صفحة جزء
[ ص: 492 ] النوع الخامس والعشرون :

كتابة الحديث وضبطه ، وفيه مسائل :

إحداها : اختلف السلف في كتابة الحديث ، فكرهها طائفة وأباحها طائفة ثم أجمعوا على جوازها ، وجاء في الإباحة والنهي حديثان ، فالإذن لمن خيف نسيانه ، والنهي لمن أمن وخيف اتكاله ، أو نهى حين خيف اختلاطه بالقرآن وأذن حين أمن .

ثم على كاتبه صرف الهمة إلى ضبطه وتحقيقـه شكلا ونقطا يؤمن اللبس ، ثم قيل : إنما يشكل المشكل ، ونقل عن أهل العلم كراهة الإعجام والإعراب إلا في الملتبس ، وقيل : يشكل الجميع .


( النوع الخامس والعشرون : كتابة الحديث ، وضبطه ، وفيه مسائل :

إحداها : اختلف السلف ) من الصحابة والتابعين ( في كتابة الحديث ، فكرهها طائفة ) منهم : ابن عمر وابن مسعود وزيد بن ثابت وأبو موسى وأبو سعيد الخدري وأبو هريرة وابن عباس وآخرون .

( وأباحها طائفة ) وفعلوها منهم : عمر وعلي وابنه الحسن وابن عمرو وأنس وجابر وابن عباس وابن عمر أيضا ، والحسن وعطاء وسعيد بن جبير وعمر بن عبد العزيز .

[ ص: 493 ] وحكاه عياض عن أكثر الصحابة والتابعين منهم : أبو قلابة وأبو المليح ، ومن ملح قوله فيه : يعيبون علينا أن نكتب العلم وندونه ، وقد قال الله عز وجل : ( علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى ) .

قال البلقيني : وفي المسألة مذهب ثالث حكاه الرامهرمزي وهو : الكتابة والمحو بعد الحفظ .

( ثم أجمعوا ) بعد ذلك ( على جوازها ) وزال الخلاف .

قال ابن الصلاح : ولولا تدوينه في الكتب لدرس في الأعصر الأخيرة ( وجاء في الإباحة والنهي حديثان ) ، فحديث النهي : ما رواه مسلم عن . أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا تكتبوا عني شيئا إلا القرآن ومن كتب عني شيئا غير القرآن فليمحه " . وحديث الإباحة قوله صلى الله عليه وسلم : " اكتبوا لأبي شاه " متفق عليه .

وروى أبو داود والحاكم وغيرهما عن ابن عمرو قال : قلت يا رسول الله ، [ ص: 494 ] إني أسمع منك الشيء فأكتبه . قال : نعم . قال : في الغضب والرضا ؟ قال : نعم ، فإني لا أقول فيهما إلا حقا .

قال أبو هريرة : ليس أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أكثر حديثا عنه مني ، إلا ما كان من عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب ولا أكتب . رواه البخاري .

وروى الترمذي عن أبي هريرة قال : كان رجل من الأنصار يجلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسمع منه الحديث فيعجبه ولا يحفظه ، فشكا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " استعن بيمينك " وأومأ بيده إلى الخط .

وأسند الرامهرمزي عن رافع بن خديج قال : قلت يا رسول الله ، إنا نسمع منك أشياء أفنكتبها ؟ قال : " اكتبوا ذلك ولا حرج " .

وروى الحاكم وغيره من حديث أنس وغيره موقوفا : " قيدوا العلم بالكتاب " .

وأسند الديلمي عن علي مرفوعا : " إذا كتبتم الحديث فاكتبوه بسنده " ، وفي الباب أحاديث غير ذلك .

وقد اختلف في الجمع بينها وبين حديث أبي سعيد السابق كما أشار إليه المصنف بقوله : ( فالإذن لمن خيف نسيانه والنهي لمن أمن ) النسيان ووثق بحفظه ( وخيف اتكاله ) على الخط إذا كتب فيكون النهي مخصوصا .

[ ص: 495 ] وقد أسند ابن الصلاح هنا عن الأوزاعي أنه كان يقول : كان هذا العلم كريما يتلقاه الرجال بينهم ، فلما دخل في الكتب دخل فيه غير أهله .

( أو نهى ) عنه ( حين خيف اختلاطه بالقرآن ، وأذن ) فيه ( حين أمن ) ذلك فيكون النهي منسوخا ، وقيل : المراد النهي عن كتابة الحديث مع القرآن في صحيفة واحدة ; لأنهم كانوا يسمعون تأويل الآية فربما كتبوه معها ، فنهوا عن ذلك لخوف الاشتباه .

وقيل : النهي خاص بوقت نزول القرآن خشية التباسه ، والأذن في غيره . ومنهم من أعل حديث أبي سعيد ، وقال : الصواب وقفه عليه ، قاله البخاري وغيره .

وقد روى البيهقي في " المدخل " عن عروة بن الزبير أن عمر بن الخطاب أراد أن يكتب السنن ، فاستشار في ذلك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فأشاروا عليه أن يكتبها . فطفق عمر يستخير الله فيها شهرا ، ثم أصبح يوما وقد عزم الله له . فقال إني كنت أردت أن أكتب السنن وإني ذكرت قوما كانوا قبلكم ، كتبوا كتبا فأكبوا عليها وتركوا كتاب الله ، وإني والله لا ألبس كتاب الله بشيء أبدا .

( ثم على كاتبه صرف الهمة إلى ضبطه وتحقيقه شكلا ونقطا يؤمن ) معهما ( اللبس ) ليؤديه كما سمعه .

[ ص: 496 ] قال الأوزاعي : " نور الكتاب إعجامه " .

قال الرامهرمزي : أي نقطه أن يبين التاء من الياء والحاء من الخاء ، قال : والشكل تقييد الإعراب .

وقال ابن الصلاح : إعجام المكتوب يمنع من استعجامه ، وشكله يمنع من إشكاله . قال : وكثيرا ما يعتمد الواثق على ذهنه ، وذلك وخيم العاقبة ، فإن الإنسان معرض للنسيان انتهى .

وقد قيل : إن النصارى كفروا بلفظة أخطأوا في إعجامها وشكلها ، قال الله في الإنجيل لعيسى : أنت نبيي ولدتك من البتول . فصحفوها وقالوا : أنت بنيي ولدتك - مخففا .

وقيل : أول فتنة وقعت في الإسلام سببها ذلك أيضا ، وهي فتنة عثمان رضي الله عنه ، فإنه كتب للذي أرسله أميرا إلى مصر ، إذا جاءكم فاقبلوه ; فصحفوها فاقتلوه ; فجرى ما جرى .

وكتب بعض الخلفاء إلى عامل له ببلد أن أحص المخنثين . أي بالعدد ، فصحفها بالمعجمة فخصاهم .

( ثم قيل : إنما يشكل المشكل ونقل عن أهل العلم كراهية الإعجام ) أي [ ص: 497 ] النقط ( والإعراب ) أي الشكل ( إلا في الملتبس ) إذ لا حاجة إليهما في غيره .

( وقيل : يشكل الجميع ) قال القاضي عياض : وهو الصواب لا سيما للمبتدي وغير المتبحر في العلم ; فإنه لا يميز ما يشكل مما لا يشكل . ولا صواب وجه إعراب الكلمة من خطئه .

قال العراقي : وربما ظن أن الشيء غير مشكل لوضوحه . وهو في الحقيقة محل نظر محتاج إلى الضبط .

وقد وقع بين العلماء خلاف في مسائل مرتبة على إعراب الحديث . كحديث " ذكاة الجنين ذكاة أمه " ، فاستدل به الجمهور على أنه لا تجب ذكاة الجنين . بناء على رفع ذكاة أمه ، ورجح الحنفية الفتح على التشبيه أي يذكي مثل ذكاة أمه .

التالي السابق


الخدمات العلمية