صفحة جزء
[ ص: 359 ] الرابعة : يقبل التعديل من غير ذكر سببه على الصحيح المشهور ، ولا يقبل الجرح إلا مبين السبب .

وأما كتب الجرح والتعديل التي لا يذكر فيها سبب الجرح ففائدتها التوقف فيمن جرحوه فإن بحثنا عن حاله وانزاحت عنه الريبة ، وحصلت الثقة به قبلنا حديثه ، كجماعة في الصحيحين بهذه المثابة .


[ ص: 359 ] ( الرابعة : يقبل التعديل من غير ذكر سببه على الصحيح المشهور ) ; لأن أسبابه كثيرة فيثقل ، ويشق ذكرها ; لأن ذلك يحوج المعدل إلى أن يقول : لم يفعل كذا ، لم يرتكب كذا ، فعل كذا وكذا ، فيعدد جميع ما يفسق بفعله أو بتركه ، وذلك شاق جدا .

( ولا يقبل الجرح إلا مبين السبب ) ; لأنه يحصل بأمر واحد ، ولا يشق ذكره ، ولأن الناس مختلفون في أسباب الجرح ، فيطلق أحدهم الجرح بناء على ما اعتقده جرحا ، وليس بجرح في نفس الأمر ، فلا بد من بيان سببه ; لينظر هل هو قدح ، أو لا ؟

قال ابن الصلاح : وهذا ظاهر مقرر في الفقه وأصوله .

وذكر الخطيب أنه مذهب الأئمة من حفاظ الحديث كالشيخين ، وغيرهما .

ولذلك احتج البخاري بجماعة سبق من غيره الجرح لهم ، كعكرمة ، وعمرو بن مرزوق ، واحتج مسلم بسويد بن سعيد وجماعة اشتهر الطعن فيهم ، وهكذا فعل أبو داود ، وذلك دال على أنهم ذهبوا إلى أن الجرح لا يثبت ، إلا إذا فسر سببه ، ويدل على ذلك أيضا أنه ربما استفسر الجارح ، فذكر ما ليس بجرح .

وقد عقد الخطيب لذلك بابا ، روى فيه عن محمد بن جعفر المدائني ، قال : قيل لشعبة : لم تركت حديث فلان ؟ قال : رأيته يركض على برذون فتركت حديثه .

[ ص: 360 ] وروي عن مسلم بن إبراهيم أنه سئل عن حديث صالح المري ، فقال : وما تصنع بصالح ؟ ذكروه يوما عند حماد بن سلمة ، فامتخط حماد .

وروي ، عن وهب بن جرير ، قال : قال شعبة : أتيت منزل المنهال بن عمرو ، فسمعت منه صوت الطنبور فرجعت ، فقيل له : فهلا سألت عنه إذ لا يعلم هو ؟ .

وروينا ، عن شعبة قال : قلت للحكم بن عتيبة : لم لم ترو عن زاذان ؟ قال : كان كثير الكلام ، وأشباه ذلك .

قال الصيرفي : وكذا إذا قالوا : فلان كذاب ; لا بد من بيانه ; لأن الكذب يحتمل الغلط ، كقوله : كذب أبو محمد .

ولما صحح ابن الصلاح هذا القول ، أورد على نفسه سؤالا ، فقال : ولقائل أن يقول : إنما يعتمد الناس في جرح الرواة ورد حديثهم على الكتب التي صنفها أئمة الحديث في الجرح والتعديل ، وقلما يتعرضون فيها لبيان السبب ، بل يقتصرون على مجرد قولهم : فلان ضعيف ، وفلان ليس بشيء ، ونحو ذلك ، وهذا حديث ضعيف ، أو حديث غير ثابت ، ونحو ذلك ، واشتراط بيان السبب يفضي إلى تعطيل ذلك وسد باب الجرح في الأغلب الأكثر .

ثم أجاب عن ذلك بما ذكره المصنف في قوله : ( وأما كتب الجرح والتعديل التي لا يذكر فيها سبب الجرح ) ، فإنا وإن لم نعتمدها في إثبات الجرح والحكم به ( ففائدتها [ ص: 361 ] التوقف فيمن جرحوه ) عن قبول حديثه ، لما أوقع ذلك عندنا من الريبة القوية فيهم ، ( فإن بحثنا عن حاله وانزاحت عنه الريبة ، وحصلت الثقة به ، قبلنا حديثه ، كجماعة في الصحيحين بهذه المثابة ) ، كما تقدمت الإشارة إليه .

ومقابل الصحيح أقوال : أحدها : قبول الجرح غير مفسر ، ولا يقبل التعديل إلا بذكر سببه ; لأن أسباب العدالة يكثر التصنع فيها ، فيبني المعدل على الظاهر ، نقله إمام الحرمين ، والغزالي والرازي في " المحصول " .

الثاني : لا يقبلان إلا مفسرين ، حكاه الخطيب ، والأصوليون ; لأنه كما قد يجرح الجارح بما لا يقدح ، كذلك يوثق المعدل بما لا يقتضي العدالة ، كما روى يعقوب الفسوي في " تاريخه " ، قال : سمعت إنسانا يقول لأحمد بن يونس : عبد الله العمري ضعيف ; قال : إنما يضعفه رافضي مبغض لآبائه ، ولو رأيت لحيته ، وهيئته لعرفت أنه ثقة .

فاستدل على ثقته بما ليس بحجة ; لأن حسن الهيئة يشترك فيه العدل وغيره .

الثالث : لا يجب ذكر السبب في واحد منهما ، إذا كان الجارح والمعدل عالمين [ ص: 362 ] بأسباب الجرح والتعديل ، والخلاف في ذلك بصيرا مرضيا في اعتقاده وأفعاله ، وهذا اختيار القاضي أبي بكر ، ونقله عن الجمهور ، واختاره إمام الحرمين والغزالي والرازي ، والخطيب ، وصححه الحافظ أبو الفضل العراقي والبلقيني في " محاسن الاصطلاح " .

واختار شيخ الإسلام تفصيلا حسنا ، فإن كان من جرح مجملا ، قد وثقه أحد من أئمة هذا الشأن ، لم يقبل الجرح فيه من أحد كائنا من كان إلا مفسرا ; لأنه قد ثبتت له رتبة الثقة ، فلا يزحزح عنها إلا بأمر جلي ، فإن أئمة هذا الشأن لا يوثقون إلا من اعتبروا حاله في دينه ، ثم في حديثه ، وتفقدوه كما ينبغي ، وهم أيقظ الناس ، فلا ينقض حكم أحدهم إلا بأمر صريح ، وإن خلا عن التعديل قبل الجرح فيه غير مفسر إذا صدر من عارف ; لأنه إذا لم يعدل فهو في حيز المجهول ، وإعمال قول المجرح فيه ، أولى من إهماله .

وقال الذهبي . . . [ ص: 363 ] - وهو من أهل الاستقراء التام في نقد الرجال - : لم يجتمع اثنان من علماء هذا الشأن قط على توثيق ضعيف ، ولا على تضعيف ثقة . انتهى .

ولهذا كان مذهب النسائي : أن لا يترك حديث الرجل حتى يجمعوا على تركه .

التالي السابق


الخدمات العلمية