف في اسمه ، [ ص: 311 ] واسم أبيه ، وهل يرويه ، عن أبيه ، أو جده ، أو هو نفسه ، عن أبي هريرة .

وقد حكى أبو داود تضعيف هذا الحديث ، عن ابن عيينة ، فقال عنه : لم نجد شيئا نشد به هذا الحديث ، ولم يجئ إلا من هذا الوجه ، وضعفه أيضا الشافعي ، والبيهقي ، والنووي في الخلاصة . انتهى .

وقال شيخ الإسلام : أتقن هذه الروايات رواية بشر وروح ، وأجمعها رواية حميد بن الأسود ، ومن قال : أبو عمرو بن محمد أرجح ممن قال : أبو محمد بن عمرو ، فإن رواة الأول أكثر ، وقد اضطرب من قال : أبو محمد ; فمرة وافق الأكثرين فتلاشى الخلاف .

قال : ، والتي لا يمكن الجمع بينها رواية من قال : أبو عمرو بن حريث مع رواية من قال : أبو محمد بن عمرو بن حريث ورواية من قال : حريث بن عمار ، وما في الروايات يمكن الجمع بينها ، فرواية من قال : عن جده ، لا تنافي من قال : عن أبيه ; لأن غايته أنه أسقط الأب ، فتبين المراد برواية غيره ، ورواية من قال : عن أبي عمرو بن محمد بن حريث يدخل في الأثناء عمرا لا تنافي من أسقطه ؛ لأنهم يكثرون نسبة الشخص إلى جده المشهور ، ومن قال : سليم يمكن أن يكون اختصره من سليمان كالترخيم .

قال : والحق أن التمثيل لا يليق إلا بحديث لولا الاضطراب لم يضعف ، وهذا الحديث [ ص: 312 ] لا يصلح مثالا ، فإنهم اختلفوا في ذات واحدة ، فإن كان ثقة لم يضر هذا الاختلاف في اسمه أو نسبه ، وقد وجد مثل ذلك في الصحيح ، ولهذا صححه ابن حبان ؛ لأنه عنده ثقة ، ورجح أحد الأقوال في اسمه واسم أبيه ، وإن لم يكن ثقة فالضعف حاصل بغير جهة الاضطراب ، نعم يزداد به ضعفا .

قال : ومثل هذا يدخل في المضطرب لكون رواته اختلفوا ، ولا مرجح ، وهو وارد على قولهم : الاضطراب يوجب الضعف .

قال : والمثال الصحيح حديث أبي بكر ، أنه قال : يا رسول الله أراك شبت ، قال : شيبتني هود وأخواتها .

قال الدارقطني : هذا مضطرب فإنه لم يرو إلا من طريق أبي إسحاق ، وقد اختلف عليه فيه على نحو عشرة أوجه ، فمنهم من رواه مرسلا ، ومنهم من رواه موصولا ، ومنهم من جعله من مسند أبي بكر ، ومنهم من جعله من مسند سعد ، ومنهم من جعله من مسند عائشة وغير ذلك ، ورواته ثقات لا يمكن ترجيح بعضهم على بعض ، والجمع متعذر .

قلت : ومثله حديث مجاهد ، عن الحكم بن سفيان ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في نضح الفرج بعد الوضوء .

[ ص: 313 ] قد اختلف فيه على عشرة أقوال : فقيل : عن مجاهد ، عن الحكم أو ابن الحكم ، عن أبيه ، وقيل : عن مجاهد ، عن الحكم بن سفيان أو ابن أبي سفيان ، عن أبيه ، وقيل : ، عن مجاهد ، عن الحكم غير منسوب ، عن أبيه ، وقيل : عن مجاهد ، عن رجل من ثقيف ، عن أبيه ، وقيل : ، عن مجاهد ، عن سفيان بن الحكم ، أو الحكم بن سفيان ، وقيل : عن مجاهد ، عن الحكم بن سفيان بلا شك ، وقيل : عن مجاهد ، عن رجل من ثقيف ، يقال له الحكم أو أبو الحكم ، وقيل : عن مجاهد ، عن أبي الحكم ، أو أبي الحكم بن سفيان ، وقيل : عن مجاهد ، عن الحكم بن سفيان ، أو ابن أبي سفيان ، وقيل : عن مجاهد ، عن رجل من ثقيف ، عن النبي صلى الله عليه وسلم .

ومثال الاضطراب في المتن : فيما أورده العراقي حديث فاطمة بنت قيس قالت : سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - ، عن الزكاة فقال : إن في المال لحقا سوى الزكاة ; رواه الترمذي هكذا من رواية شريك ، عن أبي حمزة ، عن الشعبي ، عن فاطمة ، ورواه ابن ماجه من هذا الوجه بلفظ : ليس في المال حق سوى الزكاة . قال فهذا اضطراب لا يحتمل التأويل .

قيل : وهذا أيضا لا يصلح مثالا ، فإن شيخ شريك ضعيف ، فهو مردود من قبل ضعف راويه لا من اضطرابه ، وأيضا فيمكن تأويله بأنها روت كلا من اللفظين ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأن المراد بالحق المثبت المستحب ، وبالمنفي الواجب .

والمثال الصحيح ما وقع في حديث الواهبة نفسها من الاختلاف في اللفظة الواقعة منه صلى الله عليه وسلم .

[ ص: 314 ] ففي رواية : زوجتكها ، وفي رواية : زوجناكها ، وفي رواية أمكناكها ، وفي رواية : ملكتكها ; فهذه ألفاظ لا يمكن الاحتجاج بواحد منها ، حتى لو احتج حنفي مثلا على أن التمليك من ألفاظ النكاح لم يسغ له ذلك .

قلت : وفي التمثيل بهذا نظر أوضح من الأول ، فإن الحديث صحيح ثابت ، وتأويل هذه الألفاظ سهل ، فإنها راجعة إلى معنى واحد بخلاف الحديث السابق .

وعندي أن أحسن مثال لذلك : حديث البسملة السابق ، فإن ابن عبد البر أعله بالاضطراب كما تقدم ، والمضطرب يجامع المعلل ; لأنه قد تكون علته ذلك .

تنبيه

وقع في كلام شيخ الإسلام السابق أن الاضطراب قد يجامع الصحة ، وذلك بأن يقع الاختلاف في اسم رجل واحد وأبيه ، ونسبته ، ونحو ذلك ، ويكون ثقة فيحكم للحديث بالصحة ، ولا يضر الاختلاف فيما ذكر مع تسميته مضطربا ، وفي الصحيحين أحاديث كثيرة بهذه المثابة ، وكذا جزم الزركشي بذلك في مختصره ، فقال : وقد يدخل القلب والشذوذ والاضطراب في قسم الصحيح والحسن .

فائدة

صنف شيخ الإسلام في المضطرب كتابا سماه : " المقترب " .

التالي السابق


الخدمات العلمية