صفحة جزء
[ ص: 532 ] الرابع : إن لم يكن عالما بالألفاظ ومقاصدها ، خبيرا بما يحيل معانيها لم تجز له الرواية بالمعنى بلا خلاف ، بل يتعين اللفظ الذي سمعه ، فإن كان عالما بذلك فقالت طائفة من أصحاب الحديث والفقه والأصول ، لا تجوز إلا بلفظه ، وجوز بعضهـم في غير حديث النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يجوز فيه ، وقال جمهور السلف والخلف من الطوائف : يجوز بالمعنى في جميعه إذا قطع بأداء المعنى .

وهذا في غير المصنفات ، ولا يجوز تغيير مصنف وإن كان بمعناه . وينبغي للراوي بالمعنى أن يقول عقيبه : أو كما قال أو نحوه ، أو شبهه ، أو ما أشبه هذا من الألفاظ .

وإذا اشتبهت على القارئ لفظة فحسن أن يقول بعد قراءتها على الشك أو كما قال لتضمنه إجازة وإذنا في صوابها إذا بان .


( الرابع : إن لم يكن الراوي عالما بالألفاظ ) ومدلولاتها ( ومقاصدها خبيرا بما يحيل معانيها ) بصيرا بمقادير التفاوت بينهما ، ( لم تجز له الرواية ) لما سمعه ( بالمعنى [ ص: 533 ] بلا خلاف ، بل يتعين اللفظ الذي سمعه فإن كان عالما بذلك ، فقالت طائفة من أصحاب الحديث والفقه والأصول : لا يجوز إلا بلفظه ) ، وإليه ذهب ابن سيرين وثعلب وأبو بكر الرازي من الحنفية ، وروي عن ابن عمر .

( وجوز بعضهم في غير حديث النبي صلى الله عليه وسلم ولم يجوز فيه ، وقال جمهور السلف والخلف من الطوائف ) منهم الأئمة الأربعة : ( يجوز بالمعنى في جميعه إذا قطع بأداء المعنى ) ; لأن ذلك هو الذي تشهد به أحوال الصحابة والسلف ، ويدل عليه روايتهم القصة الواحدة بألفاظ مختلفة .

وقد ورد في المسألة حديث مرفوع رواه ابن منده في معرفة الصحابة والطبراني في الكبير من حديث

[ يعقوب بن ] عبد الله بن سليمان بن أكيمة الليثي

[ عن أبيه ، [ ص: 534 ] عن جده ] ، قال : قلت يا رسول الله إني أسمع منك الحديث لا أستطيع أن أؤديه كما أسمع منك ، أزيد حرفا أو أنقص حرفا ، فقال : إذا لم تحلوا حراما ولم تحرموا حلالا وأصبتم المعنى فلا بأس ، فذكر ذلك للحسن فقال : لولا هذا ما حدثنا .

واستدل لذلك الشافعي بحديث : " أنزل القرآن ، على سبعة أحرف ، فاقرأوا ما تيسر منه " ، قال : وإذا كان الله برأفته بخلقه أنزل كتابه على سبعة أحرف علمنا منه بأن الكتاب قد نزل لتحل لهم قراءته وإن اختلف لفظهم فيه ما لم يكن في اختلافهم إحالة معنى ، كان ما سوى كتاب الله سبحانه أولى أن يجوز فيه اختلاف اللفظ ، ما لم يخل معناه .

وروى البيهقي عن مكحول قال : دخلت أنا وأبو الأزهر ، على واثلة بن الأسقع فقلنا له : يا أبا الأسقع حدثنا بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس فيه وهم ولا مزيد ولا نسيان ، فقال : هل قرأ أحد منكم من القرآن شيئا ؟ فقلنا : نعم ، وما نحن له بحافظين جدا ، إنا لنزيد الواو والألف وننقص ، قال : [ ص: 535 ] فهذا القرآن مكتوب بين أظهركم لا تألونه حفظا ، وأنتم تزعمون أنكم تزيدون وتنقصون ، فكيف بأحاديث سمعناها من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عسى أن لا نكون سمعناها منه إلا مرة واحدة ، حسبكم إذا حدثناكم بالحديث على المعنى .

وأسند أيضا في " المدخل " عن جابر بن عبد الله قال : قال حذيفة : إنا قوم عرب نردد الأحاديث فنقدم ونؤخر .

وأسند أيضا عن شعيب بن الحبحاب قال : دخلت أنا وعبدان على الحسن فقلنا : يا أبا سعيد ، الرجل يحدث بالحديث فيزيد فيه أو ينقص منه ، قال : إنما الكذب على من تعمد ذلك .

وأسند أيضا عن جرير بن حازم قال : سمعت الحسن يحدث بأحاديث ، الأصل واحد والكلام مختلف .

وأسند عن ابن عون قال : كان الحسن وإبراهيم والشعبي يأتون بالحديث على المعاني ، وكان القاسم بن محمد وابن سيرين ورجاء بن حيوة يعيدون الحديث على حروفه .

وأسند عن أبي أويس قال : سألنا الزهري عن التقديم والتأخير في الحديث فقال : [ ص: 536 ] إن هذا يجوز في القرآن ، فكيف به في الحديث ؟ إذا أصبت معنى الحديث فلم تحل به حراما ولم تحرم به حلالا فلا بأس .

وأسند عن سفيان قال : كان عمرو بن دينار يحدث بالحديث على المعنى ، وكان إبراهيم بن ميسرة لا يحدث إلا على ما سمع ، وأسند عن وكيع قال : إن لم يكن المعنى واسعا فقد هلك الناس .

قال شيخ الإسلام : ومن أقوى حججهم الإجماع على جواز شرح الشريعة للعجم بلسانها للعارف به ، فإذا جاز الإبدال بلغة أخرى ، فجوازه باللغة العربية أولى .

وقيل : إنما يجوز ذلك للصحابة دون غيرهم ، وبه جزم ابن العربي في أحكام القرآن ، قال : لأنا لو جوزناه لكل أحد لما كنا على ثقة من الأخذ بالحديث ، والصحابة اجتمع فيهم أمران : الفصاحة والبلاغة جبلة ، ومشاهدة أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله ، فأفادتهم المشاهدة عقل المعنى جملة واستيفاء المقصود كله .

وقيل : يمنع ذلك في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويجوز في غيره ، حكاه ابن الصلاح ، ورواه البيهقي في " المدخل " عن مالك ، وروي عنه أيضا أنه كان يتحفظ من الباء والياء والثاء ، في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، [ ص: 537 ] وروي عن الخليل بن أحمد أنه قال ذلك أيضا .

واستدل له بقوله : " رب مبلغ أوعى من سامع " فإذا رواه بالمعنى فقد أزال عن موضعه معرفة ما فيه .

وقال الماوردي : إن نسي اللفظ جاز ، لأنه تحمل اللفظ والمعنى ، وعجز عن أداء أحدهما فيلزمه أداء الآخر ، لا سيما أن تركه قد يكون كتما للأحكام ، فإن لم ينسه لم يجز أن يورده بغيره ; لأن في كلامه صلى الله عليه وسلم من الفصاحة ما ليس في غيره ، وقيل عكسه ، وهو الجواز لمن يحفظ اللفظ ليتمكن من التصرف فيه دون من نسيه ، وقال الخطيب : يجوز بإزاء مرادف .

قيل : إن كان موجبه علما جاز لأن المعول على معناه ، ولا تجب مراعاة اللفظ ، وإن كان عملا لم يجز .

وقال القاضي عياض : ينبغي سد باب الرواية بالمعنى ، لئلا يتسلط من لا يحسن ممن يظن أنه يحسن ، كما وقع للرواة كثيرا قديما وحديثا ، وعلى الجواز ، الأولى إيراد الحديث بلفظه دون التصرف فيه ، ولا شك في اشتراط أن لا يكون مما تعبد بلفظه .

قد صرح به هنا الزركشي ، وإليه يرشد كلام العراقي الآتي في إبدال الرسول بالنبي وعكسه ، وعندي أنه يشترط أن لا يكون من جوامع الكلم .

[ ص: 538 ] ( وهذا ) الخلاف إنما يجري ( في غير المصنفات ، ولا يجوز تغيير ) شيء من ( مصنف ) وإبداله بلفظ آخر ( وإن كان بمعناه ) قطعا لأن الرواية بالمعنى رخص فيها من رخص ، لما كان عليهم في ضبط الألفاظ من الحرج ، وذلك غير موجود فيما اشتملت عليه الكتب ; ولأنه إن ملك تغيير اللفظ فليس يملك تغيير تصنيف غيره .

( وينبغي للراوي بالمعنى أن يقول عقيبه : أو كما قال ، أو نحوه ، أو شبهه ، أو ما أشبه هذا من الألفاظ ) وقد كان قوم من الصحابة يفعلون ذلك ، وهم أعلم الناس بمعاني الكلام خوفا من الزلل لمعرفتهم بما في الرواية بالمعنى من الخطر .

روى ابن ماجه وأحمد والحاكم عن ابن مسعود أنه قال يوما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاغرورقت عيناه وانتفخت أوداجه ، ثم قال : أو مثله أو نحوه أو شبيه به .

وفي مسند الدارمي والكفاية للخطيب عن أبي الدرداء : أنه كان إذا حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أو نحوه أو شبهه .

وروى ابن ماجه وأحمد عن أنس بن مالك : أنه كان إذا حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ففرغ ، قال : أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم .

[ ص: 539 ] ( وإذا اشتبهت على القارئ لفظة فحسن أن يقول بعد قراءتها على الشك أو كما قال لتضمنه إجازة ) من الشيخ ، ( وإذنا في ) رواية ( صوابها ) عنه ( إذا بان ) .

قال ابن الصلاح : ثم لا يشترط إفراد ذلك في الإجازة كما تقدم قريبا .

التالي السابق


الخدمات العلمية