صفحة جزء
[ ص: 363 ] الخامسة : الصحيح أن الجرح والتعديل يثبتان بواحد ، وقيل : لا بد من اثنين .

وإذا اجتمع فيه جرح وتعديل فالجرح مقدم

وقيل : إن زاد المعدلون قدم التعديل ، وإذا قال : حدثني الثقة أو نحوه لم يكتف به على الصحيح ، وقيل : يكتفى ، فإن كان القائل عالما كفى في حق موافقه في المذهب عند بعض المحققين .

وإذا روى العدل عمن سماه لم يكن تعديلا عند الأكثرين ، وهو الصحيح ، وقيل : هو تعديل .

وعمل العالم وفتياه على وفق حديث رواه ، ليس حكما بصحته ولا مخالفته قدح في صحته ولا في رواته .


( الخامسة : الصحيح أن الجرح والتعديل يثبتان بواحد ) ; لأن العدد لم يشترط في قبول الخبر ، فلم يشترط في جرح راويه ، وتعديله ، ولأن التزكية بمنزلة الحكم ، وهو أيضا لا يشترط فيه العدد .

( وقيل : لا بد من اثنين ) كما في الشهادة ، وقد تقدم الفرق .

قال شيخ الإسلام : ولو قيل يفصل بين ما إذا كانت التزكية مسندة من المزكي إلى اجتهاده ، أو إلى النقل عن غيره لكان متجها ; لأنه إذا كان الأول فلا يشترط العدد أصلا لأنه بمنزلة الحكم ، وإن كان الثاني ، فيجري فيه الخلاف ، ويتبين [ ص: 364 ] أيضا أنه لا يشترط العدد ; لأن أصل النقل لا يشترط فيه ، فكذا ما تفرع منه . انتهى .

وليس لهذا التفصيل الذي ذكره فائدة إلا نفي الخلاف في القسم الأول ، وشمل الواحد العبد والمرأة ، وسيذكره المصنف من زوائده .

( وإذا اجتمع فيه ) ، أي الراوي ( جرح ) مفسر ، ( وتعديل ، فالجرح مقدم ) ، ولو زاد عدد المعدل ، هذا هو الأصح عند الفقهاء والأصوليين ، ونقله الخطيب عن جمهور العلماء ; لأن مع الجارح زيادة علم لم يطلع عليها المعدل ; ولأنه مصدق للمعدل فيما أخبر به ، عن ظاهر حاله ، إلا أنه يخبر ، عن أمر باطن خفي عنه .

وقيد الفقهاء ذلك بما إذا لم يقل المعدل عرفت السبب الذي ذكره الجارح ، ولكنه تاب ، وحسنت حاله ، فإنه حينئذ يقدم المعدل قال البلقيني : ويأتي ذلك أيضا هنا إلا في الكذب ، كما سيأتي .

وقيده ابن دقيق العيد : بأن يبني على أمر مجزوم به لا بطريق اجتهادي ، كما اصطلح عليه أهل الحديث في الاعتماد في الجرح على اعتبار حديث الراوي لحديث غيره ، والنظر إلى كثرة الموافقة والمخالفة .

ورد بأن أهل الحديث لم يعتمدوا ذلك في معرفة العدالة والجرح ، بل في معرفة الضبط والتغفل ، واستثنى أيضا ما إذا عين سببا ، فنفاه المعدل بطريق معتبر ، بأن قال : قتل غلاما ظلما يوم كذا ، فقال المعدل : رأيته حيا بعد ذلك ، أو كان القاتل في ذلك الوقت عندي ، فإنهما يتعارضان وتقييد الجرح بكونه [ ص: 365 ] مفسرا جار على ما صححه المصنف ، وغيره ، كما صرح به ابن دقيق العيد وغيره .

( وقيل : إن زاد المعدلون ) في العدد على المجرحين ، ( قدم التعديل ) ; لأن كثرتهم تقوي حالهم ، وتوجب العمل بخبرهم ، وقلة المجرحين تضعف خبرهم .

قال الخطيب : وهذا خطأ وبعد ممن توهمه ; لأن المعدلين ، وإن كثروا لم يخبروا عن عدم ما أخبر به الجارحون ، ولو أخبروا بذلك ، لكانت شهادة باطلة على نفي .

وقيل : يرجح بالأحفظ ، حكاه البلقيني في " محاسن الاصطلاح " .

وقيل : يتعارضان ، فلا يترجح أحدهما إلا بمرجح ، حكاه ابن الحاجب ، وغيره ، عن ابن شعبان من المالكية .

قال العراقي : وكلام الخطيب يقتضي نفي هذا القول ، فإنه قال : اتفق أهل العلم على أن من جرحه الواحد والاثنان وعدله مثل عدد من جرحه ، فإن الجرح به أولى ، ففي هذه الصورة حكاية الإجماع على تقديم الجرح خلاف ما حكاه ابن الحاجب .

( وإذا قال حدثني الثقة أو نحوه ) من غير أن يسميه ، ( لم يكتف به ) في التعديل ( على الصحيح ) ، حتى يسميه ; لأنه وإن كان ثقة عنده ، فربما لو سماه لكان ممن جرحه غيره بجرح قادح ، بل إضرابه عن تسميته ريبة توقع ترددا في القلب .

[ ص: 366 ] بل زاد الخطيب أنه لو صرح بأن كل شيوخه ثقات ، ثم روى عمن لم يسمه ، لم يعمل بتزكيته ، لجواز أن يعرف إذا ذكره بغير العدالة .

( وقيل : يكتفى ) بذلك مطلقا ، كما لو عينه ; لأنه مأمون في الحالتين معا ، ( فإن كان القائل عالما ) ، أي مجتهدا ، كمالك والشافعي ، وكثيرا ما يفعلان ذلك ، ( كفى في حق موافقه في المذهب ) ، لا غيره ( عند بعض المحققين ) .

قال ابن الصباغ : لأنه لا يورد ذلك احتجاجا بالخبر على غيره ، بل يذكر لأصحابه قيام الحجة عنده على الحكم ، وقد عرف هو من روى عنه ذلك .

واختاره إمام الحرمين ، ورجحه الرافعي في شرح المسند ، وفرضه في صدور ذلك من أهل التعديل .

وقيل : لا يكفي أيضا ، حتى يقول : كل من أروي لكم عنه ، ولم أسمه ، فهو عدل .

قال الخطيب : وقد يوجد في بعض من أبهموه الضعف لخفاء حاله ، كرواية مالك ، عن عبد الكريم بن أبي المخارق .

فائدتان

الأولى : لو قال نحو الشافعي : أخبرني من لا أتهم ، فهو كقوله : أخبرني الثقة .

وقال الذهبي : ليس بتوثيق ; لأنه نفي للتهمة ، وليس فيه تعرض لإتقانه ، [ ص: 367 ] ولا لأنه حجة .

قال ابن السبكي : وهذا صحيح ، غير أن هذا إذا وقع من الشافعي على مسألة دينية فهي والتوثيق سواء في أصل الحجة ، وإن كان مدلول اللفظ لا يزيد على ما ذكره الذهبي ، فمن ثم خالفناه في مثل الشافعي ، أما من ليس مثله فالأمر كما قال ، انتهى .

قال الزركشي : والعجب من اقتصاره على نقله ، عن الذهبي مع أن طوائف من فحول أصحابنا صرحوا به ، منهم : الصيرفي ، والماوردي ، والروياني .

الثانية : قال ابن عبد البر : إذا قال مالك : عن الثقة ، عن بكير بن عبد الله الأشج ، فالثقة مخرمة بن بكير .

وإذا قال : عن الثقة ، عن عمرو بن شعيب ، فهو عبد الله بن وهب ، وقيل : الزهري .

وقال النسائي : الذي يقول مالك في كتابه : " الثقة ، عن بكير " يشبه أن يكون عمرو بن الحارث .

وقال غيره : قال ابن وهب : كل ما في كتاب مالك ، أخبرني من لا أتهم من أهل العلم ، فهو الليث بن سعد .

وقال أبو الحسن الأبري : سمعت بعض أهل الحديث ، يقول : إذا قال الشافعي : أخبرنا الثقة ، عن ابن أبي ذؤيب ، فهو ابن أبي فديك .

[ ص: 368 ] وإذا قال : أخبرنا الثقة ، عن الليث بن سعد ، فهو يحيى بن حسان .

وإذا قال : أخبرنا الثقة ، عن الوليد بن كثير ، فهو أبو أسامة .

وإذا قال : أخبرنا الثقة ، عن الأوزاعي ، فهو عمرو بن أبي سلمة .

وإذا قال : أخبرني الثقة ، عن ابن جريج ، فهو مسلم بن خالد .

وإذا قال : أخبرنا الثقة ، عن صالح مولى التوأمة ، فهو إبراهيم بن يحيى ، انتهى .

ونقله غيره ، عن أبي حاتم الرازي .

وقال : ابن حجر في رجال الأربعة : إذا قال مالك : عن الثقة ، عن عمرو بن شعيب فقيل : هو عمرو بن الحارث ، أو ابن لهيعة .

وعن الثقة ، عن بكير بن الأشج قيل : هو مخرمة بن بكير .

وعن الثقة ، عن ابن عمر ، هو نافع ، كما في موطأ ابن القاسم .

وإذا قال الشافعي : ، عن الثقة ، عن ليث بن سعد ، قال الربيع : هو يحيى بن حسان .

وعن الثقة ، عن أسامة بن زيد ، هو إبراهيم بن يحيى .

وعن الثقة ، عن حميد ، هو ابن علية .

وعن الثقة ، عن معمر ، هو مطرف بن مازن .

وعن الثقة ، عن الوليد بن كثير ، هو أبو أسامة .

وعن الثقة ، عن يحيى بن أبي كثير ، لعله ابنه عبد الله بن يحيى .

وعن الثقة ، عن يونس بن عبيد ، عن الحسن ، هو ابن علية .

وعن الثقة ، عن الزهري ، هو سفيان بن عيينة . انتهى .

[ ص: 369 ] وروينا في مسند الشافعي ، عن الأصم قال : سمعت الربيع ، يقول : كان الشافعي إذا قال : أخبرني من لا أتهم يريد به إبراهيم بن يحيى ، وإذا قال : أخبرني الثقة ، يريد به يحيى بن حسان .

وقد روى الشافعي ، قال : أخبرنا الثقة ، عن عبد الله بن الحارث إن لم أكن سمعته من عبد الله بن الحارث ، عن مالك بن أنس ، عن يزيد بن قسيط ، عن سعيد بن المسيب ، أن عمر وعثمان قضيا في الملطاة بنصف دية الموضحة .

قال الحافظ أبو الفضل الفلكي : الرجل الذي لم يسم الشافعي ، هو أحمد بن حنبل .

وفي " تاريخ ابن عساكر " قال عبد الله بن أحمد : كل شيء في كتاب الشافعي ، أخبرنا الثقة ، عن أبي .

وقال شيخ الإسلام : يوجد في كلام الشافعي : أخبرني الثقة ، عن يحيى بن أبي كثير ، والشافعي لم يأخذ عن أحد ممن أدرك يحيى بن أبي كثير ، فيحتمل أنه أراد بسنده ، عن يحيى .

قال : وذكر عبد الله بن أحمد أن الشافعي إذا قال : أخبرنا الثقة ، وذكر أحدا من العراقيين ، فهو يعني أباه .

( وإذا روى العدل عمن سماه ، لم يكن تعديلا عند الأكثرين ) من أهل الحديث وغيرهم ، ( وهو الصحيح ) ، لجواز رواية العدل ، عن غير العدل فلم تتضمن روايته عنه تعديله .

وقد روينا ، عن الشعبي ، أنه قال : حدثنا الحارث ، وأشهد بالله أنه كان كذابا .

[ ص: 370 ] ، وروى الحاكم ، وغيره ، عن أحمد بن حنبل ، أنه رأى يحيى بن معين ، وهو يكتب صحيفة معمر ، عن أبان ، عن أنس ، فإذا اطلع عليه إنسان كتمه ، فقال له أحمد : تكتب صحيفة معمر ، عن أبان ، عن أنس ، وتعلم أنها موضوعة ؟ فلو قال لك قائل : أنت تتكلم في أبان ، ثم تكتب حديثه ، فقال : يا أبا عبد الله أكتب هذه الصحيفة ، فأحفظها كلها ، وأعلم أنها موضوعة ، حتى لا يجيء إنسان فيجعل بدل أبان ثابتا ، ويرويها عن معمر ، عن ثابت ، عن أنس ، فأقول له : كذبت ، إنما هي ، عن معمر ، عن أبان ، لا عن ثابت .

( وقيل : هو تعديل ) ، إذ لو علم فيه جرحا ، لذكره ولو لم يذكره لكان غاشا في الدين .

قال الصيرفي : وهذا خطأ ; لأن الرواية تعريف له ، والعدالة بالخبرة .

وأجاب الخطيب بأنه قد لا يعرف عدالته ولا جرحه .

وقيل : إن كان العدل الذي روى عنه ، لا يروي إلا عن عدل ، كانت روايته تعديلا ، وإلا فلا ، واختاره الأصوليون ، كالآمدي ، وابن الحاجب ، وغيرهما .

( وعمل العالم وفتياه على وفق حديث رواه ليس حكما ) منه ( بصحته ) ، ولا بتعديل رواته ، لإمكان أن يكون ذلك منه احتياطا ، أو لدليل آخر وافق ذلك الخبر .

وصحح الآمدي وغيره من الأصوليين أنه حكم بذلك .

[ ص: 371 ] وقال إمام الحرمين : إن لم يكن في مسالك الاحتياط .

وفرق ابن تيمية بين أن يعمل به في الترغيب وغيره .

( ولا مخالفته ) له ( قدح ) منه ( في صحته ، ولا في رواته ) ، لإمكانه أن يكون ذلك لمانع من معارض أو غيره ، وقد روى مالك حديث الخيار ، ولم يعمل به لعمل أهل المدينة بخلافه ، ولم يكن ذلك قدحا في نافع راويه .

وقال ابن كثير : في القسم الأول نظر ، إذا لم يكن في الباب غير ذلك الحديث ، وتعرض للاحتجاج به في فتياه أو حكمه ، أو استشهد به عند العمل بمقتضاه .

قال العراقي : والجواب : وفي هذا النظر نظر ; لأنه لا يلزم من كون ذلك الباب ليس فيه غير هذا الحديث ، أن لا يكون ثم دليل آخر من قياس ، أو إجماع ، ولا يلزم المفتي أو الحاكم أن يذكر جميع أدلته ، بل ولا بعضها ، ولعل له دليلا آخر ، واستأنس بالحديث الوارد في الباب ، وربما كان يرى العمل بالضعيف وتقديمه على القياس كما تقدم .

تنبيه

مما لا يدل على صحة الحديث أيضا كما ذكره أهل الأصول موافقة الإجماع له [ ص: 371 ] على الأصح ، لجواز أن يكون المستند غيره ، وقيل : يدل وكذلك بقاء خبر تتوفر الدواعي على إبطاله .

وقال الزيدية : يدل وافتراق العلماء بين متأول للحديث ، ومحتج به .

قال ابن السمعاني ، وقوم : يدل ، لتضمنه تلقيهم له بالقبول .

وأجيب باحتمال أنه تأوله على تقدير صحته وفرضا ، لا على ثبوتها عنده .

التالي السابق


الخدمات العلمية