صفحة جزء
[ ص: 395 ] التاسعة : إذا روى حديثا ثم نفاه المسمع ، فالمختار أنه إن كان جازما بنفيه بأن ما رويته ونحوه وجب رده ولا يقدح في باقي روايات الراوي عنه .

فإن قال : لا أعرفه أو لا أذكره أو نحوه لم يقدح فيه . ومن روى حديثا ثم نسيه جاز العمل به على الصحيح ، وهو قول الجمهور من الطوائف خلافا لبعض الحنفية ، ولا يخالف هذا كراهة الشافعي وغيره الرواية عن الأحياء .


( التاسعة : إذا روى ) ثقة عن ثقة ( حديثا ثم نفاه المسمع ) لما روجع فيه ( فالمختار ) عند المتأخرين ( أنه إن كان جازما بنفيه بأن قال ما رويته ) أو كذب علي ( ونحوه وجب رده ) لتعارض قولهما مع أن الجاحد هو الأصل ( و ) لكن ( لا يقدح ) ذلك ( في باقي روايات الراوي عنه ) ولا يثبت به جرحه لأنه أيضا مكذب لشيخه في نفيه لذلك ، وليس قبول جرح كل منهما أولى من الآخر فتساقطا ، فإن عاد الأصل وحدث به أو حدث فرع آخر ثقة عنه ولم يكذبه فهو مقبول ، صرح به القاضي أبو بكر والخطيب وغيرهما ، ومقابل المختار في الأول عدم رد المروي .

واختاره السمعاني وعزاه الشاشي للشافعي ، وحكى الهندي الإجماع عليه ، وجزم الماوردي والروياني بأن ذلك لا يقدح في صحة الحديث إلا أنه لا يجوز للفرع أن يرويه عن الأصل ، فحصل ثلاثة أقوال .

وثم قول رابع : أنهما يتعارضان ويرجح أحدهما بطريقه ، وصار إليه إمام الحرمين .

ومن شواهد القبول ما رواه الشافعي عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن [ ص: 396 ] دينار عن أبي معبد عن ابن عباس قال : كنت أعرف انقضاء صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتكبير .

قال عمرو بن دينار ثم ذكرته لأبي معبد فقال : لم أحدثكه ، قال عمرو : قد حدثتنيه .

قال الشافعي : كأنه نسيه بعد ما حدثه إياه ، والحديث أخرجه الشيخان من حديث ابن عيينة .

( فإن قال ) الأصل ( لا أعرفه أو لا أذكره أو نحوه ) مما يقتضي جواز نسيانه ( لم يقدح فيه ) ولا يرد بذلك .

( ومن روى حديثا ثم نسيه جاز العمل به على الصحيح وهو قول الجمهور من الطوائف ) أهل الحديث والفقه والكلام ( خلافا لبعض الحنفية ) في قولهم بإسقاطه بذلك .

وبنوا عليه رد حديث رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه من رواية ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى باليمين مع الشاهد .

زاد أبو داود في رواية : أن عبد العزيز الدراوردي قال : فذكرت ذلك لسهيل فقال : أخبرني ربيعة وهو عندي ثقة ، أني حدثته إياه ولا أحفظه .

[ ص: 397 ] قال عبد العزيز : وقد كان سهيل أصابته علة أذهبت بعض عقله ونسي بعض حديثه ، فكان سهيل بعد يحدثه عن ربيعة عنه عن أبيه .

ورواه أبو داود أيضا من رواية سليمان بن بلال عن ربيعة ، قال سليمان : فلقيت سهيلا فسألته عن هذا الحديث ، فقال : ما أعرفه ، فقلت له : إن ربيعة أخبرني به عنك . قال : فإن كان ربيعة أخبرك عني فحدث به عن ربيعة عني .

فإن قيل : إن كان الراوي معرضا للسهو والنسيان فالفرع أيضا كذلك فينبغي أن يسقطا .

أجيب بأن الراوي ليس بناف وقوعه بل ذاكر ، والفرع جازم مثبت فقدم عليه .

قال ابن الصلاح : وقد روى كثير من الأكابر أحاديث نسوها بعد ما حدثوا بها ، وكان أحدهم يقول : حدثني فلان عني عن فلان ، بكذا .

وصنف في ذلك الخطيب أخبار من حدث ونسي ، وكذلك الدارقطني ، من ذلك : ما رواه الخطيب من طريق حماد بن سلمة عن عاصم عن أنس قال : حدثني ابناي عني عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يكره أن يجعل فص الخاتم مما سواه ، وروى من طريق بشر بن الوليد ، ثنا محمد بن طلحة حدثني روح أني حدثته بحديث عن زبيدة عن مرة عن عبد الله أنه قال : " إن هذا [ ص: 398 ] الدينار والدرهم أهلكا من كان قبلكم وهما مهلكاكم " .

ومن طريق الترمذي صاحب الجامع : حدثنا محمد بن حميد حدثنا جرير قال : حدثنيه علي بن مجاهد عني وهو عندي ثقة عن ثعلبة عن الزهري قال : إنما كره المنديل بعد الوضوء لأن الوضوء يوزن .

ومن طريق إبراهيم بن بشار ، ثنا سفيان بن عيينة حدثني وكيع أني حدثته عن عمرو بن دينار عن عكرمة ، ( من صياصيهم ) ، قال : من حصونهم .

( ولا يخالف هذا كراهية الشافعي وغيره ) كشعبة ومعمر ( الرواية عن الأحياء ) لأنهم إنما كرهوا ذلك لأن الإنسان معرض للنسيان فيبادر إلى جحود ما روي عنه وتكذيب الراوي له .

وقيل : إنما كره ذلك لاحتمال أن يتغير الراوي عن الثقة والعدالة بطارئ يطرأ عليه يقتضي رد حديثه المتقدم .

قال العراقي : وهذا حدس وظن غير موافق لما أراده الشافعي ، وقد بين [ ص: 399 ] الشافعي مراده بذلك كما رواه البيهقي في " المدخل " بإسناده إليه أنه قال : لا تحدث عن حي فإن الحي لا يؤمن عليه النسيان ، قاله لابن عبد الحكم حين روى عن الشافعي حكاية فأنكرها ثم ذكرها .

التالي السابق


الخدمات العلمية