صفحة جزء
[ ص: 390 ] الثامنة : تقبل رواية التائب من الفسق إلا الكذب في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يقبل أبدا وإن حسنت طريقته ، كذا قاله أحمد بن حنبل والحميدي شيخ البخاري والصيرفي الشافعي . قال الصيرفي : كل من أسقطنا خبره بكذب لم نعد لقبوله بتوبة ، ومن ضعفناه لم نقوه بعده بخلاف الشهادة ، وقال السمعاني : من كذب في خبر واحد وجب إسقاط ما تقدم من حديثه ، قلت : هذا كله مخالف لقاعدة مذهبنا ومذهب غيرنا ، ولا نقوي الفرق بينه وبين الشهادة .


( الثامنة تقبل رواية التائب من الفسق ) ومن الكذب في غير الحديث النبوي كشهادته ، للآيات والأحاديث الدالة على ذلك ( إلا الكذب في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تقبل ) رواية التائب منه ( أبدا وإن حسنت طريقته كذا قاله أحمد بن حنبل و ) أبو بكر ( الحميدي شيخ البخاري و ) أبو بكر ( الصيرفي الشافعي ) ، بل ( قال الصيرفي ) زيادة على ذلك في " شرح الرسالة " ( كل من أسقطنا خبره ) من أهل النقل ( بكذب ) وجدناه عليه ( لم نعد لقبوله بتوبة ) تظهر ( ومن ضعفناه لم نقوه بعده بخلاف الشهادة ) .

قال المصنف : ويجوز أن يوجه بأن ذلك جعل تغليظا عليه وزجرا بليغا عن الكذب [ ص: 391 ] عليه صلى الله عليه وسلم ، لعظم مفسدته فإنه يصير شرعا مستمرا إلى يوم القيامة ، بخلاف الكذب على غيره والشهادة ، فإن مفسدتهما قاصرة ليست عامة .

( وقال ) أبو المظفر ( السمعاني : من كذب في خبر واحد وجب إسقاط ما تقدم من حديثه ) .

قال ابن الصلاح : وهذا يضاهي من حيث المعنى ما ذكره الصيرفي .

قال المصنف : ( قلت : هذا كله مخالف لقاعدة مذهبنا ومذهب غيرنا ولا نقوي الفرق بينه وبين الشهادة ) وكذا قال في شرح مسلم : المختار القطع بصحة توبته وقبول روايته كشهادته ، كالكافر إذا أسلم .

وأنا أقول : إن كانت الإشارة في قوله هذا كله لقول أحمد والصيرفي والسمعاني فلا والله ما هو بمخالف ولا بعيد ، والحق ما قاله الإمام أحمد تغليظا وزجرا ، وإن كانت لقول الصيرفي بناء على أن قوله : يكذب ، عام في الكذب في الحديث وغيره .

فقد أجاب عنه العراقي بأن مراد الصيرفي ما قاله أحمد ، أي في الحديث لا مطلقا ، بدليل قوله من أهل النقل ، وتقييده بالمحدث في قوله أيضا في شرح الرسالة ، وليس يطعن على المحدث إلا أن يقول تعمدت الكذب ، فهو كاذب في الأول ولا يقبل خبره بعد ذلك انتهى .

[ ص: 392 ] وقوله ومن ضعفناه أي بالكذب ، فانتظم مع قول أحمد ، وقد وجدت في الفقه فرعين يشهدان لما قاله الصيرفي والسمعاني ، فذكروا في باب اللعان : أن الزاني إذا تاب وحسنت توبته لا يعود محصنا ولا يحد قاذفه بعد ذلك لبقاء ثلمة عرضه ، فهذا نظير أن الكاذب لا يقبل خبره أبدا ، وذكروا أنه لو قذف ثم زنى بعد القذف قبل أن يحد القاذف لم يحد ; لأن الله تعالى أجرى العادة أنه لا يفضح أحدا من أول مرة ، فالظاهر تقدم زناه قبل ذلك ، فلم يحد له القاذف .

وكذلك نقول فيمن تبين كذبه : الظاهر تكرر ذلك منه حتى ظهر لنا ، ولم يتعين لنا ذلك فيما روى من حديثه فوجب إسقاط الكل ، وهذا واضح بلا شك ، ولم أر أحدا تنبه لما حررته ولله الحمد .

فائدة

من الأمور المهمة تحرير الفرق بين الرواية والشهادة ، وقد خاض فيه المتأخرون ، وغاية ما فرقوا به الاختلاف في بعض الأحكام ، كاشتراط العدد وغيره ، وذلك لا يوجب تخالفا في الحقيقة .

قال القرافي : أقمت مدة أطلب الفرق بينهما حتى ظفرت به في كلام المازري ، فقال : الرواية هي الإخبار عن عام لا ترافع فيه إلى الحكام وخلافه الشهادة ، وأما الأحكام التي يفترقان فيها فكثيرة لم أر من تعرض لجميعها ، وأنا أذكر منها ما تيسر .

[ ص: 393 ] الأول : العدد ، لا يشترط في الرواية بخلاف الشهادة ، وقد ذكر ابن عبد السلام في مناسبة ذلك أمورا :

أحدها : أن الغالب من المسلمين مهابة الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلاف شهادة الزور .

الثاني : أنه قد ينفرد بالحديث راو واحد فلو لم يقبل لفات على أهل الإسلام تلك المصلحة ، بخلاف فوت حق واحد على شخص واحد .

الثالث : أن بين كثير من المسلمين عداوات تحملهم على شهادة الزور بخلاف الرواية عنه صلى الله عليه وسلم .

الثاني : لا تشترط الذكورية فيها مطلقا بخلاف الشهادة في بعض المواضع .

الثالث : لا تشترط الحرية فيها بخلاف الشهادة مطلقا .

الرابع : لا يشترط فيها البلوغ في قول .

الخامس : تقبل شهادة المبتدع إلا الخطابية ولو كان داعية ولا تقبل رواية الداعية ولا غيره إن روى موافقه .

السادس : تقبل شهادة التائب من الكذب دون روايته .

السابع : من كذب في حديث واحد رد جميع حديثه السابق ، بخلاف من تبين شهادته للزور في مرة لا ينقض ما شهد به قبل ذلك .

الثامن : لا تقبل شهادة من جرت شهادته إلى نفسه نفعا أو دفعت عنه ضررا ، وتقبل ممن روى ذلك .

التاسع : لا تقبل الشهادة لأصل وفرع ورقيق بخلاف الرواية .

[ ص: 394 ] العاشر والحادي عشر والثاني عشر : الشهادة إنما تصح بدعوى سابقة وطلب لها ، وعند الحاكم بخلاف الرواية في الكل .

الثالث عشر : للعالم الحكم بعلمه في التعديل والتجريح قطعا مطلقا بخلاف الشهادة ، فإن فيها ثلاثة أقوال : أصحها التفصيل بين حدود الله تعالى وغيرها .

الرابع عشر : يثبت الجرح والتعديل في الرواية بواحد دون الشهادة على الأصح .

الخامس عشر : الأصح في الرواية قبول الجرح والتعديل غير مفسر من العالم ولا يقبل الجرح في الشهادة إلا مفسرا .

السادس عشر : يجوز أخذ الأجرة على الرواية بخلاف أداء الشهادة إلا إذا احتاج إلى مركوب .

السابع عشر : الحكم بالشهادة تعديل ، بل قال الغزالي : أقوى منه بالقول بخلاف عمل العالم أو فتياه بموافقة المروي على الأصح .

الثامن عشر : لا تقبل الشهادة على الشهادة إلا عند تعسر الأصل بموت أو غيبة أو نحوها بخلاف الرواية .

التاسع عشر : إذا روى شيئا ثم رجع عنه سقط ولا يعمل به ، بخلاف الرجوع عن الشهادة بعد الحكم .

العشرون : إذا شهدا بموجب قتل ثم رجعا وقالا : تعمدنا ، لزمهما القصاص ، ولو أشكلت حادثة على حاكم فتوقف فروى شخص خبرا عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها وقتل الحاكم به رجلا ثم رجع الراوي وقال : كذبت وتعمدت .

ففي فتاوى البغوي ينبغي أن يجب القصاص ، كالشاهد إذا رجع .

[ ص: 395 ] قال الرافعي : والذي ذكره القفال في الفتاوى والإمام أنه لا قصاص بخلاف الشهادة ، فإنها تتعلق بالحادثة ، والخبر لا يختص بها .

الحادي والعشرون : إذا شهد دون أربعة بالزنا حدوا للقذف في الأظهر ، ولا تقبل شهادتهم قبل التوبة ، وفي قبول روايتهم وجهان ، المشهور منها القبول ، ذكره الماوردي في الحاوي ، ونقله عنه ابن الرفعة في " الكفاية " ، والإسنوي في " الألغاز " .

التالي السابق


الخدمات العلمية